الرئيسة \  مشاركات  \  الربيع العربي وجدلية التراث والمعاصرة

الربيع العربي وجدلية التراث والمعاصرة

30.05.2019
د. محمد أحمد الزعبي




14.03.2016 ( إعادة نشر بعد الإضافة والتعديل 27.05.2019)
أولا في تحديد المفاهيم :
ينطوي عنوان هذه المقالة على ثلاثة مفاهيم هي ( الجدل والتراث والمعاصرة ) ، ينبغي توضيحها أولاً ، ومن ثم الانتقال إلى العلاقة الجدلية فيما بين التراث والمعاصرة ، وهو مايمثل موضوع هذه المقالة . هذا مع العلم أن المفاهيم بصورة عامة ، إنما تولد من رحم اللغة ولكنها في كثير من الحالات ، ورغم بقاء الحبل السري الذي يربط المفهوم بأصله ( جذره ) اللغوي ، فإن هذا المفهوم يمكن أن يبتعد قليلا أو كثيراً عن هذا الأصل ، ليكتسب بتغير الزمان والمكان والأحداث معنى اصطلاحيا جديدا . فمفهوم " التراث " مثلا إنما يتفسر بالفعل الثلاثي " ورث " وهو انتقال ماكان بحوزة الأموات إلى الأحياء ، سواء أكانت أشياء مادية أو معنوية ، ويكون التراث بهذا المعنى هو " الإنتاج المادي والروحي الذي يورثه السلف إلى الخلف " ، أما اليوم فإن هذا المفهوم بات يتفسر بنقيضه " المعاصرة " أكثر مما يتفسر بأصله اللغوي ، ولكن هذه " المعاصرة " سوف تتحول غداً بدورها إلى تراث . وذلك بعد مرور حقبة تاريخية طويلة إلى حد ما تفصل بين الأمس واليوم . ألم يكن الإسلام يوم نشأته الأولى يعتبر حداثة ومعاصرة بالنسبة إلى العصر الجاهلي ؟ ، وبالتالي ألم يكن العصر الجاهلي يعتبر يوم جرى تجاوزه بالإسلام تراثا ؟ . أي أن إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة كانت موجودة أيضاً في حينها . ولكن الإشكالية التي يطرحها هذا الموضوع قديمه وحديثه هي : ماهي المحددات الاجتماعية النظرية والعملية التي تفصل بين زمني التراث والمعاصرة ؟ . إننا واقع الحال أمام مايمكن أن نطلق عليه " السيولة التاريخية "، أو "الأبواب المفتوحة" بين العصور بمختلف مسمياتها ( القديمة ، الوسيطة ، الحديثة / قبل الميلاد ، وبعد الميلاد الخ) ) وبالتالي بين مفهومي وبين زمني التراث والمعاصرة .
