الرئيسة \  واحة اللقاء  \  التاريخ والاستراتيجية في حرب "داعش" !؟

التاريخ والاستراتيجية في حرب "داعش" !؟

30.10.2014
عبدالمنعم سعيد



الشرق الاوسط
الاربعاء 29-10-2014
التاريخ موضوع يقع خارج التأثير المباشر للبشر، فهو محصلة كم هائل من المتغيرات التي قد تحدث في البيئة المادية للإنسان أو تحدث في بيئته الفكرية والعقلية، فنحن نعرف أن مسيرة البشر تغيرت بعد عصور للجفاف، وعندما غيرت براكين من المناطق التي تتواجد فيها، وعندما حفرت أنهار مثل النيل والمسيسبي والراين وغيرها مجراها. كما نعرف أن أفكارا حول علاقات الناس ببعضهم البعض، وأخرى حول علاقتهم بالحاكم، وأديان، ومقولات، وكتب مفكرين أعطت الحياة أحيانا ثباتا حتى الركود الكامل، كما جرى في العصور الوسطي، وأحيانا أخرى فجرت كل شيء فكانت الثورات والحروب.
تطورات العلوم والتكنولوجيا هي الأخرى، لعبت دورها لكي نصل في النهاية إلى مرحلة جديدة من الزمان. الاستراتيجية مسألة أخرى، سمها هندسة تاريخية إذا شئت، وهي ليست مشغولة بالحقب والأزمان، وإنما بحقائق مباشرة كلها تحديات تحفز الإنسان على المواجهة بأن يحدد ما يريد تغييره ويحوله إلى أهداف يحشد لها الموارد المادية والمعنوية من أجل تنفيذها؛ حيث يكون فشله أو نجاحه نقطة ما على المسار التاريخي الكبير.
حرب "داعش" تجسيد لهذه العلاقة بين التاريخ والاستراتيجية منذ انهيار الخلافة العثمانية عمليا ودخول العرب العصر الحديث مع مطلع القرن التاسع عشر حتى الآن، هي تجسيد لتناقض تاريخي لا يزال مستعصيا على الحل، وربما تكون المعركة الراهنة نقطة تحول "تاريخي"، وربما لن تزيد عن كونها جولة من الجولات على منحنى من الأحداث لا يزال هناك زمن طويل حتى يكون التحول. تغيرنا كثيرا منذ نقطة البداية على الأقل؛ من حيث عدد السكان، وانتشار المدن، والصناعة، والاتصال بالعالم أو بالحداثة، ولكن وجود "داعش"، ومن قبلها "القاعدة"، ومن قبلهما "الجماعات الإسلامية"، و"الجهاد"، وعشرات الأسماء المشابهة، يدل على أن قوى فكرية ومادية، لا تزال مصرة على أن تأخذنا إلى نقطة البداية. وبشكل ما، فإن كل بلد عربي كان لديه هذه الحالة من المواجهة التي كانت في مصر بين أحمد لطفي السيد وسيد قطب، وهي مواجهة لم تصل بعد إلى نهايتها "التاريخية".
المهم هو أن المعركة الراهنة ليست ذات جانب استراتيجي فقط بين طرفين، وإنما هي جزء من حرب تاريخية لا يزال سعيرها قائما بيننا في أشكال متعددة، ولكن وظيفتنا حاليا - المفكرين، والقادة، والشعوب - أن نكسب المعركة الحالية التي يراها بعضنا كسرا ل"داعش" ونهاية لما حققته من مكاسب، ويراه بعضنا الآخر كسرا لتيار ممتد في الشرق الأوسط كله، مثل "الهيدرا" في الميثولوجيا اليونانية التي كلما قطع لها رأس ظهر لها عدة رؤوس.
المعركة لها جانبها العسكري الذي لا شك فيه، وربما تظهر فيه "كوباني - عين العرب" بقوة، ولكن الحقيقة أن هناك مسارح أخرى تجري فيها المواجهة بالدرجة نفسها من القسوة. الجانب السياسي الآخر كان فيه تشكيل التحالفات الدولية الضرورية لكسب هذه المعركة التي قادتها الولايات المتحدة والسعودية، ولكن ذلك ليس كل السياسة في الموضوع، فهناك 3 مسارح للصدام تحتاج جهدا أكبر من التفكير، كما تحتاج تخطيطا استراتيجيا أكثر من مجرد لقاءات "الأجهزة السيادية" للتعامل مع موضوعات آنية.
