الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أغاثا كريستي في سوريا والعراق

أغاثا كريستي في سوريا والعراق

30.05.2019
هاشم شفيق


القدس العربي
الاربعاء 29/5/2019
شغفت كثيراً بما كتبه الباحث والمؤرخ وعالم الآثار البريطاني، ماكس مالوان، عن سوريا والعراق، في مذكراته الممتعة والتاريخية وهو يسرد ما مرَّ به من حياة تفصيلية وشائقة وهو ينقب في ذينك البلدين. وها هي زوجته الكاتبة والروائية البوليسية ذائعة الصيت أغاثا كريستي تواصل مذكراتها في الكتابة عن كل من سوريا والعراق لتستوفي ما انتهى منه مالوان، أو لتكتب هي تجربتها المختلفة والمتمتعة بحس الروائي الذي لا يغفل الصغيرة والكبيرة، وهي تصف المكان والحياة والزمان الذي مرَّ في الربع الأول من القرن الفائت، مقدمة عبر هذه المدوّنة الذهبية، تحفتها الفنية الخالدة، تلك المكتوبة بقلم شيق، معبر وصادق إلى أبعد حد، وهي تصف الأمكنة الصغيرة، تلك النائمة على الجوهر التاريخي، وعلى الإكسير الحقيقي للحياة، حيث تلال قصيرة وطويلة، تمتد في سلسلة مكانية تشمل أجزاء حالمة وبديعة وسادرة في بهاء الطبيعة، بين كل من سوريا والعراق. فالإثنان هنا، مالوان وأغاثا كريستي، يعرفان بطريقة علمية وأركيولوجية التفاصيل الدقيقة لتك التلال والوهــــاد والســـهوب التي نقبوا في فيها عديداً من السنوات، مع فريق عمل علمي وفني وثقافي، له خبرته في هذا المجال الذي نقل جلّ آثارنا إلى بلد المستعمر البريطاني إبان الانتداب على العراق، بُعيْد الحرب العالمية الأولى، ولتكون سوريا من حصة الانتداب الفرنسي. بلدان مهمان من الشرق الأوسط، قامت على أرضهما الحضارات الأولى، وامبراطوريات كبرى، كالآشورية على سبيل المثال في نينوى، والجوار المتاخم لها.
تحت سماء الانتداب، وفي ظل ذلك الأفق البدئي لنشأة العراق الأول، تدفق الباحثون، والمنقِّبون، والمستشارون، والمستشرقون، ووكالات المخابرات، والجواسيس ليجسوا نبض ذاك التاريخ القديم، ويتفحّصوا مناجم الجواهر التاريخية، والميثولوجية، باحثين عن الأسرار الأولى لكلا البلدين سوريا والعراق، الأسرار التي هي عبارة عن شرائح الذهب الدفين، واللقى السحرية التي خلفها أجدادنا الأوائل في تلك البقــــاع، لقىً من نحاس وفضة ونضار، تنطوي على أختام أسطوانية، وأحجار ثمينـــة، وفخاريات وأوان، وأباريق، وجرار، وخزفيات، وأدوات عمل، وزينة، وأدوات استخدام لتلك الحياة البعيدة لأكثر من سبعة آلاف عام، أرض زاخرة بالثمين النائم في شقوق أرضها، تاريخ يؤكد ماضي الحضارة السالفة كيف كانت، وكيف عاشت، وكيف عمَلت على تخليق وسائلها، والارتقاء بها إلى مصاف الابتكار الأول، من أجل أن يعينها هذا التخليق على البقاء والتحدي، والمواصلة في تلك الأيام الغابرة، على رسم البدايات الجليلة والمباركة التي خلفتها للبشرية، بدءاً بقوانين حمورابي وانتهاءً، بالعلوم والوسائل البدائية كالعجلة وغيرها من فنون الغناء والموسيقى والرقص للآلهة، تلك التي كانت تحكم باسم أشخاص ينوبون عنها، كسرجون في المرحلة الآشورية، وسنحاريب في الأكدية ونبوخذ نصَّر وحمورابي في البابلية وكلكامش في المرحلة السومرية، كل ذلك كان يمتد عبر أرض العراق، ثم في مراحل أخرى، في سوريا الغافية على تراث، وكنوز لا تحصى لتاريخ عظيم قام على أرضها التاريخية.
