الرئيسة \  تقارير  \  تقرير المحافظون الجدد أيدلوجية قاتلة ومستمرة!

تقرير المحافظون الجدد أيدلوجية قاتلة ومستمرة!

27.09.2021
أحمد مصطفى جابر


بوابة الهدف
الاحد 26/9/2021
ما بين اعتباره نهاية مرحلة أو بداية مرحلة، وهما سمتان لا تمثلان المعنى نفسه في التاريخ كما قد يوحي التفكير الممتد على خط مستقيم، كان حدث الحادي عشر من سبتمبر ربما حلقة متوهجة في سلسلة أكبر، والعامل المفجر كما يقال، أو العنصر الذي افتقدته معادلة كيميائية على مدى عقود طويلة.
وبسبب هذه الاستثنائية، فإن دراسة هذا الحدث وتحليله تمتد على أكثر من اتجاه، ليست بنمط ثنائي أو ثلاثي الأبعاد، فقط، بل بقوس ألوان لا نهائي/ في معالجة الحدث ومقدماته، وما سيق من مبررات له/ من ناحية إضافة طبعًا إلى الفاعلين فيه، ثم من ناحية أخرى ردة الفعل التي أخذت منحى غامض وغير مفهوم في السياق العام، ولا يمكن إيجاد ترجمة لها على الأغلب في سياق علم النفس السلوكي.
محور الشر
في مساء يوم 11 سبتمبر 2001، في خطاب مسجل مسبقًا، أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أن أمريكا تعرضت للهجوم لكونها "منارة العالم الأكثر إشراقًا للحرية والفرص، ولن يمنع أحد هذا النور من السطوع"، وقد مثل ذلك العام (2001) انتقال العالم إلى الألفية الجديدة، بعد عقد التسعينات الذي اكتسبت فيه الولايات المتحدة لقب القوة العظمى الرئيسية الخداع بعض الشيء. حيث فرض انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية فكرة تفوق ايديولوجي وعسكري أمريكي. ويرى أندرو باسيفيتش رئيس معهد "إينستيتوت فور ريسبنسبل ستايتكرافت" للدراسات، الذي يدعو إلى ضبط النفس على صعيد السياسة الخارجية، أن "هذا التعنت الأيديولوجي" و"هذه القناعة بأن القوات الأمريكية باتت لا تقهر" دفعتا "بوش والمحيطين به إلى اعتبار 11 أيلول/سبتمبر صفعة لا تغتفر بل أيضًا ليظهروا من دون أدنى شك" قوة الولايات المتحدة المطلقة. وطرح الرئيس الأمريكي تعريفاً فضفاضاً جداً "للحرب على الإرهاب" محاطاً بمحافظين ومؤيدين للتدخلات الخارجية عازمين لنشر النموذج الديمقراطي في العالم. وقال يومها "إما أن تكونوا معنا أو تكونون مع الإرهابيين"، معلناً "حملة طويلة غير مسبوقة على كل الأنظمة الداعمة للإرهاب".
وفي كانون الثاني/يناير 2002 وبعد الإطاحة بنظام طالبان وتوجيه ضربات موجعة إلى تنظيم القاعدة، حدد بوش "محور الشر" الذي أعلن عنه ولكن بشكل بعيد جدا عن الهدف الأاساسي التبريري الأول، ليضم إيران و العراق وكوريا الشمالية. وظناً منها أنها لا تزال تتمتع بتعاطف عالمي مع الولايات المتحدة تبلور مساء 11 أيلول/سبتمبر، انخرطت إدارة بوش في مسار محفوف بالمخاطر أوصل إلى الحرب في العراق، متهمة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين -من دون أدنى دليل- باخفاء أسلحة دمار شامل.
إلا أنها كانت مخطئة. ويوضح إيلي تينيباوم: "تلاشى الإجماع سريعاً جداً وراحت صورة الولايات المتحدة تتراجع مع انحراف الحرب على الإرهاب عن مسارها". فالغزو الأمريكي للعراق العام 2003 أثار استياء عارماً لدى جزء كبير من الرأي العام العالمي و"سيسمح بعودة الحركة الجهادية العالمية التي كانت أضعفت بعد 2001". وبرز جيل جديد من الجهاديين يضم شباباً من المنطقة فضلاً عن غربيين أتوا "لمواجهة قوى الاحتلال" بعد سقوط صدام حسين. وبعد عشر سنوات على ذلك ترك انسحاب الأمريكيين فراغاً سمح بازدهار تنظيم الدولة الإسلامية وإعلانه "دولة الخلافة" في مناطق عراقية سورية. واضطرت الولايات المتحدة إلى العودة اعتباراً من 2014 على رأس تحالف عسكري دولي.