المسرح الأول هو العراق الذي كان سقوطه، سواء كان بسبب صدام حسين أو جورج بوش، مؤديا إلى فراغ استراتيجي كبير لا يمكن ملؤه إلا بأن يقف العراق على أقدامه مرة أخرى. لقد أدت محنة سقوط "الموصل" إلى بعض النتائج الإيجابية؛ كان أولها قبول المالكي للرحيل، وكان ثانيها ما تلا ذلك من انتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وجاء ثالثها أخيرا عندما تم اختيار وزيري الداخلية والدفاع. ولكن المسألة ليست اكتمال المؤسسات شكليا، وإنما النتيجة الموضوعية هي أن الشيعة والسنة والأكراد سوف يكونون لقمة سائغة لوحوش متعددة الأغراض ما لم يصلوا إلى توافق تاريخي. سوف نترك مؤقتا كيف يتم قيام كل طائفة بدورها في المعركة المقبلة، وإنما الأهم هو كيف ستعيش الطوائف الثلاث في بلد واحد فيه من التماسك الداخلي ما يكفي لكي لا يكون مطمعا. هذه عملية تحتاج وسائل أخرى للوصول إليها، فيها الكثير من العلاج النفسي، كما أن فيها ما هو أكثر من ابتكار الحلول.
المسرح الثاني في سوريا؛ حيث اختلطت الأوراق كما لم تختلط في التاريخ السوري المضطرب حتى بات حليف اليوم عدو الغد، وتحالفت أطراف متعادية موضوعيا على الأرض عندما كانت تخوض معركة مشتركة حتى ولو لم تقر بوجودها. هنا تَجُدُّ حقيقتان: الأولى أن الشعب السوري في مجمله لم يعد قابلا بنظام بشار الأسد، لقد نزفت دماء كثيرة تجعل من المستحيل العودة إلى الأوضاع السابقة. والثانية، عكسها، وهو أن "الربيع" السوري كان ولا يزال دمويا بامتياز، ولم يستطع أصحابه أن يصلوا به إلى حالة من التماسك أو حتى الفوضى المنظمة. التوفيق بين الحقيقتين مهمة سياسية ودبلوماسية من الطراز الأول، ولكن أهم مقومات الحل هو رحيل سلمي لبشار ومعه أقرب المقربين، وهو أن استئصالا للبعث أو للعلويين من الحياة السياسية غير مقبول، وربما نتذكر درس العراق، فقد يكون مفيدا حينما خلق استئصال البعث فراغا لم يمكن تعويضه حتى الآن، والتقدير هو أن البعث بعد كل الذي جرى لم يعد كما كان، وربما كان الممكن هو أن نجعل الطبيعة تأخذ مجراها.
المسرح الثالث يقع فيما عرف بالصراع العربي - الإسرائيلي الذي يبدو صراعا قادما من تاريخ قديم، ولكنه أضعف المنطقة كلها وجعلها غير قادرة على مواجهة الموجة الجديدة من العنف وفرض عليها معركة ليست على الحدود أو السكان، وإنما على الدولة وبقائها. وخلال الشهور القليلة الماضية تطايرت أقوال عن إعادة بعث "المبادرة العربية للسلام"، لعل السياسة في النهاية تتحرك من أجل محاولة جديدة للتسوية. لقد انتهت حرب غزة الأخيرة إلى أوضاع جديدة قد تجعل الظروف مواتية لتحرك جديد عندما عادت السلطة الوطنية الفلسطينية إلى المعابر وإلى قطاع غزة في إطار من عملية نأمل أن تكون مستمرة للتعمير والبناء.
تسوية الأوضاع في هذه المسارح الثلاثة بمثابة تهيئة المسرح الكبير للمشرق العربي، لكي يكون مواتيا لأنصار السلام والاستقرار والإصلاح والمعاصرة، لكي تكسب معركة "داعش"، ولكن هذه تظل في النهاية مجرد معركة، أما الحرب نفسها فريما سوف تظل معنا لفترة زمنية أطول؛ فالتاريخ لا يعطي نفسه لواقعة أو حدث، وإنما يعطي نفسه لما هو أكبر بكثير. ما نحتاجه، وتحتاجه المنطقة، لا يزال جهدا وتفكيرا وحشدا أكبر؟