الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ذهنية التزييف والمنطق المعكوس لدى اليسار القوموي الشعبوي

ذهنية التزييف والمنطق المعكوس لدى اليسار القوموي الشعبوي

12.05.2019
عبدالباسط سيدا


جيرون
السبت 11/5/2019
سألتُ أكاديميًا جزائريًا، جمعتني وإياه مؤخرًا مناسبة علمية، عن الأوضاع في الجزائر، وعن تطورات الأمور هناك، والتوقعات بخصوص الحل المستقبلي، الذي نتمنى في جميع الأحوال أن يكون لمصلحة الجزائريين، يجنّبهم الخراب والقتل، ويفتح أمامهم وأمام أجيالهم المقبلة الطريقَ نحو مستقبلٍ واعدٍ، يضمن لهم الحرية والعدالة والكرامة.
كان صاحبي مفعمًا بالتفاؤل، يتحدث بحماس ذكّرني كثيرًا بذاك الذي كنا عليه في بدايات الثورة السورية. كان يعتقد بأن رسم معالم جزائر المستقبل بات في متناول الشعب الجزائري الذي يخوض منذ أشهر نضالًا سلميًا عنيدًا عبر التظاهرات والاعتصامات، وهو نضال يستهدف القطع مع سلطة الفساد والاستبداد، سلطة العصابات.
طرحتُ عليه مجموعة أسئلة حول الأوضاع الجزائرية من الداخل، وذلك رغبة مني في سماع الأجوبة من مصدر أكاديمي، من المفروض أن يكون موضوعيًا ضمن الحدود المعقولة. حدثني عن مافيات الحكم والمصالح، وعن أساليبها في قهر إرادة الناس، وسيطرتها على مقدرات البلاد، حتى بات الشعب الجزائري يعاني الحرمان والفاقة، على الرغم من الإمكانات النفطية الكبيرة التي يمتلكها البلد، ووجود مقومات نهضة زراعية وصناعية وسياحية أكيدة. كنت أشعر من حين إلى آخر، وهو يحدثني عن الجزائر، بأنه يحدثني عن سورية، وذلك لشدة التماثل بين ما كان يسرده وما عشناه سوريًا. خاصة على صعيد التحالف بين الفساد والاستبداد. هذا على الرغم من أن الأمر لم يفاجئني قط، فالأنظمة التي سيطرت على مقاليد الأمور في معظم البلاد العربية، عبر الانقلابات العسكرية، ما كان لها أن تستمر لولا أساليب القمع والبطش التي مارستها بحق المواطنين، ولولا سياسات الإذلال التي تعاملت بموجبها مع الناس، وذلك لإرغامهم على التزام شروط التبعية للنظام، وجعلهم في عجز مزمن، يحول بينهم وبين التفكير الحر المستقل، والقدرات المادية التي تمكّنهم من التحرّك والاعتراض. ولعل هذا ما يفسّر عدم حدوث نهضة اقتصادية حقيقية في هذه البلدان، مع وجود الشروط الضرورية والكافية لذلك. بل ما عاشته، وتعيشه باستمرار، هو تراجع شمولي في مختلف الميادين الاقتصادية. فلم تقدم الحكومات العسكرية على إنشاء مشاريع اقتصادية كبيرة تتناغم مع الشعارات الكبرى التي أعلنتها، شعارات المطالبة بالاشتراكية وضرورة الحفاظ على ثروات الشعب، والحرص على تأمين حاجات الناس.
ولم تفسح المجال في الوقت ذاته أمام المبادرات الخاصة الفردية الوطنية، التي كان من شأنها الإسهام في عملية النهوض بالبلد، وتأمين فرص العمل لسكانه.
فقد حرصت الزمر الحاكمة على تطبيق قواعد الشراكة مع كل مستثمر، بل عملت على إسناد المشاريع الأكثر ربحًا إلى المقرّبين، حفاظًا على الأسرار، وتكريسًا لمبدأ احتكار السلطة والثروة، بغية التمكّن من إرغام الناس على أن يكونوا عبيد الحاجة، ليصفقوا للحاكم المؤلّه، ويتزلفوا إلى الزمر المتسلطة المتحكمة عبر شبكة من الأجهزة الأمنية الأخطبوطية.
كنتُ متعاطفًا مع الأكاديمي الجزائري، على الرغم من عدم ثقتي بتفاؤله غير المستند إلى أسسٍ واقعية موضوعية، وبتعويله على حسابات العواطف والانفعالات والرغبات، لا المصالح الخاصة بالدول، ودورها في توجيه الأحداث في مناطقنا التابعة.
