الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ماكرون الروسي في دمشق

ماكرون الروسي في دمشق

09.09.2020
عمر قدور



المدن 
الثلاثاء 8/9/2020 
مساء الأحد وصل إلى دمشق نائب رئيس الوزراء الروسي، المسؤول عن الملف الاقتصادي يوري بوريسوف، واستقبله في المطار معاون وزير الخارجية. هذا خبر باهت جداً، كذلك هي الطريقة التي أوردته فيها وكالة الأنباء التابعة للأسد "سانا"، بخلاف ما سرّبته الأوساط الرسمية الروسية للإعلام عن الزيارة ذات الطابع الاستثنائي لوفدها المتكامل، بقيادة وزير الخارجية سياسياً، مع وجود بوريسوف للجانب الاقتصادي ومستشارين عسكريين يعوّضون تخلف وزير الدفاع عن الزيارة.  
بحسب التسريبات الروسية، سيكون هناك ماكرون روسي في دمشق هو سيرغي لافروف الذي مضى على آخر زيارة له إليها ثماني سنوات، وكما أذنت زيارته تلك عام 2012 بتعميق التدخل الروسي فإن نظيرتها الأخيرة ستضع خريطة للفترة المقبلة. وعلى نحو خاص، ستضع بشار الأسد أمام استحقاقات خريطة الطريق الروسية. مثلما فعل ماكرون في بيروت، عندما اجتمع بالطبقة السياسية الحاكمة ووضعها أمام مسؤولياتها، سيضع لافروف الأسد أمام مسؤولياته حاملاً إليه تصوراً متكاملاً للإنقاذ! 
لا نعلم ما إذا كانت الاعتبارات البروتوكولية الروسية قد أجّلت وصول لافروف إلى اليوم التالي "الاثنين"، وربما جعلت وزير الدفاع يتخلّف عنها كي لا يكون تحت قيادة زميله في الخارجية، لكن ما يلفت الأنظار بروتوكولياً أن معاون وزير خارجية الأسد هو الذي كان أيضاً في استقبال لافروف، وغياب الوزير وليد المعلم ليس لسبب طارئ أو قاهر إذ سيشارك لافروف المؤتمر الصحافي لاحقاً، ليعلن ألا علاقة بين الانتخابات الرئاسية المقبلة وأعمال اللجنة الدستورية لأن الانتخابات ستجري في موعدها العام المقبل، مع ترك الدستور الجديد لمناقشات اللجنة بلا أي التزام زمني. لنا أن نتذكر، في مناسبات سابقة، كيف كشف الإعلام الروسي عمّا هو نقيض بروتوكولياً، مثل منع بشار الأسد من المشي إلى جوار بوتين في مطار حميميم، أو استدعائه بل أخذه في طائرة شحن إلى روسيا، أو مثوله إلى جانب بوتين مع وجود العلم الروسي فقط. بينما الآن، في زيارة يُفترض أنها استثنائية وشاملة، لم يُستقبل الوفد الروسي في المطار بنظرائه. 
لسنا نحن من يقسر الوقائع لتشبيه زيارة لافروف بزيارة ماكرون، فالتسريبات الروسية هي التي اقتبست من زيارة الأول إلى بيروت، ومنحتها أهمية بخلاف العادية "إذا لم نقل البرود" الذي تعاطى  معها الإعلام الأسدي. قد يُقال أن عدم الاحتفاء الأسدي بها دلالة إضافية على الامتعاض منها، وهو مشابه للامتعاض الذي كظمه المسؤولون اللبنانيون وهم يتلقون التقريع من ماكرون. الاحتمال الأخير لا يقوم على التسريبات الروسية فقط، بل ساهمت فيه المعارضة السورية التي أشاعت أجواء من "الإيجابية" إثر لقاء المبعوث الروسي بممثليها في هيئة التفاوض في جنيف، ونقلت عنه نصيحته لهم بالمضي في المفاوضات وتجاوز تعنت الوفد الأسدي الذي أتى إليها مرغماً بضغط من موسكو. 