إن مفهوم " العلاقة الجدلية " ، يمكن أن يساعد الباحث هنا في حلحلة هذه الإشكالية المعرفية ، وذلك من خلال رؤيته أن الواقع الملموس الذي يعيشه الباحث اليوم ، إنما هو الابن الشرعي لليوم الذي عاشه آباؤه وأجداده بالأمس ، والأب الشرعي أيضاً لليوم الذي سيعيشه أولاده وأحفاده غداً ، أي أن علاقة جدلية تربط الحاضر بجناحيه التاريخيين : الماضي والمستقبل ربطا جدليا بمعنى التأثير المتبادل أفقيا وعموديا بين أضلاع مثلث (الماضي - الحاضر- المستقبل) الأمر الذي تنتفي معه عملياً العلاقة العدائية بين التراث والمعاصرة لتحل محلها علاقة القرابة البيولوجية والاجتماعية والفكرية على مدى مرحلة الانتقال الطويلة من التراث إلى المعاصرة ، و التي يصعب وضع حد زمني بالشعرة لها (على حد تعبير المرحوم حسين مروة )، ( أنظر : مجلة الثقافة الجديدة ، عدن ، 1979، ص 137 ) . إن هذه الرؤية التاريخية الجدلية الموضوعية ، للمرحلة الانتقالية الطويلة التي تمثل الحاضرالذي يتعايش ويتداخل على صعيده وفي بنيته الداخلية كل من الماضي والمستقبل ، تتنافى عملياً مع فكرة "القطع " مع التراث التي طالما ألح عليها المرحوم محمد عابد الجابري . يقول الدكتور الجابري حول مسألة القطع مع الماضي "إن ما جعل الرشدية تدخل التاريخ في نظرنا ،هو قطيعتها مع السينوية " ( أنظر كتابه ، نحن والتراث ، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي ، دار الطليعة ، بيروت 1982 ط2 ، ص 71 ) وتعليقنا على رؤية المرحوم الجابري ، هو : وهل أصبح ابن سينا(الشيخ الرئيس ) الذي قطع معه ابن رشد ( حسب الجابري )اليوم خارج التاريخ ؟!، أم أن جامعات أوروبا عاشت سبعة قرون مع تراث ابن سينا ، مادة ابن سينا ) . WIKIPEDI في الطب ( القانون في الطب ) والفلسفة ( الشفاء ) . ( أنظر
ثانيا ، في تحديد وتوضيح إشكالات العلاقة الجدلية بين التراث والمعاصرة
في إطار العلاقة الجدلية بين التراث والمعاصرة ، يقع الباحث على عدد من الإشكالات والتساؤلات التي تحتاج إلى أجوبة علمية . أبرز هذه الإشكالات والتساؤلات هي :
1. لماذا الاهتمام بالتراث ، وبالتالي بالعلاقة بين التراث والمعاصرة ؟.
وجوابنا : يحمل كل ابن أنثى عند وبعد ولادته وراثتين : وراثة بيولوجية ووراثة اجتماعية ، ويظل المرء منذ وعيه على محيطه الاجتماعي دائم الحرص على القيم والمبادئ التي اكتسبها في الأسرة بداية ولاحقاً في المدرسة وأخيراً عبر الارتباطات الاجتماعية المختلفة ( حزب سياسي ، نادي رياضي ، جمعية خيرية ، الأصدقاء ، الخ ) . إن توقف إنسان البلدان النامية ومنها وطننا العربي عند الجوانب المضيئة من تراثه الاجتماعي والتاريخي والقومي إنما يعزز ثقته بنفسه أمام التفوق الأوروبي الراهن ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الهروب إلى الوراء أي بالنسبة للعرب عامة والسوريين خاصة ، إلى الزمن الذي كان آباؤهم وأجدادهم متفوقين حضاريا على آباء وأجداد هؤلاء " المعاصرين " الذين يستعمرون بلادهم اليوم ، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، والذين دمرت" أسلحتهم النوعية " مشروع الربيع العربي الواعد ، الذي كان الهدف المعلن لشبابه هو تطوير بلدانهم وتنميتها، وردم الهوة التكنولوجية والاقتصادية بينها وبين الدول المتطورة . أي ردم الهوّة بين التراث والمعاصرة تطبيقياً . ولعلّ سؤال " لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب ؟" الذي طرحه رواد عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر على أنفسهم ، كان من بين دوافع شباب الربيع العربي للإجابة على سؤال أسلافهم ، رواد عصر النهضة العربية ، بل إن ثورات الربيع العربي تمثل ـ بنظرنا ـ أول محاولة شعبية عربية جادة للإجابة على سؤال أولئك الرواد .
