الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إسرائيل ولعبة "الأمم الصغيرة" في الصراع على غاز شرق المتوسط

إسرائيل ولعبة "الأمم الصغيرة" في الصراع على غاز شرق المتوسط

28.11.2019
إبراهيم نوار


القدس العربي
الاربعاء 27/11/2019
تدير إسرائيل لعبة الأمم في الصراع للسيطرة على مكامن ثروة الغاز الطبيعي في أعماق حوض شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد استطاعت بمهارة فائقة أن تحول لعبة الصراع تلك إلى مصلحة "الدول الصغيرة" مثل قبرص واليونان، على حساب الدول الكبيرة مثل مصر وتركيا. في كل الأحوال فقد أصبحت اللعبة تحت سيطرتها. وكما نجحت إسرائيل في تغليب الصراع العربي – العربي على الصراع العربي- الإسرائيلي، فقد نجحت أيضا في تغليب الخلافات بين الدولتين الكبيرتين في حوض شرق المتوسط، على خلافهما معها، فأبعدت تركيا مؤقتا، بمساعدة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وحولت مصر إلى سوق للغاز الإسرائيلي، وبذلك استقرت مصالحها واطمأنت.
الطريق الإسرائيلي إلى تحقيق هذا التفوق في إدارة لعبة الغاز في شرق المتوسط، يبدو مرسوما بدقة وعناية، منذ وضعت إسرائيل سياسة جديدة للطاقة في القرن الواحد والعشرين، تهدف إلى تحويلها من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة للطاقة، وبدأت في مطلع العقد الثاني من القرن الحالي في نسج شبكة من العلاقات مع "الدول الصغيرة" لتبادل المصالح والتعاون المشترك في ترسيم خريطة المناطق الاقتصادية الخالصة في حوض شرق المتوسط، بما يعزز مصالحها. بدأت بالترسيم مع قبرص، ففرضت واقعا جديدا على كل من مصر وتركيا بضربة واحدة، ثم توسعت باتفاقات مع مصر ومع السلطة الوطنية الفلسطينية. وعلى الرغم من مشاركة شركات إيطالية ويونانية وفرنسية في عمليات التنقيب، فإن شركة (ديليك) الإسرائيلية، ماتزال لاعبا رئيسيا، يستحوذ على جزء مهم من عمليات التنقيب أو التسويق في المناطق الاقتصادية الخالصة في شرق البحر المتوسط، ومعها شركة (نوبل إنرجي) المسجلة في تكساس. وتقضي سياسة خلق المصالح المشتركة، بمنح شركات تلك الدول مساحة مهمة للتوسع وتحقيق الأرباح.
وتعكس خريطة الشركات العاملة في استخراج وتسويق الغاز الطبيعي في حوض شرق البحر المتوسط، مصالح كل من إسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا، وروسيا وقطر وفرنسا والولايات المتحدة، إضافة إلى مصر ذات الطاقات الفائضة في معالجة الغاز المسال، التي تسعى لأن تكون سوقا إقليمية لتجارة الغاز في شرق البحر المتوسط. وسوف تستفيد كل من قطر وروسيا من مشاركتهما في ثروة غاز شرق المتوسط، في تعزيز مكانة كل منهما في تصدير الغاز الطبيعي أو المسال إلى أوروبا الغربية، التي يرتفع فيها الطلب على الغاز بمعدلات أسرع من ذي قبل، بسبب خطة التخلص من محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم، وتقليل الاعتماد على البترول، للحد من تلوث البيئة. ومن المتوقع أن يستمر الطلب الأوروبي على الغاز الطبيعي والغاز المسال في الارتفاع حتى عام 2050. ونظرا لأن أوروبا تعتمد على روسيا حاليا في تغطية أكثر من ربع احتياجاتها من الغاز، وتحاول تقليل هذه النسبة بتنويع مصادر الغاز، فإن روسيا قررت التحوط ضد ذلك، بزرع مصالحها في حوض شرق البحر المتوسط، الذي يمثل أحد مصادر الغاز الطبيعي، الذي تخطط أوروبا للاعتماد عليه، لتقليل النفوذ الروسي في سوق الطاقة الأوروبي. لهذا السبب خلق الروس مصلحة لأنفسهم بشراء حصة من امتيازات التنقيب، وحقوق الإنتاج من شركات أخرى مثل (إيني) الإيطالية. كذلك نجحت قطر في فعل الشيء نفسه، من خلال المشاركة مع (روسنفط) الروسية في شراء نسبة من امتياز إيني في حقل شروق المصري، وأيضا من خلال شراء نسبة من امتياز شركة (إكسون موبيل) الأمريكية في حقل (جلافكوس) القبرصي.
 
إسرائيل تسعى إلى استخدام تجارة الغاز الطبيعي، ولعبة الغاز في شرق البحر المتوسط لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لها
 
