الرئيسة \  واحة اللقاء  \  المحافظون الجدد و "داعش"

المحافظون الجدد و "داعش"

20.09.2014
رغيد الصلح



الحياة
الخميس 18-9-2014
مثل ما دعا المحافظون الجدد الحكومة الأميركية إلى تطبيق الحرب الاستباقية لحماية الولايات المتحدة من العدوان، فانهم يطبقون هم هذه السياسة لحماية أنفسهم من الذين يحملونهم مسؤولية حرب العراق ونتائجها التي وصلت إلى ظهور داعش واستفحال أمرها في المشرق العربي، فمن بديهيات تلك الحرب أن دورهم كان حاسماً في وقوعها، وأنه كان لهم الأثر الأكبر في حل الجيش العراقي، وبالتالي في فتح باب العراق أمام شتى أنواع الإرهاب. ومن يرجع إلى وقائع الحرب ومقدماتها يجد أنهم سعوا إلى لجم وتعطيل كل مناقشة جادة لأوضاع العراق والمنطقة بعد الحرب، واعتبروا هذا الجهد شكلاً من أشكال عرقلة الحرب، وسفهوا الآراء التي دعت إلى الإعداد الجيد لها بما في ذلك ضمان إرسال عدد كاف من القوات البرية يفوق ثلاثة أضعاف القوات التي شاركت في الحملة العراقية.
من يتذكر اليوم، من الأميركيين، هذه الوقائع ويبني عليها موقفاً تجاه المحافظين الجدد وتجاه ما يمثلونه من مصالح اقتصادية وخلفيات عقائدية ومشاريع سياسية، فإنه سوف يتحول إلى خصم لهم وناقد مر لمواقفهم وتأثيرهم على الحياة العامة الأميركية. لذلك كان لا بد أن يبادر هؤلاء إلى إبقاء باب التنصل منها مفتوحاً، وأن يعودوا إلى ولوجه مؤخراً، خاصة في لحظة الصعود الدراماتيكي لتنظيم داعش على مسرح الأحداث العربية، فهنا يبرز وجه آخر للأخطاء والسقوط الذي رافق الحرب على العراق في مراحلها المختلفة، خاصة عندما قررت سلطة الاحتلال حل الجيش العراقي وخلق الفراغ الأمني الذي أفاد منه داعش والتنظيمات الإرهابية المشابهة كافة.
وبغرض التنصل من هذه الأخطاء وإلقاء مسؤوليتها على الغير، ورغبة في إعادة إنتاج الدور الذي لعبه المحافظون الجدد والغلاة من أنصار إسرائيل ومؤيديها في الولايات المتحدة بصورة جديدة ومقبولة، أدلى ريتشارد بيرل، أبرز منظري واستراتيجيي المحافظين الجدد، بحديث صحفي إلى دورية بروسبيكت الإنجليزية (آب/ أغسطس 2014) وجه فيه نقداً شديداً إلى الإدارة الأميركية، بل وإلى دول الغرب بصورة عامة، إذ يحملها مسؤولية صعود داعش والظواهر المشابهة.
يرى بيرل أن الخطأ الرئيسي الذي يرتكبه الغرب في تعامله مع المنطقة هي المبالغة في تعليق الأهمية على الوحدة الترابية للدولة العربية. ومما يزيد في فداحة هذا الموقف، وفق رأيه، أنه يتبلور في وقت تجتاح فيه المنطقة الحركات الانفصالية كما تجتاح السيول والأعاصير الأراضي المفتوحة.
الآن تكرر الولايات المتحدة هذا الخطأ إذ تحاول إنقاذ الدولة العراقية من التفكك. في هذا السياق، يرتدي أمير الظلام، كما يدعون بيرل في واشنطن، ثياب المدافعين عن دعاة ابتعاد "الأطراف عن المركز" ودعاة تكريس استقلال الأقاليم عن العاصمة دون وضع سقف محدد لهذا الاستقلال. وفي هذا السياق، يقول إن الموفدين الأميركيين إلى بغداد كانوا يتوسلون إلى الزعماء الأكراد بالموافقة على وضع "البيشمركة" تحت إمرة القيادة العراقية وكجزء من الجيش العراقي في حربه ضد داعش، إلا أنه نصح الزعماء الأكراد خلال زيارته الأخيرة لأربيل ألا يرتكبوا "حماقة كبرى" لو وافقوا على النصيحة الأميركية. ينسجم بيرل مع نفسه ومع نظرة المحافظين الجدد إلى العراق وإلى الدولة العربية عندما يقول إن تأييده لمطالب زعماء العشائر السنية لا يقل عن تأييده التطلعات الكردية في الشمال.
يسعى بيرل وأقرانه من المحافظين الجدد اليوم إلى تعميم هذه النظرات وإلى إقناع أصحاب القرار في واشنطن وإلى الجسم السياسي فيها، بأن المبادئ التي تحكم السياسة الأميركية تجاه المناطق الأخرى في العالم لا تصلح بالضرورة لأن تكون أساساً لتعاطيها مع المنطقة العربية. لماذا؟ لأن "الشرق الأوسط هو جزء من منطقتنا". لا يقدم بيرل تفسيراً واضحاً لهذه الصلة المفترضة بين الشرق الأوسط وبين "المنطقة". لعلها تسمح لمواطني دول الشرق الأوسط المساهمة في الانتخابات الأميركية المقبلة، ولكن من المستبعد أن يذهب بيرل إلى هذا الحد في حماسه للصلات الخاصة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط ! الأرجح أن المحافظين الجدد يعتبرون أن علاقة واشنطن مع الشرق الأوسط هي مهمة بمقدار أهمية العلاقات الأميركية- الإسرائيلية. هذه العلاقة تضفي على التدخل الأميركي في قضايا المنطقة مشروعية خاصة وتسمح لها بأن تعمل على بناء شرق أوسط جديد مكون من دول صغيرة الحجم محدودة الإمكانات متواضعة التطلعات والأهداف سهلة الاختراق. هذه الشروط المرجعية تنطبق على الدول العربية ولكن ليس على إسرائيل. ففيما تقضي هذه الشروط بإعطاء مكونات المجتمعات العربية الحق في الاستقلال الذاتي أو الاستقلال الناجز عن الدول العربية مثل العراق وسوريا والسودان وغيرها من الدول والمجتمعات ذات الطابع التعددي إذا تطلب الأمر، فإنه لا توجد شروط مقابلة على إسرائيل. لقد تراجع النفوذ المعنوي والفكري للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة اليوم عما كان عليه خلال رئاسة جورج بوش وقبل غزو العراق. وابتعد عنهم الكثيرون من الناشطين والمفكرين الذين كانوا يعتقدون أن جورج بوش والمحافظين الجدد كانوا يرغبون حقاً في بناء الديموقراطية في العراق، فإذا بهم يكتشفون أنهم لم يكونوا في هذا الوارد. كما انفض عنهم البعض من الأميركيين عندما اكتشفوا حقائق الحرب العراقية، وعندما وضعت الولاءات الحقيقية لهؤلاء على المحك. لكن الذاكرة قد تخون الرأي العام في كثير من الأحيان، خاصة في غياب من ينبه إلى خطورة تكرار الأخطاء وإعطاء الفرص المتكررة لمن لا يستحقها. وحتى لو نهض من يقوم بهذه المهمة، فإن الأضرار التي سببها المحافظون الجدد للعرب وللولايات المتحدة مرشحة للتكرار.