2. الإشكاليات التي تترتب على قراءة الماضي بالحاضر أو قراءة تراث بتراث آخر ،
ان من ينظر إلى الدنيا بمناظر( كزالك ) ملونة ، لابد وأن يراها ملونة بلون هذه المناظر ، وهذا ما يفسر القراءة المنحازة لمعظم المستشرقين الغربيين ( أوروبا وأمريكا ) للتراث العربي الإسلامي . فهذا الفيلسوف الألماني ج ف هيغل (1770- 1813)ة مثلاً يقول" لابد من شطب الفكر الشرقي من تاريخ الفلسفة " !! ، وهذا إرنست رينان ( 1833 - 1892 ) ينكر بدوره على العرب حتى تفضيلهم للفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو على من عاصره من الفلاسفة ذلك أنهم - أي العرب - بنظره عاجزون حتى عن مثل هذا التفضيل ، ذلك أن التفضيل يقتضي الاختيار وهو مالا يستطيعونه !!. وهذا فرانسوا دو شاتوبريان ( (1768 ـ 1848) الأديب والسياسي الفرنسي ، يشير إلى أن الدين الإسلامي بكونه " لايحث المؤمنين على دفع الحضارة نحو الأمام ولا يعلمهم أن يعنوا بالحرية ، وهو في هذا أقل مستوىً من المذهب المسيحي " على حد زعمه .( أنظر، د. مي عبد الكريم محمود ، تائهون في صحراء الإسلام ، الأهالي ، دمشق 2003 ص 12) .
إن مثل هذه القراءات المتحيزة لبعض المفكرين الغربيين للتراث العربي الإسلامي ، إنما تدخل في إطار قرائتهم لهذا التراث العربي الإسلامي بتراث آخر مغاير له زمانا ومكانا ولغة ودينا ، أي أن المناظر الملونة التي يضعونها على عيونهم ( لون تراثهم ) هي التي جعلتهم يرون تراثنا على هذا النحو المغاير . و دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال التقليل من المستوى الرفيع لأفكارهم وفلسفاتهم الاجتماعية والكونية . وأيضاً دون أن نبرّئ تاريخنا من العيوب التي أشار إليها هؤلاء المفكرين .
3. الإشكالات المتعلقة بمسائل: العلاقة بين الوعي والواقع ،
تشير هذه الإشكالية المركبة ، من جهة ، إلى العلاقة الجدلية ( التأثير المتبادل ) بين الوعي والواقع ، بمعنى أن كل منهما يغني الآخر ويغتني منه ، حتى في الحالة التي يمكن أن يكون للوعي درجة من الاستقلال النسبي عن الواقع . إن الواقع والوعي يسيران هنا بخطين متوازيين جنباً إلى جنب بحيث يمكن أن يكونا متلاصقين ، بل وأحياناً متداخلين . ومن جهة أخرى ، فإن هذه الدرجة من الاستقلالية للوعي (الفكر ) عن الواقع الملموس ، هي التي تسمح لهذا الوعي أن يسبق عصره ، وأن يكون حاضرا ( معاصرا) في أكثر من مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي ، أي أنه يطير ( إذا جاز التشبيه ) في رحلته التاريخية هذه بجناحين اثنين هما التراث والمعاصرة معا وفي آن واحد.
4. إشكالية الشدة التراثية ، حيث تتناسب هذه الشدة طردا مع العمق الزمني للتراث . فجرّة الفخار التي عمرها ألفي سنة هي أكثر شدة تراثية من مثيلتها التي عمرها ألف سنة فقط . وينطبق هذا الأمر (مسألة العمق الزمني/ الأسبقية ) على كل أنواع التراث ، وبشكل خاص على الآداب والفنون والصناعات والمخترعات التكنولوجية المختلفة . وجدير بالذكر هنا أيضاً ، أن أمر هذه " الشدة " التراثية ، لا يتعلق بالعمق الزمني ( بالأسبقية )للتراث فقط ، وإنما أيضاً بالقيمة الذاتية ( الداخلية ) لهذا التراث، فتتعلق الشدة التراثية بشريعة حمورابي ـ على سبيل المثال ـ من جهة بعمقها الزمني التاريخي ( 1790 ق.م )، ومن جهة أخرى بمضمونها ، اي بعمقها الإنساني . بغض النظر عن قبولنا أو رفضنا لكثير مما ورد فيها من قوانين مرتبطة بزمانها .
