الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مؤتمر الرياض-٢: نحو صراع سلمي

مؤتمر الرياض-٢: نحو صراع سلمي

04.10.2017
لؤي حسين


الحياة
الثلاثاء 3/10/2017
لا يزال الكلام عن مؤتمر للمعارضة السورية في إطار الهمس، يدور خلف أبواب مغلقة لم تُفتح بعد. وقد يكون السبب في ذلك أن هذا المؤتمر لا يمتلك حتى الآن سوى عنوان غير مُقرّ بعد هو: "مؤتمر الرياض-٢" (بغضّ النظر عما إذا كان سيعقد في الرياض أم في مدينة أخرى). فلم يتمكن العنوان من القبض على مضمون أو هدف يمكن الجَهر به، فدواعيه حتى اللحظة دواعٍ دولية وليست سورية. وهي تتأتى من رغبة بعض الأطراف الدولية في إعادة نظْم تراتب الدول المعنية وفق وزنها في الموضوع السوري وفق متغيرات حديثة قد لا تكون وقعت ضمن السياقات السورية.
إعادة رسم التراتبية الدولية في الموضوع السوري أمر في غاية الأهمية، إنْ كان على الصعيد الدولي أو على الصعيد المحلي، أي على صعيد حل الأزمة السورية. غير أن تحقيق هذا الرسم ليس بالأمر السهل، كما يظن بعضهم. فتحقيقه سيكون ثوباً فضفاضاً جداً على مؤتمر للمعارضة. فهو يحتاج إلى منصة دولية، كما كانت الحال في اجتماعات فيينا، التي شكلت "المجموعة الدولية لدعم سورية"، والتي أسفر عنها تكليف السعودية بعقد مؤتمر للمعارضة بهدف إصدار بيان يتضمن الموافقة على المفاوضات مع النظام، ويتم فيه اختيار وفد مفاوض.
لكن ربما الآن، ولعدم وجود منصة دولية، إضافة الى الغياب الأميركي عن "الطاولة" السورية، سيكون مؤتمر المعارضة المنصة الوحيدة التي عليها التنطح لإنجاز هذا الاستحقاق الدولي، على أن يكون ذلك في شكل مبطن. وهذا على رغم أن ذلك سيكون محفوفاً بعدد من مهاوي الانزلاق نحو مواقع لا تكون في مصلحة دعاة المؤتمر الدوليين.
وهذا لأن الحضور الدولي في المؤتمر سيكون مستتراً خلف نوعية المجموعات والشخصيات السورية المشاركة. فثقل الدول سيكون بمقدار عديد المشاركين مِن الذين تحت رعايتها وتمويلها. ومع ذلك، فإن الحضور لا يمكن أن يكون "عينك عينك" وفق الحصص الدولية، بل يجب أن تتم الدعوات وفق دواعٍ سورية، ووفق برنامج العمل الذي سيسير المؤتمر وفق بنوده، ووفق المستجدات التي ستقوم عليها رؤية المؤتمر، ووفق المخرَجات التي سيناط بالمؤتمرين إقرارها.
متغيرات أساسية كبرى حصلت في الواقع السوري لا يمكن بأي حال تجاهلها حين الإعداد لهذا المؤتمر. إذ لا يمكن تصور أن يتم عقده وفق آليات انعقاد "مؤتمر الرياض" الماضي. فالظروف الحالية مختلفة جذرياً عن الظروف السابقة. فعلى الصعيد الدولي، كانت الولايات المتحدة، في ذاك الحين، تتربع على رأس طاولة الموضوع السوري على رغم جلوس روسيا إلى جوارها. أما الآن فهي بعيدة كل البعد من موقعها هذا الذي تبوأته روسيا من دون شريك أو منازع. وبابتعاد واشنطن أنجرت خلفها "تابعاتها" من عواصم أوروبا الغربية. أما إقليمياً فازدادت حدة الخلافات (إن جاز لنا الاكتفاء بتسميتها خلافات) بين غالبية الدول المحيطة بسورية.
