الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مساجلات القوة بعد "سوتشي"

مساجلات القوة بعد "سوتشي"

05.02.2018
عبد الله السناوي


الخليج
الاحد  4/2/2018
حدث ما لم يكن متوقعاً. كادت الرهانات العامة أن تستبعد أية فرصة لنجاح مؤتمر "سوتشي" في اختراق ما للأزمة السورية الدموية المستعصية. بل إن هناك من سعى لإفشاله، قبل انعقاده، حتى يحرم روسيا من جني ثمار إمساكها بأغلب أوراق الموقف المشتعل.
حقائق القوة على الأرض كسبت جولة "سوتشي"، التي كانت اختباراً لقوة التحالفات الروسية بالإقليم بما تنطوي عليه من مصالح متبادلة وتباينات عديدة في النظر إلى الأزمة ومستقبلها.
بتفاهمات مسبقة في الغرف المغلقة مع الحليفين الإيراني والتركي ضمنت الدبلوماسية الروسية درجة واضحة من النجاح، رغم مقاطعة المؤتمر من أغلب الجماعات المعارضة ورفض الولايات المتحدة وفرنسا لأية مشاركة فيه.
الأهم أنه نجح في التوصل إلى تفاهمات أساسية مع الأمم المتحدة تزيل أي شكوك في أنها قد توظف المؤتمر لتأسيس مسار جديد للتسوية خارج صيغة "مفاوضات جنيف".
هكذا شارك المبعوث الأممي "ستيفان دي ميستورا" في أعمال المؤتمر وصياغة وثيقته الختامية، التي تبنت آلية تشكيل لجنة تضم الحكومة السورية ووفد معارضة واسع التمثيل لوضع دستور يضمن أن تكون الكلمة الأخيرة للسوريين في تقرير مصيرهم.
يشير سياق التطور اللافت إلى تفاهمات مماثلة خلف أبواب مغلقة أخرى مع فرنسا والولايات المتحدة سمح فيما بعد بالترحيب بما أحرزه المؤتمر من نتائج.
بصياغة فرنسية ف"إن سائر المبادرات، بما فيها مؤتمر سوتشي، يجب أن تدعم المسار الأممي في جنيف وتصب في إطاره"..ذلك ما حدث بصورة أو بأخرى.
بقوة الحقائق أعلنت المعارضة السورية، التي تتمركز قياداتها في إسطنبول، انفتاحها على نتائج "سوتشي"، لكنها دعت إلى مرحلة انتقال سياسي كاملة الصلاحيات قبل إقرار الدستور حتى تتوافر بيئة محايدة. هذا المطلب يجافي المسار الذي أقرته وثيقة "سوتشي"، وهو أقرب إلى إبداء تحفظات لاكتساب بعض النقاط في "التفاوض على التفاوض" في جنيف. يستلفت الانتباه هنا أن الوفد التركي في "سوتشي" تولى مهمة عرض مطالب المعارضة الغائبة.
 
وهكذا تدخل الأزمة السورية طوراً جديداً تختبر فيه مساجلات القوة بالسلاح والدبلوماسية معاً، بالصفقات ولي الأذرع بنفس الوقت.
انتهت جولة "سوتشي" وبدأت معركة تفسير نتائجه وإعادة التفاوض عليها وفق المصالح المتضاربة.
هناك الآن مسار دستوري لإحياء مباحثات جنيف، التي أخفقت دوراتها المتعاقبة في التوصل إلى أي اختراق كأنها مراوحة في المكان.
 
من الصعب توقع أن يمضي ذلك المسار على أرض ممهدة بالنظر إلى التناقضات الفادحة بين اللاعبين الدوليين والإقليميين وتعقيدات المشهد الداخلي السوري نفسه.
أول مشكلة، الاتفاق على معايير اختيار اللجنة الدستورية وحدود صلاحيتها والمرجعيات التي تستند إليها واللوائح التي تحكم أعمالها.
هذه المشكلة قد تستغرق وحدها وقتاً طويلاً ومساجلات قوة، وربما صفقات كواليس تضمن للأطراف المتصارعة حصصاً تطمئنها على مصالحها.
وثاني مشكلة، كيفية التوصل إلى فهم مشترك لنصوص وثيقة "سوتشي"، التي تمثل مرجعاً أولياً للدستور السوري المنتظر، خاصة فيما يتعلق بحدود صلاحيات الرئيس ووضع الجيش والأجهزة الأمنية.
 
