الرئيسة \  واحة اللقاء  \  رهانات تركية على إثارة القلق شرق المتوسط

رهانات تركية على إثارة القلق شرق المتوسط

08.05.2019
بشير عبد الفتاح


الحياة
الثلاثاء 7/5/2019
بإصرارها على مباشرة عمليات التنقيب عن النفط والغاز قبالة شواطئها، أو في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص التركية من دون اتفاقات تتيح ترسيم حدودها البحرية وتعيين مناطقها الاقتصادية، بالتوازي مع مواصلة التحرش "الجيواستراتيجي" بجيرانها في حوض شرق المتوسط، بدت تركيا عازمة على لعب دور مثير القلق (Trouble maker) في الإقليم، الذي قدَّرت دراسات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية كمية احتياطيات الغاز الطبيعي الكامنة في أعماقه بـ 340 تريليون قدم مكعب، ومعها بلايين البراميل من النفط الخام.
أبت أنقرة إلا أن تعطّل مساعي دول الجوار في الحوض، ومواصلة عمليات التنقيب والمسح الزلزالي عن النفط والغاز في مياهها الإقليمية ومناطقها الاقتصادية الخالصة، من خلال منع البحرية التركية شركات إيطالية وفرنسية وأميركية مختصة من ممارسة المهام الموكلة إليها في هذا الصدد، في وقت لم تتورع أنقرة في المقابل عن إرسال سفن تركية مجهَّزة لمباشرة عمليات التنقيب والمسح الزلزالي، سواء في المياه التركية أم في مياه الشطر الشمالي من جزيرة قبرص، بدعوى حصولها على تفويض من الأخيرة بهذا الصدد، من دون أساس قانوني يتمثل في إبرام اتفاقات لترسيم الحدود البحرية تتيح تعيين المياه الإقليمية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة للدولة التركية، علاوة على التهديد باستخدام القوة العسكرية ضد الدول التي تمنعها من مواصلة تلك الأنشطة غير القانونية داخل مناطق تعتبرها أنقرة ضمن مجالها البحري أو منطقتها الاقتصادية التي تمتد لمسافة 200 ميل بحري وفق زعمها، والتهديد بتحويل منطقة شرق المتوسط إلى مسرح لأنشطة عسكرية استعراضية من قبل القوات البحرية والجوية التركية، بالتزامن مع انتهاك مقاتلات أنقره وسفنها الحربية المجالات الجوية والبحرية لدول مثل اليونان وقبرص على نحو متكرر، وإجرائها محادثات مع شمال قبرص من أجل إقامة قاعدة بحرية عسكرية تركية هناك، وتعزيز وجود سلاح البحرية التركي شرق البحر المتوسط من خلال تسيير دوريات عسكرية في المياه الدولية بين قبرص وإسرائيل وتركيا.
ورداً على تلك الخروق التركية، تقَّدمت الحكومتان القبرصية واليونانية بشكاوى إلى رئيس مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، اتهما فيها الحكومة التركية بـانتهاك سيادة البلدين على مياههما الإقليمية، وخرق حقوقهما السيادية في مناطقهما الاقتصادية الخالصة، فضلاً عن انتهاك التشريعات ذات الصلة، ولاسيما قانون البحر الإقليمي، علاوة على انتهاك الطيران الحربي التركي المجالين الجويين لقبرص واليونان على نحو متكرر.
