الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مسيحيون عرب ضد "حلف الأقليات"

مسيحيون عرب ضد "حلف الأقليات"

24.11.2019
محمود الريماوي


العربي الجديد
السبت 23/1/1/2019
لطالما شهدت منطقتنا حواراتٍ بين رجال الدين، وبالذات بين المسلمين والمسيحيين منهم، إضافة إلى لقاءاتٍ بين قيادات وزعامات روحية تتبع الدين نفسه، كالحوارات بين ممثلي المذاهب الإسلامية والطوائف المسيحية. غير أن هذه المناسبات غلب عليها الطابع الاحتفالي والمجاملات، مع التركيز على العموميات، مثل إظهار قيم الوئام والتآخي والتعايش والسلام الاجتماعي، واستلهام محطات مضيئة في التاريخ والتراث والدعوة إلى إحيائها والبناء عليها. وأخيرا، التركيز على مناوأة التطرّف والإرهاب، وتزكية قيم الاعتدال والوسطية واحترام المعتقدات الدينية وأماكن العبادة، ونبذ التحريض والتعريض بمعتقدات الآخرين، وهم الشركاء في المجتمع والوطن.
وفي غالب الأحوال، كانت هذه المحافل تنأى بنفسها عن الخوض في الموضوعات السياسية وعن الشأن السياسي عموما، في محاولة للفصل بين المجالين، الروحي والمعتقدي والمجال السياسي (على طريقة الفصل بين الاقتصاد والسياسة)، باستثناء بعض مقاربات خجولةٍ هنا وهناك لهذا الشأن. ومردّ ذلك أن هذه المناسبات تتم برعايات رسمية، ولا يتمتع المشاركون باستقلالية ذاتية، إذ تسبق أسماءهم مواقعهم وتصنيفاتهم الرسمية في غير بلد عربي مشرقي. ولهذا، قلما كانت هذه المحافل تترك أثراً خاصاً بها، بعيداً عن السياسات العامة المرعية للأنظمة.
بعيدا عن ذلك، يبدو انعقاد مؤتمر مسيحي عربي في باريس (هذا اليوم، السبت) حدثا مميزا، إذ يسعى، كما تكشف عناوينه وتوجهاته، إلى مقاربة وضع المسيحيين أمام التحدّيات السياسية 
"تشارك المسيحيون مع الشيعة مع بقية المكونات في لبنان في المطالبة بنظام لا طائفي"المصيرية التي تجابه مجتمعاتٍ وبلدانا عديدة، مع التركيز على أن الصفة الدينية سوسيولوجية وإجرائية فحسب، فالأمر يتعلق بمواطنين كاملي المواطنية لهم مثل غيرهم صفة دينية، لكنهم ليسوا أقلية. وأنهم ينتمون إلى العروبة شأن غيرهم، العروبة المتفتّحة الجامعة المنتسبة للعصر، مع احتفاظها بجذورها عبر التاريخ، كون المسيحيين هم من العرب الأوائل. هذا خلافا لمؤتمرات كانت تضمر وتكاد تجهر بتقييم عددي يُظهر المسيحيين أقلية، خلافا للمنطق أو العرف الذي يجد له سندا في الدساتير، الذي يقضي بأنهم مكون أصيل شأن بقية المكونات، ولهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات ذاتها.
ينظم المؤتمر المركز اللبناني للدراسات والأبحاث، ويضم إلى المشاركين المسيحيين مشاركين مسلمين، والهدف سحب وضع المسيحيين من منطقة الظل إلى دائرة الضوء، ودعوتهم إلى عدم النظر إلى أنفسهم أقلية، وما ينسحب على ذلك من خصوصيات مفتعلة، يُراد بها في واقع الأمر تهميشهم، وإلحاقهم بمشاريع غيرهم بزعم حمايتهم، فالحماية حقٌّ لكل مواطن بصرف النظر عن معتقده وعرقه، ويُناط هذا الحق بالقانون والنظام العام، وتضمنه المشاركة السياسية والاجتماعية، وعلى جميع الأصعدة في ظل دولتهم الوطنية العصرية. وقد كان النائب اللبناني السابق وأحد المنظمين البارزين للمؤتمر، فارس سعيد، واضحاً في تحديد وجهة المؤتمر بأنه يهدف لتبديد أزعومة سعي المسيحيين إلى الحماية من أحد، وخصوصا من أي طرفٍ خارجي أو قوة داخلية مسلحة. وأن المسيحيين العرب يستشعرون الأخطار نفسها التي تهدّد بقية مكونات مجتمعاتهم. وفي معرض آخر، صرّح سعيد بأن المؤتمر "يهدف إلى إعادة صياغة خطاب مسيحي عربي في مواجهة تحالف الأقليات الذي تديره مجموعاتٌ تعتبر أن التحالف في ما بينها الطريق الأفضل لضمان وجود المسيحيين في المنطقة".