بعد الانسحاب من أفغانستان كتب كارلوس لوزادا، في 4 أيلول سبتمبر 2021، مقالاً طويلاً في الواشنطن بوست راجع فيه الإنشاء الأمريكي والتقييم للأحداث التي وقعت قبل عقدين من الزمن، استنادًا إلى مخزون زنقد من 15 من أفضل الأعمال والتقارير التحقيقية المختلفة التي نشرت حول هذا الموضوع وقد قال لوزادا حرفيا "كان بوش على حق. القاعدة لم تكن قادرة على استنفاد وعد أمريكا. فقط نحن أنفسنا كنا في وضع يسمح لنا بإلحاق ذلك بأنفسنا". يعتمد هذا المقال بشكلٍ رئيسي على تقرير لوزادا، ومقالات أخرى علقت عليه.
ملخص عنوان مقال لوزادا "كان 11 سبتمبر بمثابة اختبار. لقد فشلت أمريكا هناك" الحالة الذهنية العامة التي ظهرت من جميع الأعمال التي راجعت أحداث 11 سبتمبر والرد الأمريكي عليها ومسألة "الحرب على الإرهاب" كما دشنتها إدارة جورج بوش، تقريبًا: فشلت الولايات المتحدة في أعقاب 11 سبتمبر، ويشير جميع المؤلفين تقريبًا، بالاسم أو ضمنيًا، إلى الجاني الرئيسي: المحافظون الجدد، وهي حركة سياسية استولت على مقاليد الدولة الفيدرالية الأمريكية في أعقاب هجمات القاعدة، حركة تحمل إيديولوجيا لم تدفع بالبلد فقط إلى الانخراط في حربين، في أفغانستان ثم في العراق، وانتهت بتراجعات مؤسفة، بل ساهمت بشكل أكبر في إضعاف الشرق الأوسط. شرق القوة العالمية الأولى .
" الحرب على الإرهاب " في قلب الفكر المحافظ الجديد ولكن ما معنى هذا؟
زعم المحافظون الجدد أن القرن الحادي والعشرين هو تتويج للانتصار الحصري الذي حازته أمريكا في الحرب الباردة والاختلال الذي تلاها لتنفرد كقوة عظمى بلا منازع، ولكن وقائع التاريخ أو المستقبل اللاحق لهذا الاحتفال الصاخب من قبلهم، خيبت آمالهم، فبعد كل الجرائم التي ارتكبوها بلا خجل حول العالم، سيتحملون حصريًا أيضًا مسؤولية الخزي والضعف الأمريكي الذي لا يمكن إنكاره خاصة في الشرق الأوسط، الخاصرة الرخوة للجغرافيا السياسية العالمية بدون منازع، و كانت مساهمتهم الرئيسية في هذا الضعف فاضحة.
في قلب الأيدلوجية المهجنة للمحافظين الجدد كانت هناك مجموعة من المفاهيم، أبرزها صعد بعد أحداث أيلول/ سبتمبر ويدور حول ما سمي (الحرب على الإرهاب) والذي منح اختصارًا من أربع أحرف GWOT تعني الحرب العالمية على الإرهاب، والتي أدت إلى إخفاقين كبيرين يليقان بالقوة العظمى التي بلا منازع، في أفغانستان والعراق أيضًا.
وهذا لم يكن فقط إخفاقًا عسكريًا ولكنه أخذ أيضًا شكل إفلاس سياسي، وكما كتب لوزادا أنه باتباعه أيدلوجية المحافظين الجدد "عرض بوش على عدوه بالضبط ما كان يتوقعه: لقد أظهر أن الولايات المتحدة كانت في حالة حرب مع الإسلام، وأننا كنا صليبيين جدد".
وقد عبر ستيف كول في كتابه "Ghost Wars "أفضل تعبير ربما عن تورط وكالة المخابرات المركزية في أفغانستان قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر: "في الوقت الحالي، من الأسهل على الباحث أن يشرح كيف ولماذا حدث 11 سبتمبر بدلاً من شرح العواقب". فخلال تلك الفترة التي أعقبت ذلك، تخيلت واشنطن إعادة تشكيل العالم على صورتها، فقط لتكشف عن صورة قبيحة عن نفسها للعالم.