ثم انتقل حديثنا إلى سورية، وأوضاعنا الراهنة. طرح عليّ جملة أسئلة عامة حول آخر التطورات في سورية، فاعتقدت لأول وهلة أنه هو الآخر يريد أخذ فكرة عن الحالة السورية من الداخل، ولكن مع تشعّب الحديث، تبيّن لي أن صاحبي قد حدد موقفه مسبقًا دفاعًا عن النظام، يبرر له كل ما أقدم عليه من جرائم غير مسبوقة بحق المدنيين السوريين، ويتهم دول الخليج من دون استثناء، وتركيا بأنها أسهمت مع القوى الدولية في المؤامرة الكونية على النظام “المقاوم الممانع” الذي تمكن من الانتصار. ولم يكتف بذلك فحسب، وإنما كان يحاول إقناعي بأن الأمن قد استتب في سورية، والناس بدؤوا العودة، والأمور تتحسن تباعًا.
بداية، اعتقدتُ أن صاحبنا يعاني من نقص في المعلومات، وعدم الاطلاع، لذلك حاولت أن أضع أمامه الحقائق بتجرد، واعترفت بالنواقص والأخطاء، توقفت عند أخطاء المعارضة، وعدم ارتقاء جهود الأشقاء والأصدقاء إلى المستوى المطلوب. ولكن في المقابل تناولت بالتفصيل خطة النظام، وأساليبه في التعامل مع المنظمات الإرهابية، بل تصنيعها وتسويقها من أجل وضع العالم أمام بديلين سيئين: إما الاستبداد المنضبط، أو الإرهاب المنفلت. وهي خبرة اكتسبها من راعيه الإيراني في العراق ولبنان.
ولكن جهودي الهادئة الصبورة لم تجد نفعًا، فالرجل قد التزم خط النظام، وبدأ يتفاخر بسلمية الثورة الجزائرية، وكأن السوريين لم يلتزموا بسلمية الثورة على مدى سبعة أشهر، على الرغم من تعرضهم لقتل وحشي متصاعد من جانب النظام، وهذا أمرٌ لا نتمنى أن يتعرض له الشعب الجزائري العزيز، ولا أي شعب آخر.
ولم يكتف صاحبي بذلك فحسب، بل أتحفني بخطاب ثوروي قوموي عالي التوتر، من النوع الذي يتعامل صاحبه مع أفكاره الخاصة به وكأنها مسلّمات. يضع المنتفضين على حكم الفساد والاستبداد في سورية جميعهم في دائرة الاتهام بالتبعية للرجعيين والدوائر الاستعمارية، يغضّ النظر عن دور كل من إيران و”حزب الله”، وأسلوبهما في استخدام المذهب لتجييش الناس واختلاق الذرائع. ولا يتوقف أبدًا أمام تحالف الرفيق السوفييتي السابق مع ولي الفقيه ضد إرادة الحرية والكرامة السورية.
ما لاحظته هو استناد صاحبنا الكامل إلى ديماغوجيا النظام الإعلامية، وتعامله مع فبركات الأخير وكأنها حقائق ثابتة. وبعد أن انتهى من خطابه التعبوي الشعبوي، قلت له: كنتُ أتوقع منك، بوصفك أكاديميًا تقول إنك مع الثورة الجزائرية، أن تستخدم اللغة الاحتمالية غير القطعية، وألا تكون أحكامك جازمة حاسمة، والأمور لديكم ما زالت في بداية الطريق. هناك أخطاء كثيرة ارتكبناها في الثورة السورية، ولكنها لا تعادل شيئًا، ولا تُذكر، إذا ما قارنّاها بالجرائم التي أقدم، ويقدم، عليها النظام وحلفاؤه. لا يمكن أن تكون أبدًا مع تطلع الجزائريين نحو الحرية والكرامة والعدالة، وهذا حقهم المشروع، وتقف في الوقت ذاته إلى جانب نظام مسؤول عن قتل نحو مليون سوري من المعارضين والموالين، ومسؤول عن تشريد أكثر من نصف السوريين، وتدمير البلد، كل ذلك ليقطع الطريق على المطالبين بالحرية والكرامة، شأنهم في ذلك شأن الجزائريين اليوم.
وختمت الكلام معه: على كل حال. مهما كان موقفك من قضية الشعب السوري، وموقفك من النظام الذي فتح البلاد أمام كل شذاذ الآفاق لقتل السوريين، وها هو اليوم يسلّم مقدرات سورية إلى الروس والإيرانيين، مهما كان موقفك، فنحن من جهتنا لا نتمنى سوى الخير والأمن والسلام للشعب الجزائري الذي لا نحاسبه بجريرة مواقف وممارسات حكّامه المشينة، ولا نحمّله وزر شعارات القومويين الثورويين الذين يبدو أنهم ما زالوا منتشين بشعارات “الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة” الخاوية، تلك الشعارات التي كانت مجرد تغطية دخانية للمتاجرين والمتسلقين
كم نحتاج من الوقت والجهد لنتمكن من القطع مع المنطق المعكوس الذي يعتمده أدعياء العلمانية واليسارية من العرب، هؤلاء الذي يكرّسون وعيًا زائفًا لا يكتفي بمجاملة الاستبداد ومهادنته، بل يعمل على تسويغه وتسويقه بشعارات وتحليلات بائسة.