التقت أغاثا كريستي بعالم آثار مدينة أور السومرية ماكس مالوان عام 1930 فهناك تعرفت عليه بين الأطلال والخرائب التاريخية لحضارة أولى، حيث كانت ثمرة هذا اللقاء الزواج التاريخي أيضاً بين باحث وعالم آثار، وبين روائية وكاتبة مسرحيات ومذكرات، شهرتها حينها كانت تطبق الآفاق.
تبدأ رحلة أغاثا كريستي صحبة زوجها ماكس مالوان، عام 1937 ـ 1938 من ميناء دوفر البريطاني باتجاه ميناء كاليه الفرنسي، ومن هناك ستنطلق في قطار الشرق السريع إلى اسطنبول ثم سوريا والعراق، في رحلة مبهجة وقلقة. وبمناسبة ذكر قطار الشرق السريع فقد كتبت كريستي روايتها المعروفة  جريمة في قطار الشرق السريع وهي رواية كما هو معروف حبكتها بوليسية، وقد تُرجمتْ إلى العربية.
نقّبت البعثة الآثارية في حوض الخابور، حيث تل شاغر بازار، بالقرب من بلدة عامودا التي لم تحبها كريستي، ولكنها وقعتْ في غرام تل براك وهو يقع في منتصف الطريق بين الحسكة والقامشلي، وقد أصابتها الدهشة وهي ترى التلال السورية التي تخبئ الكنوز التاريخية، تلك التي لا تقدر بثمن.
يصل القطار بعد أيام إلى اسطنبول بعد أن مرّ بعدة مدن أوروبية، وقرىً آية في الجمال حسب تعبير كريستي، فينزلون هناك في قرى تركية ليتملوها، ثم إلى حلب فبيروت، حيث ينتظرهم هناك مهندسهم المعماري، فيصطحبونه معهم إلى سوريا، حيث نهر جغجغ العلامة التي سترشدهم إلى مكانهم والنُّزل، وإلى تلك البقعة التي منها سينطلقون إلى التنقيب، والعمل اليومي، بعد أن يتم ترتيب المأوى، وتوضيب السكن البسيط الذي يحتاج إلى مدبِّرين، وخدم، وأناس مساعدين، كسائق سيارة وطباخ، وخادم، ومشرف على الشراء والتسوق، ومرسل بريد.
خلال سفرها الطويل، وعبر مرورها بمصاعب ومطبات الحكومة التركية، ثم الفرنسية وهي تسيطر على البلاد العربية، وبعد الانتهاء من المعاملات الروتينية المتعبة، تلك التي تتسم بالانتظار، والتطويل وربما الرفض، أو الرشوة، للضباط الفرنسيين، بعد كل ذك يصلون إلى نهر الخابور، ومن فورهم ينصبون خيمتهم عند تل سوار، يستقبلهم هناك شيخ عشيرة جليل وذو مهابة، يرحب بمقدمهم ، في ذلك المكان المثالي حيث صفاء كامل، وهدوء سابغ يمسحان المكان، يحلو لأغاثا هذا الجو بعد انتكاستها صحياً أثناء الرحلة، فتقول : أسترد عافيتي، على نحو مفاجئ، وتصبح الحياة جميلة، من جديد، ألتهم وجبة هائلة من الرز والخضار المطهوة الغارقة بالدسم، تبدو لي هذه الوجبة من أشهى ما تذوقت في حياتي … أبدأ الآن بالاستمتاع حقاً وقد استعدتُ عافيتي تماماً، يبدأ نهارنا صباح كل يوم عند حلول الفجر، فنقوم بدراسة كل أكمة عند وصولنا إليها وندور حولها مرات ومرات ونلتقط أية كسرة فخارية، نراها، ثم نقارن النتائج، ويحتفظ ماكس بالعينات التي يراها مفيدة، من خلال وضعها في أكياس من الكتان مزودة بلاصقة اسمية.
يعمل مع البعثة الآثارية عرب مسلمون وأزيديون، أرمن، وجلهم من سكنة العراق، يتعاونون معهم ويقبضون أجورهم، كل حسب مهمته، ثمة عمال للحفر، مزودون بالسلال لنقل التراب وتفريغها في أماكن مخصصة لها، والعمال ايضاً يساهمون في البحث عن اللقى، ويتقاضون على لقاهم مكافآت نقدية، حسب أهمية اللقية وتاريخها وشكلها ونوعية استخدامها. شباب يندفعون كل يوم بأغانٍ تساعدهم على العمل في أرضهم المنهوبة، والمنقولة إلى متاحف بلدان أخرى.