بحكم الحقائق الأساسية في تحالف موسكو ودمشق وطهران الجيش خط أحمر، تفكيكه أو تصدعه غير مسموح به في أي تفاوض منتظر. ميدانياً فهو يسيطر الآن على أغلب الأراضي السورية، وغالبية الجماعات التي تنازعه بالسلاح متهمة دولياً بالتطرف والإرهاب خاصة جبهة "النصرة". في الوقت نفسه فإن "الجيش الحر" انخفض دوره وحجمه بما لا يسمح له أن يطرح نفسه بديلاً، أو شريكاً في بنية الجيش.
عملياً فإن من يتحكم في المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية خلال أي مرحلة انتقالية تؤول له السيطرة على حركة الحوادث.
سياسياً تتبدى حجة متماسكة تذكر بما جرى في العراق من شلالات دم وحروب مذهبية وتوحش إرهاب إثر تفكيك الجيش العراقي وأجهزة الدولة بعد غزوه عام (2003).
وقد حاولت وثيقة "سوتشي" القفز بصياغات عامة على هذا الملف الملغم داعية إلى: "بناء جيش وطني قوي وموحد يقوم على الكفاءة ويمارس واجباته وفقاً للدستور"، وأنه "يجب أن يكون استخدام القوة مقتصراً على تفويض من مؤسسات الدولة ذات صلة".
ما معنى موحد؟.. وهل ينصرف ذلك إلى دمج جماعات مسلحة مثل "الجيش الحر" فيه؟
تركيا قد تحاول، وإيران سوف ترفض بيقين والنظام السوري نفسه لن يقبل أي نقاش، وروسيا من المتوقع أن تدير التناقضات، حفاظاً على ذلك "التحالف الاضطراري" لأطول وقت ممكن . بقدر ما فإن لإيران مصلحة في تعجل حصد جوائز الدور الميداني الذي لعبته، أو الوصول إلى التسوية من موقع قوة يضع مصالحها في الاعتبار.
تتأسس تلك الفرضية على الفواتير المالية والعسكرية الباهظة، التي دفعتها بما أثقل على اقتصادها وأفضى إلى الاحتجاجات الواسعة الأخيرة.
بحيثيات أخرى تسعى تركيا المنهكة تحت وطأة أزماتها الداخلية وخشيتها على وحدة أراضيها من سيناريو بناء دولة كردية في الشمال السوري، بدعم أمريكي مباشر للوصول إلى تسوية تهدئ مخاوفها وتضمن مصالحها.
الموقف التركي يكاد يتلخص الآن في "العقدة الكردية". وفق صفقات شبه معلنة استبعدت الجماعات الكردية من مؤتمر "سوتشي" لإرضاء الشريك التركي.
بغطاء روسي تدخلت القوات التركية في "عفرين" بالشمال السوري، وأفسح المجال أمامها لمزيد من التوغل ضد الرهانات الأمريكية على استعادة نفوذها من البوابة الكردية.
 
كان ذلك صداماً غير مسبوق بين الحليفين التاريخيين استثمره اللاعب الروسي بكفاءة لا تنكر على خلفية توجه أمريكي لتأسيس قوة أمن حدودية قوامها (30) ألف مقاتل أغلبهم ينتمون إلى "وحدات حماية الشعب" الكردية، التي تعتبرها أنقرة "إرهابية".
في الأزمة السورية وحساباتها المتحركة تتقاطع حسابات وإرادات إقليمية ودولية وتتبدى فوق طاولات التفاوض وبالغرف المغلقة مشروعات صفقات كبرى تدخل في صميم مستقبل الإقليم لعقود طويلة مقبلة، دون أن يكون لمصر الدولة العربية الأكبر دور مؤثر وملموس يتسق مع حجم الأخطار المحتملة، التي تضرب أمنها القومي في الصميم.