5. إمكانية التوظيف التنموي للتراث ، بمعنى أن يجد المرء / الشعب في ماضيه ، ما يدفعه على العمل والإنتاج في حاضره . فحديث الرسول ( ص ) " المسلمون شركاء في ثلاث ، في الكلأ والماء ، والنار"، إنما يجسد برأينا بعدا اشتراكيا وفق مفاهيم العصر الحاضر ، ويعطي الضوء الأخضر بالتالي لتأميم وسائل الإنتاج الكبيرة ، وجعل ملكيتها اجتماعية ( ملك الأمة ) وليس ملك عدد محدود ومحدد من أفراد المجتمع ، وذلك على غرار الكلأ والماء والنار .
6. وأخيراً ، لابد من الإشارة إلى دور الاستعمار الغربي ( القديم والجديد )في تخليف وطننا العربي ، وبالتالي في خلق وتكريس الفرق بين تراثنا ومعاصرة الغرب ( بالمعنى الإصطلاحي ) وفي الحرص على إبقائنا دولا مستهلكة ، أي غير منتجة ( أي عملياً متخلفة ) لكي نظل نستهلك منتجاتهم هم وليس ماننتجه نحن!!. إن الدول الغربية المتطورة تقنيا واقتصاديا ،تحتكر لنفسها اليوم العلم والتكنولوجيا والديموقراطية ، وتترك لنا فقط حرية الاستجداء. وها هو شعب سورية يستجدي اليوم أصدقاءه المفترضين ( المعاصرة ) لكي يفرضوا وقف " الأعمال العدائية " لبشار الأسد وفلادمير بوتين على أطفاله ونسائه وشيوخه ، بل و لكي ينفذوا قرار مجلس الأمن رقم 2254 . نعم إننا نستجدي اليوم ،ممن يصغر تراثهم أمام تراثنا ، وتتفوق معاصرتهم على معاصرتنا ، نستجديهم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان .
وليس من النافل هنا أن نأتي بمثال العراق ، الذي غاضهم ، لابل أخافهم تطوره العلمي والتقني ، فغزوه عام 2003 ودمرت جيوشهم وأسلحتهم " المتطورة " الحرث والنسل فيه ، وفرضوا عليه ديموقراطية المحاصصة والسرقة ، واستبدال التعايش الأخوي ( حتى في صورته النسبية ) بين كافة مكوناته بفيدرالية تقسيمية محاصصية كاذبة ، محولين ذلك التعايش العراقي التاريخي الأخوي بين السنة والشيعة من جهة وبين العرب والكرد من جهة أخرى إلى عداوة جغرافية ( شمال ـ جنوب ـ وسط ) تدخل في باب خلق ورعاية الفتنة بين هؤلاء الإخوة ، ولا علاقة لها لابالتراث ولا بالمعاصرة . وكانت"داعش " هي الجوكر الذي راهن ويراهن عليه الغزاة لكسب معركتهم الخاسرة مع الشعب العراقي .
فيا إخوتنا في الغرب اعلموا أن أمتنا وشعوبنا ، وربيعنا العربي ، وديننا الإسلامي وتراثنا هم مع المعاصرة ، فدعونا نتعايش معاً بحرية وأخوة وسلام ، ولا تفرضوا علينا ـ بالله عليكم ـ عملاءكم ، مثل بشار الأسد ، ونوري المالكي ، وأبو بكر البغدادي ، ونتنياهو بقوة السوخوي والميغ والميراج والكوبرا والبراميل المتفجرة . دعونا نقرر مصيرنا بأنفسنا ، يامن نعترف نحن بتفوقهم علينا اليوم ، حتى ولو أنكروا هم تفوقنا عليهم بالأمس .