الرئيسة \  واحة اللقاء  \  صندوق "باندورا" المفتوح على سورية

صندوق "باندورا" المفتوح على سورية

20.08.2014
مالك ونوس



العربي الجديد
الثلاثاء 19/8/2014
إلا من عاش التجربة السورية، خلال ما يزيد عن الثلاثة أعوام الأخيرة، وما شهدته من فظاعات، لا يعرف لماذا أطلق الشعب السوري شعار "يا الله مالنا غيرك يا الله"، بعد تغير طبيعة الحراك وانهمار النيران على رأسه، ثم تشظي البلاد وهيام أبنائها على وجوههم، في كل أصقاع الأرض. لا شك أن كثيرين من أبناء هذا الشعب، وغيره من الشعوب، يعتمدون في أمور حياتهم المتعددة، ونشاطاتهم اليومية، على الاتكال على ربهم، ثم الشروع في أعمالهم، بعيداً عن أي تواكل وجلوس في المنازل، بانتظار فرجٍ ما. وقد كان السوريون متواكلين، أو بعبارة أخرى محجمين، في موضوع التغيير الجذري لنمط حياتهم، وفي العمل على قلب الواقع السياسي في بلادهم ردحاً من الزمن. إلا أنهم، وفي لحظةٍ، كانت قد تجمعت كل الظروف الموضوعية والذاتية لإنضاجها، وتراكمت عقوداً بانتظار شرارة ما، أتت، أخيراً، من الحرائق البشرية التي دشنها محمد بوعزيزي في تونس، في موجة ظلم، قرروا الخروج والاتكال على سواعدهم، في التغيير الذي انتظروه طويلاً.
"خلو الساحة، منذ مدة طويلة، من أي مبادرة لحل النزاع ووقف الحرب، ومن أي تحرك دولي، أو مؤتمر لأصدقاء سورية، او لأعدائها، أو من جنيف 1 أو 2 أو 3. كذلك غياب صور وجوه أعضاء الائتلاف السوري لقوى المعارضة المتخمة والمبتسمة بفضل انتصاراتها الانتخابية"
 