ومع ذلك، كان المحافظون الجدد قد اتخذوا خطوات أولى مشجعة للغاية في طموحهم الأساسي: المجال الاقتصادي. بدأ تأثيرهم في عهد الديموقراطي جيمي كارتر، الرئيس من عام 1977 إلى عام 1981. والذي طور عداءًا جذريًا للصفقة الجديدة، السياسة الاجتماعية التقدمية التي اعتمدها الرئيس فرانكلين دي روزفلت لإعادة استيعاب الأزمة الاقتصادية الكبرى في الثلاثينيات والمتواصلة، وجاءت أيدلوجية المحافظين الجدد كجزء من حركة أوسع تؤيد نماذج النجاح الشخصي وأولوية الجدارة الفردية "دعه يعمل .. دعه يمر" على العقد الاجتماعي. ومنذ عام 1963، اعتبر إيرفينغ كريستول، المؤرخ وعالم الاجتماع الجمهوري اليميني، وأحد آباء المحافظين الجدد، أن دولة الرفاهية "قد "عفا عليها الزمن"، ودعا إلى التخلي عن المنافع الاجتماعية الموجهة للجمهور العام.
وفي ظل رئاسة رونالد ريغان (1981-1989)، انطلق "المحافظون الجدد"، متحالفين مع اليمينيين العدوانيين الذين مثلهم بجدارة ديك الحرب "ديك تشيني" وزميله دونالد رامسفيلد، والذي سيجلس في مقر القيادة العليا في البيت الأبيض بعد عشرين عامًا من رئاسة ريغان بعد 11 سبتمبر.
ما هو الفرق بين المحافظ الجديد واليميني العدواني:
يبدو اليميني أكثر إخلاصًا بالمعنى الحرفي لأفكار كرستول، وهو في ترويجه للوطنية الخاصة به، ليس مهتمًا بإسعاد الشعب ورفاهه أو توسيع الديمقراطية، إنه بشكل ساخر، عبر دعمه الامحدود لحق التسلح الشخصي، يؤمن أن "السياسة تنبع فعلاً من فوهة البندقية"، والفرق بين المحافظين الجدد والقوميين هو أن الأخير، بدافع ساخر من الترويج الوحيد للمصالح الأمريكية، لا يهتم كثيرًا بالمساهمة في إسعاد الشعب أو توسيع الديمقراطية، وعندما يرتدي المحافظون الجدد، من جانبهم، ملابس التقدم والتنظير لفكرة أن المصلحة الأمريكية مصحوبة بنموذج المجتمع الذي تنقله تشكل منارة عالمية واحدة ينوون فرضها.
بعد سقوط جدار برلين في عام 1989 واختفاء الاتحاد السوفيتي، رأى المحافظون الجدد أن قدرتهم على التأثير تزداد أكثر، وتبعًا لتعبير تشارلز كراوثامر أبرز منظريهم فإن هذا التحوّل الكوكبي –سقوط الكتلة الشرقية- "لحظة أحادية القطب"، حيث لم يعد لأمريكا خصم، ويمكنها أن تفعل ما يحلو لها، وهكذا يضع فرانتسيس فوكوياما تشخيصه لـ"نهاية التاريخ" والانتصار النهائي للنموذج الرأسمالي الأمريكي، كما أنه في عام 1996 نشر اثنان من الأيديولوجيين البارزين لهذه الحركة، ويليام كريستول وروبرت كاغان، مقالًا مدويًا أعلنا فيه أن "الهيمنة العالمية الخيرية " للولايات المتحدة جزء من النظام الطبيعي للأشياء ويمكن فرضها. بالقوة في حالة الضرورة.
وهكذا فإن المحافظين الجدد طوروا باستمرار رؤية تكون فيها شرعية حكم بلادهم للعالم من جانب واحد، ناتجة عن نوع من الحق الطبيعي، الفرادة المطلقة، في حيازة سلطة ناتجة عن قوة لا يمكن دحضها، وهذا سوف يؤدي بهم إلى انتاج جدول أعمالهم الخاص للإطاحة بأي ترتيب عالمي سابق على عصرهم.