لكن الأهم هو المتغيرات التي حصلت داخل الحدود السورية، ميدانياً أو حتى دولياً. هذه المتغيرات التي تجعل المشهد السوري مختلفاً كلياً عما كان عليه زمن انعقاد "مؤتمر الرياض" السابق. إذ يبدو الآن أن الصورة لا تمت بصلة إلى ما كانت عليه في ذاك الحين. فحينذاك كان المشهد مقسوماً بين النظام وبين ما كان يسمى "الثورة". وميدانياً لم يكن للنظام ولا لحلفائه الغلبة على مساحات شاسعة من البلاد. أما الآن فالصورة على النقيض تماماً من ذلك.
النقطة الفصل بين زمني المؤتمرين، السابق والقادم، هي معركة حلب. تضاف إليها سيطرة قوات النظام، مدعومة من روسيا وإيران و "حزب الله"، على الغالبية العظمى من ريف دمشق وضواحيها، وكذلك على مساحات شاسعة من أرياف البلاد، ما يجعل النظام في مأمن شبه تام من خطر السقوط.
نقطة أخرى فاصلة أيضاً هي التوافقات الدولية على جعل مواجهة "داعش" والقضاء عليه أولوية تفوق جميع الأولويات الأخرى. أي أولوية نحّت مواجهة النظام ورئيسه لمصلحة مواجهة "داعش" التي تتطلب في الكثير من المواضع السورية أن تضع الدول كتفها بكتف قوات النظام لمقاتلة "داعش".
هذه المتغيرات ستفرض نفسها بقوة على مؤتمر المعارضة القادم منذ مرحلة الإعداد له وصولاً إلى مخرجاته. فالانقلاب الميداني العسكري الذي حصل في البلاد منذ انتهاء معركة حلب ألغى من معادلة الصراع في سورية أموراً عدة رئيسية. فمحلياً: ألغى فكرة تنحية بشار الأسد إلا بعملية انتخابية. وبالتالي ألغى أي دور فاعل لمن بقي من المجموعات المسلحة، التي هي في أغلبها الغالب مجموعات جهادية. ودولياً: ألغى أي فكرة بإضعاف روسيا على الساحة الدولية من خلال مواجهتها على الأراضي السورية. وألغى أية فكرة لإخراج إيران من الساحة السورية. بل بات دور الدولتين، روسيا وإيران، مكرساً في شكل شرعي على الأرض السورية.
بناء على هذا، سيكون من السذاجة التفكير في أنه من الممكن عقد مؤتمر للمعارضة يكون قادراً على نيل شرعية دولية إذا سار وفق "مؤتمر الرياض" الماضي. فقد سيطر على أجواء ذاك المؤتمر الخطاب "الثوري-الجهادي" نتيجة الظروف الدولية والميدانية آنذاك، ونتيجة الحضور الكبير للجهاديين، أو الناطقين بأيديولوجيتهم، ومواليهم من كارهي الأسد، وممالئيهم اللاهثين خلف أي "قرص" في أي "عرس" وسماسرة المال السياسي والمال التمويلي للمجموعات المسلحة، الذي شكل الغالبية الساحقة من المشاركين. وقد حضر الجهاديون يومذاك بالأصالة عن أنفسهم، كأحرار الشام وجيش الإسلام و "الإخوان المسلمين" وغيرهم، وبعضهم، بل بعض الشخصيات "الديموقراطية" الذين يعتبرون، كما "قوى الثورة والمعارضة"، أن النصرة هي واحدة من أهم قوى الثورة الرئيسية، حضروا بالوكالة عن النصرة. بل حتى "داعش" كان يوجد الكثير من المشاركين ممن يجد أن محاربته كفر.
القوى الجهادية والعنفية باتت بضاعة حقبة أفلَتْ ولم يبق منها سوى ذكراها. فقد تمت الإطاحة بها بهزيمتها في معركة حلب وما تلاها من هزائم على طول البلاد وعرضها. إضافة لاستنكاف الدول عن تقديم الدعم المالي واللوجيستي والمعنوي لها. فضلاً عن اتفاقيات خفض التوتر التي أخرجت المجموعات المسلحة كلياً من العملية السياسية مقابل الحفاظ على حياة عناصرها.
