الرئيسة \  واحة اللقاء  \  روسيا بوتين والميليشيات

روسيا بوتين والميليشيات

07.09.2019
أحمد عيشة


سوريا تي في
الخميس 5/9/2019
لم تشهد الدولة الروسية استقراراً من حيث اعتمادها على القوانين والمؤسسات الناظمة لعمل السلطات منذ قيام ثورة أكتوبر 1917 بقيادة لينين، التي قضت على سلالة رومانوف القيصرية، وأعلنت عن تأسيس الجمهورية الاشتراكية في روسيا والدول المحيطة بها تباعاً. ومع تولي ستالين الحكم عام 1924، تحول المسار بشكل دراماتيكي نحو أسر السلطة لعموم مؤسسات الدولة (التي تعدها الشيوعية مرحلة مؤقتة لتثبيت حكم الطبقة العاملة) ومن ثم هضمها بالكامل لينتهي بها المطاف لسلطة واحدة، سلطة الزعيم الديكتاتور، الذي شهدت البلاد في عهده أسوأ حملات التصفية والاعتقالات التي عرفتها البشرية.
تابع أسلافه بنفس المسار، باستثناء نسبي لفترة خروتشوف، مرسخين حالة من الركود وهيمنة الحزب متمثلاً بقيادته واختصاراً بشخص أمينه العام، وهو الأمر الذي كان سبباً جوهرياً في انهيار المنظومة برمتها بدءاً من عام 1989 -1991. ولتعميم الهيمنة على المجتمع، أسس الحزب الشبيبة (الكوموسمول) كمنظمة لاحتواء الشباب قسراً، وكتائب الشعب التطوعية، ودربهم في معسكرات صيفية على القيام بأعمال شبه عسكرية، ناهيك عن المهمة الأساسية وهي الترويج للإيديولوجية الشيوعية السوفيتية، ولم يكتف الحزب بشبيبة الثورة، بل هيمن على كل القطاعات المهنية بعد أن أفرغها من مضمونها وأخضعها لسلطة قيادته، مثل النقابات واتحادات الطلبة والنساء وغيرها.
عند انهيار الاتحاد السوفياتي، كان بوتين -رئيس روسيا الحالي- يعمل في أمن الدولة/ الفرع الخارجي في ألمانيا الشرقية ( وهي البلد التي كانت مقراً لنشاط المخابرات السوفيتية ومركزاً لتخطيط عملياتها)، إلى أن انهار النظام عام 1990، حيث عاد إلى روسيا وتسلم عدة مهام إلى أن تسلم جهاز الأمن الفيدرالي الروسي عام 1999، وفي نفس العام تولى رئاسة الوزراء، وقبل استقالة يلتسين مباشرة في نهاية العام، عينه رئيساً بالوكالة حتى موعد الانتخابات في آذار 2000، ومن تاريخه هو الحاكم الفعلي لروسيا، سواء كان رئيساً أو رئيساً للوزراء.
لم يغب عن ذهن المُخبر آليات السيطرة الناعمة والتي يمكن أن تكون رديفاً وبديلاً لأجهزة القوة العسكرية والمخابراتية للدولة في بعض الأوقات سواء داخل البلاد أو خارجها. ومع زوال الآليات السابقة مثل الحزب والكوموسمول وغيره من المنظمات الملحقة، لجأ بوتين إلى خلق صيغ جديدة تتماشى مع عملية "الانتقال" نحو الديمقراطية الشكلية، مثل المنظمات "المدنية" والكشافة والنوادي الرياضية وجماعات الحماية الأمنية الخاصة، ضمن تريبة ميليشياوية بديلة.
استفاد بوتين من جماعات شبه عسكرية قديمة أدت خدمات عسكرية للنظام مثل جماعات القوزاق، الذين عرفوا باسم "محاربي روسيا الغامضين"، حيث لعبوا عبر الزمن دوراً في حماية الحدود الروسية، إضافة إلى مهمات أمنية أخرى، إلى أن تنامى دورهم أكثر خلال عهد بوتين حيث صنع منهم رمزاً للقومية الروسية المحافظة، وسمح لهم فيما بعد بتشكيل وحدات خاصة بهم (ميليشيات) ضمن الجيش الروسي، لعبت دوراً مهماً في الصراع مع أوكرانيا، وفي قمع التمرد في إقليم الدونباس. وفي تأمين الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي. وفي عام 2005، صدر قانون يمكّنهم من العمل في جميع وزارات السلطة وجلبهم إلى الخدمة العسكرية والأنشطة التعليمية للشباب، بما في ذلك التنشئة الوطنية والتدريب العسكري الأولي.