مثلاً بالنسبة للشرق الأوسط، فإنهم يلخصونه تمامًا حسب النظرية القديمة المتجددة الصاخبة في الهاسبارا الصهيونية، حليف ديمقراطي وحيد محاط بمجموعة من الديكتاتوريات الهمجية، هذه الد من "أصدقاء" و"حلفاء" ولكن "إسرائيل" هي الحليف الوحيد "الموثوق والمحترم" باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في هذه المنطقة التي ستكون ساحة اختبار لأطروحاتهم.
وهكذا عندما شن الرئيس جورج بوش الأب في يناير 1991 حربًا على صدام حسين الذي ضم الكويت، كان مدعومًا من الدول الغربية الكبيرة (المملكة المتحدة، فرنسا، إلخ)، ولكن أيضًا من المغرب و مصر بل أيضًا من سوريا والمملكة العربية السعودية ودول أخرى. ممالك الخليج. لديها تفويض من الأمم المتحدة لإجبار القوات العراقية على مغادرة الكويت، ولكن على عكس آمال المحافظين الجدد، الذين يرغبون في الاستفادة من المكاسب المفاجئة للإطاحة بصدام حسين، يرفض بوش الأب انتهاك قرار الأمم المتحدة وشن قواته لمهاجمة بغداد.
طبعًا لم يستسلموا وواصلوا جعل صدام حسين الفزاعة التي تهدد السلام العالمي، في وقت مبكر من عام 1992، في تقرير سري، دعا بول وولفويتز، وكيل وزارة الدفاع وقائد المحافظين الجدد، إلى "الحرب الوقائية"، أي حرب لا تتوافق مع القانون الدولي، للإطاحة بالرئيس العراقي، وفي عام 1998، كتب هو وبول كاجان رسالة مفتوحة إلى الرئيس بيل كلينتون حثوه فيها على الإطاحة بصدام بالقوة، وهو خطاب سيوقعه حوالي عشرين من المحافظين الجدد.
وعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 بدت الفرصة على الفور وكأنها هبة من السماء لهؤلاء، حيث دعا رامسفيلد في مساء اليوم نفسه حتى قبل ظهور التحقيقات إلى ضرب بقوة ليس فقط القاعدة في أفغانستان بل توجيه ضربة ساحقة لصادم حسين وقال حرفيًا "إضرب بقوة، امسح كل شيء، سواء كانت الأشياء مرتبطة أم لا"، بمعنى أنه ليس مهمًا أن تكون بغداد متورطة في هجمات 11 سبتمبر، بل يجب الاستفادة من الظروف لأن إخضاع أفغانستان ثم إخضاع العراق سيكون نقطة "انطلاق لديمقراطية الشرق الأوسط الكبير"، وبهذا يتم التأكد تمامًا أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنًا أمريكيًا حصريًا، قرن أمريكي جديد حسب أحد مراكز الأبحاث التابعة لجماعة المحافظين الجدد.
"لا يهمني ما سيقوله الفقهاء الدوليون"
في كتابه "ضد كل الأعداء" المنشور عام 2004 ينقل ألبين ميشيل عن ريتشارد كلارك الذي كان رئيسًا لمكافحة الإرهاب في البيت الأبيض في عام 2001، رد فعل بوش على كلمات مستشار تحدث عن القانون الدولي قائلًا "لا يهمني. أقول، نحن ذاهبون لركل الحمار" و"الرسالة"، يكتب لوزادا، "كان لا لبس فيها: القانون هو عقبة في طريق مكافحة الإرهاب الفعالة" والفكرة المركزية للمحافظة الجديدة هي أنه للدفاع عن الحقوق الديمقراطية بشكل أفضل، يجب أن نبدأ بتقليص القانون وتحرير أنفسنا من الديمقراطية.
هذا الغموض هو الذي سيقود أنصار هذه الأيدلوجية إلى زوالهم: فمن ناحية، يريدون أن يقدموا تحت تهديد السلاح الديمقراطية التي تناسبهم للشعوب المحرومة منها، و من ناحية أخرى، ينوون تحقيق ذلك دون الالتفات إلى حقوق الإنسان. ومن هناك سجن باغرام الرهيب في أفغانستان، ثم السجون السرية لوكالة المخابرات المركزية المنتشرة حول العالم، ثم سجن جوانتانامو، ثم اكتشاف جرائم أبو غريب التي ستمثل الحروب في أفغانستان والعراق في هذين البلدين، "يتغير النظام "، هذا التغيير في النظام الذي هو حجر الزاوية في فكر المحافظين الجدد يشبه كتشابه قطر تين من الماء احتلالًا استعماريًا.