سرعان ما قَدَّ السوريون الشعار الذي راج لديهم، وما زال لسان حالهم، وهو "يا الله مالنا غيرك يا الله"، حين وجدوا أنفسهم منذ البدء وحيدين، على الرغم من كل تضحياتهم، في مواجهة جدار مصمتٍ لا أمل في النفاذ منه نحو الضوء. وقد حاولوا، في هذه الفترة، إيجاد ثغرات ما، أو حتى أمل يوصلهم إلى ما كانوا ينشدون، لكن الفشل كان دائماً في مواجهة آمالهم، فلم يترك لهم فسحةً، يتفكرون خلالها بطريقٍ إلى الخلاص، أو على الأقل إلى النجاة. والآن، وبعد كل ذلك الدمار الذي ظلل حياتهم، وبعد كل هذا الموت اليومي المستمر، والمجازر المتواصلة، صار كل ما يطلبه السوريون فسحة للسلام، وسبيلاً لمواصلة العيش من دون قذائف، أو تَشَرُّد أو ضياع. ولا يمكن وصف حالهم تلك، إلا إذا تمت مقارنتها بمشهد يصور صندوق "باندورا" الأسطوري وقد فتح، في وضح النهار، وعلى مرأى من الجميع، على كل الشرور التي عرفتها البشرية، والتي خرجت لتغلف سماء بلادهم، وتحط فوق أرضها. ثم يُغلق هذا الصندوق، ويصبح من المستحيل فتحه، لإخراج الشيء الوحيد الذي تبقى فيه، وهو بارقة الأمل التي يمكن أن تعطي لحياة هذا الشعب، جدوى أو معنى.
لم يكن يخطر في بال أحد من أبناء الشعب السوري أنه حين يخرج من منزله سيعود إليه، بالضرورة، محملاً على الأكتاف، إن قدرت له العودة، بعد أن كان يعتقد، من قبل، أنه إن خرج من منزله، فإنه قد لا يعود لسبب ما. إلا أن الأمر اختلف حتى وصل الأمر إلى هذه الحالة بل وإلى حالة أكثر يأساً، حيث باتت نسبة كبيرة من أبناء هذا الشعب لا تشعر بالأمان حتى في بيوتها فاستعاضت عنها باللجوء إلى المغاور والأحراج أو مغادرة البلاد إلى البلدان المجاورة، في أكبر موجة لجوء ونزوح وتشردٍ، عرفتها البشرية في التاريخ الحديث. ولا يمر الأمر هكذا، من دون أن يقع من بقي في البلاد، أو غادرها، فريسة مرض وفقر وجوع وعطش، في مفارقةٍ مؤلمة، إذ كان، حتى الأمس القريب، من الصعب تخيل أن شعباً علّم الشعوب الأخرى فنون الزراعة، واعتاد أن ينتج سنوياً فائضاً غذائياً، يكفي حاجة ثلاثة بلدان أخرى، سيقع هذه الواقعة. ولزيادة الطين بلة، أوجدت ظروف الحرب طبقة جديدة من المتسلقين على آمال الشعب السوري وآلامه، هي من الخسّة والجشع، أنها تبيعه أوهاماً في مغادرة البلاد إلى بلاد النعيم الغربي، مقابل كل ما يملك، أو كل ما ادخر طوال حياته، ليجد، في النهاية، نفسه وراء القضبان في دول العبور، أو طعاماً للأسماك التي قذفته إليها مراكب تجار البشر الجدد.
وإن كان الموت والتشرد والفقر أموراً غير كافية، كأضحية يقدمها الشعب السوري على صخرة البشرية، لكي تعيره التفاتةً، فلن يكون في مقدور مشهد دمار مدنه وقراه واستباحة بلاده أن يدعوَا إلى تلك الالتفاتة أيضاً. كما لن تفعل الأمر عينه حقيقة دمار الصناعة السورية، ودمار الزراعة والبنية التحتية، الهشة أصلاً، وخراب مشاريع الطاقة وتوليد الكهرباء والنفط والغاز، وحتى مشاريع مياه الشرب. كذلك، لن تفعل حقيقة اختلاق كيان جديد رابض على صدر الشعب، في رقعة جغرافيةٍ واسعةٍ من البلاد، وإعلانه الخلافة في مشهدٍ، لم يكن ينقص الشعب السوري سواه، حتى تتعزز مآسيه وتتأبد. وهو الكيان الذي من الواضح أن وجوده سيفتح أبواب البلاد على مرحلةٍ جديدةٍ، من التدخل الدولي الذي يمكن أن يطيل أمد الحرب سنوات عديدة، وخصوصاً بعد سيطرته على ربع مساحة العراق، بسرعةٍ قل نظيرها، خالقاً مخاوف جدية لدول كثيرة.
وعلى الرغم من كل تلك المآسي، لا يعجز أي مراقبٍ أو مشاهد عن ملاحظة خلو الساحة، منذ مدة طويلة، من أي مبادرة لحل النزاع ووقف الحرب، ومن أي تحرك دولي، أو مؤتمر لأصدقاء سورية، او لأعدائها، أو من جنيف 1 أو 2 أو 3. كذلك غياب صور وجوه أعضاء الائتلاف السوري لقوى المعارضة المتخمة والمبتسمة بفضل انتصاراتها الانتخابية. أو صورة وزير خارجية سوري، أو من ينوب عنه. كأن في الأمر توافق على أن من الأفضل إبادة هذا الشعب بأكمله خيراً من حل قضيته. وكأن ذلك الصندوق الذي أفرغ شروره على هذه الأرض ما زال يخبئ لأبنائها عجائب وفظائع، لم يألفوها بعد.