وهنا بالذات، يلامس هذا المحفل الجانب السياسي، فلئن كان الإرهاب المنفلت يهدّد المسيحيين، كما هدد المسلمين وبقية المكونات، فإن أطروحات، مثل تحالف الأقليات، تشكل خطوة انعزالية محفوفة بالمخاطر، علاوة على ما يكتنفها من خطل في الرؤية. إذ إن تحالفاً كهذا ينتصب في واقع الحال في وجه الأكثرية الإسلامية السنية. ولئن كان هذا التحالف غير ظاهر في أدبياتٍ معلنة، إلا أن الوقائع تدل عليه في سورية ولبنان خلال العقد الأخير. سواء بالتحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر (تيار ميشال عون ولاحقا جبران باسيل) أو بدعم هذا التيار وحزب الله الحرب في سورية التي يُراد بها، بين أمور أخرى، إضعاف المكوّن السني في سورية، وتحقيق تغيير ديمغرافي يعيد تشكيل الهندسة الاجتماعية والمناطقية. وقد أمكن، خلال السنوات الماضية، استدراج فئات واسعة من المسيحيين إلى التيار العوني، والاستيلاء على الرأي العام الشيعي (بمنع وتخويف مرشحي الشيعة لانتخابات مجلس النواب مثلا)، إلا أن الانتفاضة اللبنانية كسرت هذه التقسيمات، فتشارك المسيحيون مع الشيعة مع بقية المكونات في المطالبة بنظام لاطائفي، أو الإصرار على الإعلان عن هويتهم الوطنية، لا الطائفية. ووقع الشيء نفسه في العراق عبر الانتفاضة الشجاعة، حيث تشارك الجميع تحت الراية الوطنية، رافضين خطط النظام هناك في التقسيم الطائفي للمواطنين والمناطق، وهو تقسيمٌ أريد به تعزيز نفوذ زعماء المليشيات المسلحة التي تدين بالولاء لإيران، وبناء أمر واقع، يقوم على التغليب الطائفي مع حرمان أغلبية الشيعة من حقوقهم السياسية والاجتماعية.
وليس سرّاً أن هذا الحلف القائم على أرض الواقع يجد رعاية من النظام الإيراني في حربه 
"الإرهاب المنفلت يهدّد المسيحيين، كما هدد المسلمين وبقية المكونات"المذهبية لاختراق العالم العربي، وتهتيك نسيجه الاجتماعي، وإضعاف منعته الذاتية، مع إيهام المسيحيين بأن مثل هذا الحلف يحميهم، علماً أنه لا خطر خاصاً يهدّد المسيحيين سوى الإرهاب (ونسبة ضحاياه بين المسلمين أكبر بكثير مما هي بين المسيحيين) وأنظمة الاستبداد والطغيان، والأطماع الإسرائيلية والإيرانية، والهيمنتين الأميركية والروسية، وهي أخطار تهدّد المجتمعات والأوطان جميعا بغير تمييز بين المواطنين. وكل ما في الأمر أنه يُراد للمسيحيين (لنخبهم الروحية والسياسية والثقافية) أن يكونوا شهود زور وأدوات لتنفيذ المشاريع الخارجية، وإثارة البغضاء بينهم وبين باقي المواطنين.
من هنا، يرتدي المؤتمر المسيحي العربي أهميته في هذه المحطة التاريخية الفارقة، وذلك بمبادرة شخصياتٍ مسيحيةٍ إلى إعادة صوغ توجهات الجماعات العربية المسيحية، بما ينسجم مع دورها المشهود: شريكة في الوطن والمواطنية، وحارسة للوحدة الوطنية، ومنافحة عن منعة الأوطان في وجه التهديدات الخارجية من أي مصدر كان. ومن حسن الطالع والتدبير أنه جرى ترقيم هذا المؤتمر بالأول، بما يفيد أن هذا الملتقى سيكون له ما بعده من ملتقيات ومحافل، تشدّد على أن العرب المسيحيين يستأنفون دورهم رواداً للعروبة، ومكافحين ضد أنظمة التبعية والظلام، كما ضد مختلف مظاهر الإرهاب والتطرّف، أيا كان المصدر والرايات المرفوعة.