شجع بوتين ونظامه الميليشيات لأن تلعب دورًا متزايدًا في روسيا، سواء مع الجيش أو المخابرات في الداخل والخارج، ولإضفاء الصفة الرسمية عليها ناقش البرلمان (مجلس الدوما) مشروع قرار عام 2018 يتعلق بدورها في الداخل والخارج من دون التوصل إلى نتيجة، وهو الأمر الذي ساعد على انتشارها كالفطر، أما شركات الأمن الخاصة الروسية، التي وصلت في عام 2017 إلى حوالي 23 ألف شركة مسجلة (معتمدة من الحرس القومي الروسي)، توظف حوالي 700 ألف شخص وتحرس 900 ألف مكان. ولعبت إضافة إلى دورها الأمني أدوراً أخرى في التحريض على الإجماع المدني حول النظام وقيمه، بحيث شكلت في النهاية أحد نويات الدعم الشعبي للنظام.
من الميليشيات الأخرى، وهي ذات توجه الإيديولوجي النازي، ميليشيا الاتحاد القومي الروسي بقيادة ألكسندر بارشكوف، التي تؤمن الحرس الشخصي للعديد من الشخصيات القيادية الرسمية الروسية، ومنهم غينادي زيوغانوف، الزعيم الشيوعي الحالي الذي ترشح للرئاسة أكثر من مرة ولم ينجح. وحركة اتحاد الشباب الأوراسي، التي تدعي أنها تمثل "أسراب الثورة الأوراسية"، وتزاوج بين العقيدة القومية والأرثوذكسية، وتختص تدريباتها على حرب المدن وكيفية إخماد التظاهرات، وتنشط في شبه جزيرة القرم، وتعلن أنها بصدد تأسيس جيش جديد. أما ذئاب الليل المشرفة على نادي الدراجات الذي يرأسه زولدوستانوف، الذي يشارك بوتين باحتفالاته، فهو ميليشيا تعادي القيم الغربية، وتصور الغرب كعالم منحط بقيمه، وتدعم سياسة الكرملين، كما تنظم رحلات حج للأماكن المقدسة الأرثوذكسية، وشاركت بفعالية في عملية ضم شبه جزيرة القرم. وللطرافة فقد نُصّب رمضان قاديروف، الزعيم الشيشاني، رئيسًا فخريًا لذئاب الليل في الشيشان.
للكنيسة الأرثوذكسية ميليشياتها أيضاً، وهي منظمة سوروكوف بزعامة أندريه كورموخين، وتدعو لعودة الملكية وللمسيحية، أما الراهب تيخون شيفكونوف، الذي يعترف بوتين أمامه، صاحب العلاقات الواسعة مع أجهزة الأمن، فهو من أهم شخصياتها، ويرتدي جميع الأعضاء قمصانًا حمراء تحمل رمز المنظمة، وهو عبارة عن فارس روسي تقليدي يلوح بالسيف، وخلفيته الكنائس الأرثوذكسية والشعار "الكفاح من أجل الحياة"، وليس غريباً أن يتطابق اسمها مع الشرطة السرية النازية (SS).
استفاد بوتين من جماعات شبه عسكرية قديمة أدت خدمات عسكرية للنظام مثل جماعات القوزاق، الذين عرفوا باسم "محاربي روسيا الغامضين"
الميليشيا الأهم، هي فاغنر، وهي قوات شبه عسكرية مؤلفة من جنود وضباط متقاعدين وغيرهم من العاطلين عن العمل بعد إخضاعهم لدورات عسكرية، وتعمل مع القوات الروسية النظامية وفق نظام العقود، بمعنى الارتزاق. وكان الدور البارز لهذه الميليشيا هو نشاطها في سوريا بعد التدخل الروسي في أيلول 2015، حيث عملت كقوات برية روسية وشاركت في معارك الساحل، وفي عام 2016، شاركت في معارك الريف الشمالي لحلب عند فك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين، إضافة إلى دورها في استرجاع مدينة تدمر والسيطرة على حقل الفوسفات. كانت خسارتها الكبرى لدى هجومها على مناطق شرق الفرات حيث قتلت الطائرات الأميركية حوالي المئتين منها وسط تكتم روسي شديد.
يطول الحديث عن الميليشيات الروسية في عهد بوتين، الذي اعتمدها كقوات رديفة للقوات النظامية ولأجهزة الأمن في الداخل والخارج، ومثالها في سوريا واضح جداً، حيث يوفر له الاعتماد على الميليشيات في قمع التحركات الداخلية والخارجية التنصل من نتائج أعمالها، كما جرى لدى مقتل العديد مع عناصر فاغنر في دير الزور، وفي الوقت نفسه تؤمن له قاعدة اجتماعية داعمة لنظام حكمه مثل سيطرتها على الأندية الرياضية ذات القاعدة الواسعة (سبارتاك موسكو ونادي فنون القتال والجودو الذي يرأسه فخرياً بوتين)، كبديل عن المؤسسات المدنية والحزبية في الأنظمة الديمقراطية التي اعتبرها بالية (في حديثه عن الليبرالية). ومعروف أن من يشرف على الميليشيات ويدربها من وراء الكواليس مؤسسة الأمن الروسي من خلال الضباط المتقاعدين سواء كانوا مرتزقة أم أنهم أصحاب إيديولوجية قومية متعصبة، أو"يسارية" مناهضة للإمبريالية!