أغاثا كريستي ساهمت أيضاً واندفعت كالعمال، باحثة عن اللقى بحسّها الثقافي والتاريخي، من أجل البحث عن لقية، مميزة، تؤكد وجودها، ومكانتها، بين المهندسين، وبالتالي لكي تُحسّن مقامها ايضاً لدى العاملين ايضاً، على أنها واحدة منهم، تعمل وتنبش وتنقّب في التراب، وتُراقب، وترصد الجهود اليومية للعاملين، وتُحصي الكنوز التي ستظهر على الأرض، من خلال زوجها وفريقه العلمي والعملي الباحث عن مخلفات الأسلاف، وسط هذا المكان القائم في العراق قبل ألفيات خَلت.
تقول أغاثا كريستي عن الأيزيديين وعن مقامهم: يقع مقامهم المقدس، مقام الشيخ عدي، في التلال الكردية بالقرب من الموصل، وقد زرناه ذات مرة، عندما كنا ننقب بالقرب منه، أعتقد أنه لا يوجد مكان في العالم بجماله أو بسكينته، يتجه المرء صعوداً في التلال بين أشجار البلوط والرمان على خطى مسيل جبلي، الجو هناك منعش ونظيف ونقي… زرنا في رحلة لنا إلى جبل سنجار شيخ سنجار الأزيدي، حمو شيرو، يقال أنه خلال الحرب بين عامي 1914 و 1918 فرّ مئات من اللاجئين الأرمن من الأتراك وقدم لهم الشيخ المأوى في جبل سنجار وأنقذوا من الموت.
بعد ذلك يرحل الطاقم كله إلى سوريا، منقباً في تل براك وبعض التلال التي تم التخطيط لها، قبل المجيء إلى القامشلي، هناك سيخيّم العاملون، والمنقبون، والمهندسون، وسيستعينون كالعادة، ببعض العاملين من تلك المنطقة، الخالية من البيوت، والسكان، سوى بعض بيوت الفلاحين اللبنية، وخيام البدو المترحلين.
هنا ستوغل الكاتبة أغاثا كريستي في تسجيل كل خاطرة رأتها خلال رحلتهم الطويلة، ستصف السيارتين اللتين بحوزتهم، وكيف تنزلقان في الأيام الممطرة، لتستقر في الوحل والطين، حيث ينبغي على الجميع المساعدة، وربط الحبال لتبدأ عمليات السحب والدفع، حتى يتطيَّن ويتوحَّل الجميع، وبالأخص من يعمل على إنقاذ تلك السيارات من واقعها المرير، واقع محفوف بالجوع، والسهر، والظمأ، والتعب، والإنهاك، كل ذلك تصفه الكاتبة أغاثا كريستي بصفتها فرداً عاملاً ومساعدا في تلك الرحلات الدائبة بين البلدات العراقية والسورية.
لقد نقّبت البعثة الآثارية في حوض الخابور، حيث تل شاغر بازار، بالقرب من بلدة عامودا التي لم تحبها كريستي، ولكنها وقعتْ في غرام تل براك وهو يقع في منتصف الطريق بين الحسكة والقامشلي، وقد أصابتها الدهشة وهي ترى التلال السورية التي تخبئ الكنوز التاريخية، تلك التي لا تقدر بثمن، رحلة مرَّت في كل من دير الزور، وحلب، وحمص، والرقة، وتدمر، حتى وصلت إلى دمشق، تنقيب في مناجم من الذهب الرمزي، رموز الحضارات التي سكنتْ في هذه البقاع، ورسمتْ تواريخ البشرية، وحضاراتها المبكرة، في الأرض الرافدينية المجبولة على الماء، والنور، والشمس المستدامة، والحافلة بسكان متنوِّعين، ومن مذاهب، وديانات، وقوميات متعددة، تركتْ وسمها وملامحها محفورة على جبين تلك الصخور الأزلية، وعلى آبارها وقيعانها وتخومها الحبلى بالأسرار والرموز والدلالات، والعلامات التي ستخلد هذه الأمكنة الذهبية، وتؤبد تاريخها الطويل عالمياً، لكي يكون المثال الباقي من تلك الأساطير الحية، على غنى هذه البلاد وتنوعها المادي والروحي والتاريخي. أغاثا كريستي: تعال قل لي كيف تعيش . مذكراتها في سوريا والعراق . ترجمة: أكرم الحمصي. دار المدى، بيروت 2017. 296 صفحة.
٭ شاعر عراقي