من الناحية الرسمية، تدعي المحافظة الجديدة أنها أخلاقية. وحين وجه إلى جورج دبليو بوش خطابه الأول للأمة بعد 11 سبتمبر محددًا محور الشر، حظي بدعم من أكاديميين كبار أبرزهم برنارد لويس، حيث أكد الرجل للقادة الأمريكيين أن العراقيين سيرحبون بقواتهم بحفاوة بالغة تجمع بين الفرح والامتنان اليائس لمحسنيهم، والعالم كله يعرف الباقي طبعًا ولكن الفشل في العراق بعد "نصر" الصدمة الأولى قوبل بتجاهل تام فقام بوش بتعيين منظّر قوي من المحافظين الجدد في منصب جعله حاكمًا أميركيًا في العراق يدعى بول بريمر.وهو شخص يصفه الكثير من النقاد بأن من الصعب العثور على جاهل أكثر منه أو على شخص غارق في قناعاته المتعفنة مثله، وكان محللو وكالة المخابرات المركزية يقطعون شعرهم غيظًا لأن الرجل لا يفكر إلا في استغلال النفط وإنشاء بورصة في العراق، وسوف يرتكب كل خطأ محتمل، بما في ذلك من وجهة النظر الأمريكية، حيث إن يقينها بأن مستقبل العراق يكمن في دولة تشكلها الانقسامات العرقية والدينية سيؤدي بسرعة إلى فوضى عنيفة مروعة بين الأديان، كما سيسمح لنظام بالازدهار يكون فيه لإيران، العدو الإقليمي البارز الآخر لواشنطن، نفوذًا في العراق، التي لم يكن يحلم بها من قبل، وكانت هذه الحرب الأمريكية، من بين أمور أخرى، مقدمة لإخضاع إيران، وستؤدي بسرعة من ناحية أخرى إلى تعزيز موقعها الإقليمي.
في كتابه الحرب الأبدية، يصف دكستر فيلكينز، بعيدًا عن طموحاتهم الرسمية، الأساس الحقيقي لفكر المحافظين الجدد: "بجرعة جيدة من الخوف والعنف والكثير من المال لتنفيذ المشاريع، يمكننا إقناع هؤلاء الأشخاص بأننا هناك من أجلهم. المساعدة"، هذا ما قاله له كولونيل أميركي، والجملة ساخرة، لكنها تلخص هذه الأيديولوجية في بضع كلمات: السيف في يد، والدولار في اليد الأخرى، هذا التفكير بالتمني سوف يثبت بسرعة أنه فارغ مثل يقين المحافظين الجدد الآخرين. وفي اعتراف نادر، بعد عامين من الاحتلال، اعترف رامسفيلد: "ليس لدينا رؤية حول من هم الأشرار"، وسيعترف المنسق السابق للتدخلات في أفغانستان ثم العراق، الجنرال دوغلاس لوت: "لم تكن لدينا أي فكرة عما شرعنا فيه ".
من يصدق أن أمريكا تمثل "الخير"؟
دفعت واشنطن ثمنًا باهظًا باستسلامها ليقين المحافظين الجدد المبني على الجهل المطلق، أخطاء فادحة أدت إلى نتيجة الانهيار السريع بينما يغير الجيش الأمريكي توجهاته الاستراتيجية على أمل عابث متزايد في تحقيق الأحلام.
في عام 2011، أخلت القوات الأمريكية العراق بالكامل تقريبًا، بعد ثماني سنوات من الحرب التي خرجوا منها بشكلٍ قاطع، وبعدها بعشر سنوات فعلوا الشيء ذاته في أفغانستان، معيدين السلطة –رغمًا عنهم- إلى طالبان التي طردوها قبل عشرين عامًا، أي دائرة من العبث هذه، وقد كتب سبنسر أكرمان أن ما تبقى من "الحرب العالمية على الإرهاب" يمكن تلخيصه في فكرة بسيطة: "الإرهابي هو الذي تصنفه على هذا النحو" بعبارة أخرى العدو النافع.