وفي سبيل زيادة نفوذها بين الدول المجاورة، فإن إسرائيل تساعد كلا من قبرص واليونان في مجالات التنقيب عن الغاز وتسويق الإنتاج. ففي مجال التنقيب عن الغاز تقوم شركة (ديليك) الإسرائيلية بأعمال التنقيب عن الغاز في المنطقة الإقتصادية البحرية الخالصة في جنوب شرق قبرص. وحققت شركة (نوبل إنرجي) أول اكتشافات الغاز الطبيعي في المياه القبرصية عام 2011، بالإعلان عن كشف حقل (أفروديت) البحري، الذي تتداخل حدوده مع حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل في مياه شرق البحر المتوسط. ومن ثم فإن قبرص تشعر بالامتنان لإسرائيل لثلاثة أسباب، الأول أن إسرائيل كانت صاحبة المبادرة في عقد اتفاق ثنائي معها لترسيم المنطقة الاقتصادية في المياه البحرية في شرق المتوسط. والثاني أنها شجعت نوبل إنرجي على البدء في التنقيب، ما أدى إلى تحويل قبرص الفقيرة في الطاقة إلى دولة لديها احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، تصل الآن إلى أكثر من 20 تريليون متر مكعب. والثالث أن إسرائيل تساعد قبرص عمليا في إيجاد بدائل لتصريف الغاز الطبيعي الذي تنتجه من 3 حقول مختلفة، إلى الأسواق الخارجية. وتتمثل بدائل تصريف الغاز القبرصي حاليا في التصدير بالأنابيب إلى مصر، أو في معالجة الغاز الطبيعي في محطة عائمة للغاز المسال، وتحميله في ناقلات مبردة إلى الأسواق العالمية، البديل الثالث ما يزال قيد الدراسة، ويتمثل في مشروع خط أنابيب شرق البحر المتوسط، الذي يمتد من حقول الغاز القبرصية والإسرائيلية إلى اليونان ثم إلى إيطاليا ومنها إلى شبكة الغاز الطبيعي الأوروبية.
كذلك فتحت إسرائيل شهية شركات الطاقة اليونانية بمنح شركة (إنرجيان) امتيازا للتنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية في المياه العميقة قبالة سواحل شمال إسرائيل. وقد حققت الشركة اليونانية اكتشافين للغاز في منطقتين من الامتياز المخصص لها، هما حقل (كاريش) على بعد 90 كم من الساحل الشمالي لإسرائيل، الذي يتراوح احتياطيه من الغاز بين 28 إلى 42 مليار متر مكعب، إضافة إلى كميات كبيرة من النفط الخفيف والمتكثفات النفطية. والحقل الثاني هو حقل (تانين) الذي تصل احتياطياته إلى 22 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. وبذلك فإن محفظة ثروة الغاز الطبيعي الذي اكتشفته (إنرجيان) اليونانية في إسرائيل في كل مناطق الامتياز حتى الآن تصل إلى 68 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، إضافة إلى 33 مليون برميل من النفط الخفيف والمتكثفات النفطية. هذه المحفظة قابلة للزيادة كلما توسعت الشركة في عمليات التنقيب داخل منطقة الامتياز التي تعمل فيها.
لكن الهدايا التي قدمتها إسرائيل إلى الشركة اليونانية، لا تتوقف عند مجرد السماح لها بالتنقيب والكشف عن الغاز الطبيعي والنفط، وإنما هي تتجاوز ذلك إلى مساعدة الشركة في تصريف إنتاجها. ومن المعروف في صناعة الغاز على وجه التحديد، أن الشركات المنتجة لا تبدأ في تطوير حقول الغاز المكتشفة، إلا بعد التوصل إلى تعاقدات فعلية طويلة المدى، لبيع الغاز المستخرج، فبغير ذلك لا تكون عمليات التطوير والإنتاج مجدية على الإطلاق. ونظرا لأن استراتيجية الطاقة الجديدة في إسرائيل تتضمن إنهاء احتكار الدولة، أو الشركة القابضة لإنتاج وتسويق الكهرباء، فإن فتح سوق الطاقة للمنافسة، ساعد (إنرجيان) اليونانية على التعاقد مع شركات إسرائيلية منتجة للكهرباء، لإمدادها بالغاز اللازم لتشغيل محطات الكهرباء. وقد تعاقدت (إنرجيان) فعلا خلال الفترة الأخيرة على تصريف ما يزيد عن 5 مليارات متر مكعب من الغاز سنويا إلى السوق الإسرائيلية. وكان آخر العقود الموقعة هو عقد مع شركة إسرائيلية – صينية مشتركة لإمدادها بكمية تبلغ 500 متر مكعب سنويا تقريبا لمدة 15 سنة متصلة.
ومن الملاحظ هنا أن إسرائيل تعمدت سد حاجة شركاتها من الغاز، عن طريق تشجيعها على الاستيراد من الشركة اليونانية، في حين أنها تعمل بأقصى طاقتها على تصدير الغاز الطبيعي الإسرائيلي المنتج بواسطة شركات إسرائيلية مثل (ديليك) إلى كل من مصر والأردن. الحكمة في ذلك أن إسرائيل تسعى إلى استخدام تجارة الغاز الطبيعي، ولعبة الغاز في شرق البحر المتوسط لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الإسرائيلية التي تتضمن تطبيع علاقاتها مع دول المنطقة، ومساعدتها على النفاذ إلى السوق الإقليمي، من خلال السيطرة على عمليات الإنتاج والتسويق. وتعد سياسة الطاقة الإسرائيلية في حوض شرق البحر المتوسط نموذجا واضحا لكيفية استخدام سلعة واحدة في تحقيق مكاسب استراتيجية على نطاق واسع. وقد استطاعت إسرائيل بهذه السياسة حشر تركيا في ركن ضيق، ما جعلها حتى الآن عاجزة عن تحقيق نجاح يذكر في عمليات التنقيب عن الغاز في حوض شرق المتوسط. وتستخدم تركيا في الوقت الحاضر سفينتين للتنقيب عن الغاز قبالة شرق وغرب السواحل القبرصية، لكنها تواجه ضغوطا حادة للتوقف عن ذلك من دول الاتحاد الأوروبي، التي تساند الموقف القبرصي المعارض لتركيا. وإذا استمر نجاح سياسة الطاقة الإسرائيلية في شرق المتوسط، فإن تركيا سوف تخسر فرصة إضافة غاز شرق المتوسط إلى رصيدها، كمركز إقليمي، وكممر لتوريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وهو المركز الذي تخطط له بالتعاون مع روسيا.