في العديد من المناسبات السابقة أبرزت موسكو سطوتها على سلطة الأسد، بما يفوق الواقع أحياناً، والجانب الأهم في ذلك هو القرار العسكري الذي أخضعته لتفاهماتها الإقليمية أو النكوص عنها، ثم ما شاع قبل أشهر عن ضغطها على بشار في الجوانب المتعلقة بالفساد. الجانب السياسي بقي في منأى نسبياً، والتسويف الذي أظهرته وفود بشار إلى جنيف "في الجولات الأولى ثم مفاوضات اللجنة الدستورية" كان مسنوداً بدعم روسي يلقي باللوم على المعارضة، ومدعوماً بمحاولات تهرب روسية عبر مسار أستانة، والمحاولة الفاشلة لابتداع مسار للمفاوضات في سوتشي، مع الأخذ في الحسبان التفسير المتطابق بين الجانبين للقرار 2254، تحديداً الإشارة إلى كون العملية السياسية بقيادة سورية.  
عموماً كانت تفاصيل الضغوط الروسية غير معلنة، غايتها إظهار السطوة من دون البناء عليها بالتزامات روسية واضحة، بخلاف ماكرون الذي أتى ليعرض على المسؤولين اللبنانيين صفقة فيها التزامات متبادلة. لذا، في التمهيد لزيارة الوفد الروسي الأخيرة، بدت موسكو كأنها تقرأ من كتاب باريس في الترويج لدور روسي مشابه في سوريا، ولصفقة واضحة ومتكاملة مع بشار الأسد بعد سنوات من التركيز على المستوى العسكري، سواء لاستعادة المزيد من المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد أو لاكتساب قواعد عسكرية روسية وتوسيعها. 
وجه التشابه الأهم بين الزيارتين وجود بلد منهار وسلطة محلية غير مبالية، مع حفظ الفوارق بين التركيبة اللبنانية الفاسدة والتركيبة الأسدية الفاسدة والدموية معاً. من أهم أوجه الاختلاف أن موسكو تدخل عصراً من الاستعمار انقضى أوروبياً، بينما تتشبه اليوم بباريس كقوة وصاية بائدة، وسيتحدث لافروف في المؤتمر الصحافي نهاية الزيارة عن انتصار يشبه انتصارات ذلك الزمن الاستعماري، ويكرر النفاق المعتاد حول سيادة البلد الذي خرج منه زميله بوريسوف بسلة من الاتفاقيات الاقتصادية لصالح حكومته.  
جدير بالذكر أن أقوالاً للمبعوث الأمريكي جيمس جيفري لوفد المعارضة في اللجنة الدستورية، تطالب الوفد بالنظر إلى ما بعد بشار، ساهمت أيضاً في إشاعة أجواء إيجابية حول زيارة الوفد الروسي إلى دمشق، وانتظار أن تكون زيارة تأسيسية تحت الإيحاء بوجود تفاهم روسي أمريكي. إلا أن الموسم الانتخابي الأمريكي لا يشجع على الظن بنضوج صفقة ما، فسوريا ليست في قائمة أولويات الناخب الأمريكي ليسعى ترامب إلى إبرامها بأي ثمن، وإيران "الشريك الأساسي في سوريا" تنتظر رحيله لتتنعم مع بايدن بما يمكن تسميته بعهد أوباما2. 
إذاً، حدثت الزيارة وانتهت على النحو المعتاد روسياً وأسدياً. لم يقدّم لافروف ذلك الـ"ماكرون" المقلّد الذي وعدت التسريبات به، ولا عزاء خاصة للواقعين تحت سيطرة الأسد، واليائسين منه مع قليل من العشم بالأوصياء عليه. من جهتها، يبدو أن اللعبة قد استهوت موسكو لترمي كل مدة حجراً في بركة الحديث عن التغيير في سوريا، عبر تصريح على شاكلة عدم التمسك بأشخاص أو تسريب عن ضغوط تمارسها وراء الكواليس، لتنتعش بورصة التكهنات بقرب تخليها عن بشار، وليخرج كل مرة لافروف ضاحكاً كلافروف الذي نعرفه لا أكثر ولا أقل.