هل تبخرت أيدلوجية المحافظين الجدد؟
اليوم، يقبل معظم المعلقين الأمريكيين إفلاس المحافظين الجدد وعدم جدوى مفهوم الحرب على الإرهاب"، ومع ذلك، هل تبخرت أيديولوجية المحافظين الجدد؟ وكما يقول باهر عزمي، المدير القانوني لمركز الحقوق الدستورية في واشنطن، فإن رد فعل الحكومات الأمريكية على أحداث 11 سبتمبر "لم يكن مجرد سلسلة من السياسات العشوائية وردود غير متسقة، بل كان مجرد بناء. أثرت على ثقافتنا السياسية والقضائية برمتها"، وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأن هذا التأثير الثقافي قد تبخر، وعلى العكس من ذلك، فإن العلامة التي خلفها المحافظون الجدد لا تزال قائمة بشكل لا يستهان به في الرأي العام الغربي، وكل هجوم ترتكبه جماعة جهادية يثير على الفور سيلاً من ردود الفعل التي تذكرنا في جوهرها بتلك التي أعقبت 11 سبتمبر، إنها تبدأ بالميل، المعبر عنه بشكل شديد أو أكثر، إلى مساواة الإسلام في حد ذاته بالشكل الحديث من البربرية، مع نتيجة طبيعية لرؤية إعادة اكتشاف اللهجات القديمة للدفاع عن الغرب في عالم يُنظر إليه على أنه يهدد "قيمه" أكثر فأكثر، أخيرًا، يرافق ذلك رد فعل بافلوفي تقريبًا للسعي في استخدام القوة، في الحد من الحقوق الديمقراطية وزيادة المراقبة غير المنضبطة للسكان (بما في ذلك السكان ضحايا أعمال الإرهاب) الدواء الشافي لقيادة متجددة وأكثر من أي وقت مضى "الحروب ضد الإرهاب " غير الفعالة والتي، في كل مرة، تكون مصحوبة داخليًا بموجة من كراهية الأجانب والعنصرية، وخارجيا، بسياسات تنم عن الاستعمار الجديد.
يسأل أكرمان، كيف لعبت أحداث 11 سبتمبر دورًا في انضمام ترامب إلى البيت الأبيض ؟ يلخص لوزادا تفكيره على النحو التالي:
بدون الحرب على الإرهاب، من الصعب تخيل مرشح رئاسي [دونالد ترامب] يندد بالقائد العام الحالي [باراك أوباما] باعتباره أجنبيًا ومسلمًا غير شرعي - ويستخدم هذه الكذبة كمنصة سياسية ناجحة، وبدون الحرب على الإرهاب، من الصعب تخيل حظر على دخول أراضي الولايات المتحدة لأناس لمجرد أنهم مسلمون، وبدون الحرب على الإرهاب، من الصعب تخيل متظاهرين أمريكيين يوصفون بأنهم إرهابيون.. كان ترامب قوة تخريبية، لكن كان هناك أيضًا الكثير من الاستمرارية فيه. وقد انحدرت هذه الاستمرارية في خط مستقيم من التخلي الذي افترضه المحافظون الجدد للمعايير الديمقراطية والقانون الدولي.
في الواقع، لا تزال أيديولوجية "الحرب على الإرهاب" سائدة في الدول الغربية، كما أنها تحظى بشعبية كبيرة بين الأنظمة من النوع الموجود في الصين أو روسيا وفي أي مكان تسود فيه "الهوية" مصاحبة للتطورات التكنولوجية، شجعت هذه الأيديولوجية في الدول الغربية على توسيع سياسات أمن الدولة حيث يتم إضفاء الشرعية بشكل متزايد على السيطرة على المواطنين، وقد أظهرت قضية بيغاسوس مدى هذه الضوابط التي تهدف رسميًا إلى محاربة "الإرهاب"، ويتم استغلالها لتحقيق أهداف أكثر بساطة من حماية السلطات، وتقترن هذه السياسات، في جميع الحالات تقريبًا، بزيادة ملحوظة ومستمرة في الوسائل المتاحة للشرطة. أما التصور بأن الغرب مهدد بتزايد الجماهير البربرية وحريصًا على سلبها، فهو ينتشر أكثر فأكثر، وهذه ليست سوى عدد قليل من التأثيرات الدائمة التي تركتها أيديولوجية المحافظين الجدد على أذهان الناس.