كل هذا يؤدي إلى أنه لم يعد من الممكن اعتبار قوى الإسلام السياسي، ابتداء من "الإخوان المسلمين" وليس انتهاء بالنصرة، صالحة بأي شكل من الأشكال لأن تكون شريكاً أساسياً، ولا حتى ثانوياً، على طاولة المعارضة السورية. فجميعها تقبل العنف الجهادي. هذا الجهاد الذي يشكل الحجر الأساس في الذهنية الإرهابية. لقد انتهت المرحلة العنفية التي أعطت لهذه القوى موقع الصدارة في "الدار" السياسية. وقد تبيّن الآن، بصريح القول والرؤية، أن السلاح والعنف ليسا من الأدوات الصالحة البتة في الدفاع عن حقوق السوريين ولا في إقرار حرية أفرادهم وبالتأكيد ليسا من أدوات بناء نظام ديموقراطي.
إن كان لمؤتمر المعارضة القادم أن يُعقد فلا بد له أن يتخطى الأهداف والشعارات الديماغوجية، كاعتماد القوة في إسقاط النظام وتنحية رئيسه، ويستبدلها بشعارات مثل "إزالة النظام الاستبدادي بطريقة آمنة وسلمية" ومواجهة كل القوى الطغيانية كـ "داعش" والنصرة وغيرهما. ويقصي عن حلّته الجديدة القوى والبرامج والأدوات التي اعتمدت سابقاً الطروحات العنفية. فقد باتت هذه الأطراف الآن خالية الوفاض بعد أن خسرت "سلتها" الجهادية التي وضعت فيها كل "بيضها" حين اختارت السلاح والعنف سبيلاً وحيداً لمواجهة النظام، وخوّنت كل من قال باعتماد الوسائل والأدوات السلمية. لقد خسرت مكانتها السياسية التي كسبتها سابقاً بتبنيها عنف المجموعات "الجهادية" المسلحة واعتباره عملاً ثورياً، خسرتها بعد هزيمة "جهادييها" وبعد تكريس هزيمتهم في اتفاقات خفض التوتر "الآستانية".
بتكثيف شديد: انتهى الصراع المسلح، الأسد باق لأن الإطاحة به غير ممكنة إلا بالوسائل الديموقراطية، ممنوع إسقاط النظام بقوة السلاح. إذاً، السبيل المتاح الآن هو الصراع السلمي. وهذا لا يُختصَر إطلاقاً بمباحثات جنيف، فهذا المسار أصبح مادة إعلامية فقط.
هذا الصراع السلمي يحتاج من مؤتمر المعارضة القادم أن يكون مؤتمره هو: أن يضع له رؤية واضحة لكيفية التعامل مع الاستحقاقات والتحديات المصيرية التي تواجه السوريين، ومن بينها، وفي مقدمها، إزالة النظام الاستبدادي، ومكافحة الإرهاب عبر اجتثاث الذهنية الجهادية نهائياً من الذهنية الإسلامية السورية، وأن يحدد أدوات تحقيق هذه الرؤية، وأن يوصّف طبيعة القوى القادرة على حمل هذه المهمة على أنها القوى العلمانية الحداثية الديموقراطية السلمية، التي لا يشوبها أي فكر قومجي أو ديني أو طائفي أو عنفي. وأن تكون مخرجاته، أي شروط التسوية مع النظام هي إقرار الحريات العامة والفردية، وحماية هذه الحريات بسلطة قضائية مستقلة بدلاً من الاشتراط الساذج لرحيل الأسد.
ختاماً، الأمل أن يكون مؤتمر المعارضة القادم مؤتمراً سورياً باعتراف دولي، قدر الإمكان، لا أن يكون مؤتمراً دولياً بحشو سوري. وأن يراعي حال الخلافات الإقليمية، كي لا يتسبب في انقسام الصف المعارض، "المهلهل" أصلاً، إلى خندقين متحاربين من حيث الشرعية الدولية التي يكسبها كل منهما. ولا أن يكون مؤتمراً هزيلاً، سخيفاً، تكون الغاية منه مجرد استبدال "الهيئة العليا للمفاوضات" أو توسعتها التي لن تنجيها من فشلها الذي كان متوقعاً لها منذ تشكيلها.