وكثيرة هي الأسباب التي دفعت تركيا إلى اقتراف تلك الممارسات الاستفزازية، أبرزها: تعاظم احتياجها إلى الطاقة في ظل افتقارها إلى مصادرها، وتشديد العقوبات النفطية الأميركية على إيران، وتفاقم الديون التركية الخارجية في مجال الطاقة، علاوة على التوتر المزمن الذي يلقي بظلاله، ولأسباب متنوعة، على علاقات أنقرة بالكثير من دول إقليم شرق المتوسط كاليونان وقبرص وإسرائيل، ثم مصر، وهو التوتر الذي اشتدت وطأته بعد اكتشاف آبار النفط والغاز في الإقليم قبل سنوات قليلة مضت، وشروع الدول الأربع آنفة الذكر في إبرام اتفاقات لترسيم الحدود البحرية، توطئة لـ"قوننة" تقاسم ثروات النفط والغاز في ما بينها، في وقت تمتنع تركيا عن الانخراط في النظام القانوني الذي يتيح هذا الأمر، والقائم بالأساس على اتفاق البحار لعام 1982 في شأن استغلال تلك الثروات. كما تصر أنقرة على اعتماد تفسير مغرض ومشوَّش للقانون الدولي البحري، مدعية أنه يمنحها جرفاً قارياً ومنطقة اقتصادية يمتدان لمسافة 200 ميل بحري، فيما يقلص امتداد المياه الإقليمية لقبرص إلى 14 ميلاً بحرياً فقط، بما يحرمها من جرف قاري أو منطقة اقتصادية خالصة.
وبناء عليه، تغدو الاتفاقات التي أبرمتها قبرص اليونانية، سواء لتحديد الحدود البحرية مع كل من مصر ولبنان في العامين 2003 و2007 على التوالي، أم مع إسرائيل نهاية العام 2010، أم تلك التي أبرمتها بغرض مد خطوط الغاز إلى أوروبا، باطلة، فيما تشكل عمليات التنقيب عن النفط والغاز وإجراء المسح الزلزالي قبالة السواحل القبرصية، انتهاكاً سافراً للسيادة البحرية التركية كونها تتم داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لأنقرة.
وتناهض تركيا التحالف الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص منذ الإعلان عنه في العام 2014، وتعتبره موجهاً ضدها، على رغم النفي المتكرر للدول الثلاث. ورفضت أنقرة البيان الختامي للقمة الخامسة التي استضافتها العاصمة القبرصية نيقوسيا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، والذي تضمَّن دعوة إلى حل القضية القبرصية وفق قرارات الأمم المتحدة، كما اعترضت أنقرة على اتفاق اليونان ومصر وقبرص على إجراء مناورات عسكرية مشتركة في شكل دوري، كمناورات "ميندوزا" البحرية قرب سواحل جزيرة رودوس. كما عبَّر الأتراك عن قلقهم، من اتفاق وزراء دفاع الدول الثلاث في كانون الأول (ديسمبر) 2017 على تأسيس آلية ثلاثية للتعاون العسكري، تتضمن زيادة التدريبات المشتركة للدول الثلاث في مجالات الدفاع ونقل الخبرات العسكرية والتدريبية وتبادلها في الكثير من المجالات، كمجال البحث والانقاذ ومواجهة التهديدات المشتركة.
في موازاة ذلك، لا تمل أنقرة السعي إلى توظيف القضية القبرصية لتعظيم نفوذها في شرق المتوسط ومضاعفة مكاسبها من ثرواته، عبر محاولاتها فرض واحدة من ثلاث صيغ لتسوية تلك القضية، فإما ضم الشطر الشمالي من قبرص إلى تركيا، أو إعلانه دولة مستقلة، أو توحيده مع الشطر اليوناني. ففي أذار (مارس) 2012، هدَّد وزير الشؤون الأوروبية في الحكومة التركية إيجمين باجيس بأن بلاده ستدرس ضم شمال قبرص إليها، في حال فشل المحادثات بين القبارصة اليونانيين والأتراك في شأن إمكان التوصل إلى تسوية نهائية لأزمة الجزيرة المقسَّمة منذ غزو تركيا لها في عام 1974.
في غضون ذلك، أطلت برأسها ملامح هشاشة رهان تركيا على حماية أمن الطاقة الخاص بها من خلال الاعتماد على وارداتها النفطية والغازية من روسيا والعراق وإيران وقطر، في ظل حالة الانكشاف "الجيواستراتيجي" التي تكتنف الواردات التركية منها، مع تدهور علاقات تلك الدول مع المجتمع الدولي ومحيطها الإقليمي، فضلاً عن سعي الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي إلى تقليص اعتماد الأخير على مصادر الطاقة الروسية، عبر إيجاد بدائل لها من شرق المتوسط والولايات المتحدة والجزائر.
وتتنوع المؤشرات التي تشي بتواضع فرص نجاح تركيا في مواصلة دور مثير للقلق، يمكن أن يعطل جهود شركاء إقليم حوض شرق المتوسط الرامية إلى استغلال ثرواته، بغية فرض إرادتها على أولئك الشركاء، سواء في ما يخص نصيبها من تلك الثروات أم في ما يتصل بحملهم على القبول بأي من الطروح التركية لتسوية القضية القبرصية. فمن جهة، تمكَّنت مصر واليونان وقبرص وإسرائيل من بناء نظام قانوني معترف به دولياً لتنظيم الإفادة من هذه الثروات وتشريعها عبر إبرام معاهدات ثنائية وإقليمية لترسيم الحدود البحرية في ما بينها، وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منها، ثم إيداع تلك المعاهدات لدى الأمم المتحدة لتكتسي بطابع دولي، الأمر الذي خوَّلها مباشرة عمليات التنقيب عن الغاز والنفط داخل نطاق تلك الحدود والمناطق. ومن جهة أخرى، نجحت الدول الأربع في تدشين مشاريع طموحة لمد خطوط أنابيب بقصد نقل نفط وغاز حوض شرق المتوسط إلى أوروبا، وهي مشاريع تحظى بتأييد غربي وترحيب أميركي ومباركة من "الحلف الأطلسي"، كونها تسهم في إنجاح الاستراتيجية الغربية الرامية إلى تحرير أمن الطاقة الأوروبي من الاعتماد المريب على مصادر الطاقة الروسية، وتنويع الروافد التي يمكن من خلالها تلبية الاحتياجات الأوروبية المتزايدة من النفط والغاز. كما تتناغم تلك المشاريع مع مساعي بروكسيل وواشنطن لتجديد عقوبات كانتا قد فرضتاها على روسيا جراء ضمها جزيرة القرم في العام 2014، وذلك على خلفية إثارة موسكو التوترات مجدداً مع أوكرانيا نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
ومن القاهرة، التي جدَّدت إدانتها السياسات التركية الاستفزازية والمهددة لاستقرار المنطقة، أعلن وزراء الطاقة في مصر وإيطاليا واليونان وقبرص والأردن وإسرائيل وفلسطين، تدشين المنتدى الاقتصادي لغاز شرق المتوسط، الذي سيتخذ من القاهرة مقراً له. كما يرنو المنتدى إلى العمل على إنشاء سوق إقليمية للغاز تخدم مصالح الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب، وتنمية الموارد على الوجه الأمثل وترشيد تكلفة البنية التحتية، وتقديم أسعار تنافسية، وتحسين العلاقات التجارية.
وبينما تبدي واشنطن استعدادها لإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل واليونان في شرق المتوسط، ندد المجلس الأوروبي في آذار (مارس) 2018، بمواصلة تركيا أنشطتها غير القانونية في شرق المتوسط، مطالباً إياها بالتخلي الفوري وغير المشروط عن تهديد دول حوض شرق المتوسط والامتناع عن أية تصرفات تضر بعلاقات حسن الجوار معها، فيما تبقى تركيا، المثقلة بأعبائها الداخلية، وبتحالفها القلق مع واشنطن، والراكنة إلى مظلة "الأطلسي" المهترئة، والمتعلقة بتلابيب سراب الولوج إلى الفردوس الأوروبي، أكثر حذراً في ما يخص الانزلاق إلى غياهب أي سياسات تصعيدية استفزازية في شرق المتوسط ربما تزج بها في أتون مواجهة انتحارية أو بالأحرى مستحيلة، مع أولئك الشركاء الذين لم يتحرروا بعد من استعلائهم المزمن عليها وتشكيكهم المتواصل في نياتها.
كاتب مصري.