الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إعادة إعمار سوريّا.. بشريّاً

إعادة إعمار سوريّا.. بشريّاً

27.04.2015
عارف حمزة



المستقبل
الاحد 26-4-2015
بدت فكرة "الانتقام"، إذا سنحت الظروف، في مواقع التواصل الاجتماعي غير قابلة للتفاوض لدى كثير من السورييّن الذين تحمّلوا مشاق فقدان عائلاتهم، أو أفراد منها، أو ثرواتهم، أو أشغالهم الحياتيّة العاديّة. وهي ليست كلاماً عاديّاً مرتجلاً هكذاً، بقدر ما هو كلام علنيّ وسافر إذا صحّ التعبير. ففي كثير من "النعوات"، أو أخبار الاقتحامات والقتل، أو التقارير كان يُكتب تحتها "لن ننسى" مثل مَن يضع رصاصة في آخر السطر وليس نقطة لنهاية الكلام. "لن ننسى" هذه تبدو بداية للحدث وليس نهاية له.
"لن ننسى" كانت أقلّ عدوانيّة، رغم العدوانيّة التي تفوح منها، من كلمات أو مصطلحات أو جمل مثل "تمّ الدعس" أو "كلب وفطس"، أو عند اتحاد الطرفين في وصف قتلى الطرف الآخر بـ"الشبّيح. الإرهابيّ. الخائن. المجرم. القذر. الطائفي..."، واتحاد الطرفين، ومن ثمّ الأطراف، في نعت قتلاهم بالشهداء. لدرجة أنّ منبراً إعلاميّاً حقوقيّاً توثيقيّاً، مثل المرصد السوري لحقوق الإنسان، سنجد في عناوين أخباره عنواناً غريباً مثل "مقتل ومصرع واستشهاد العشرات من تنظيم داعش وكتائب الثوار والمدنييّن..". فالمرصد عندما يتحدث عن قتلى تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) يقول مصرع 10 عناصر...، بينما عن مقتل عناصر الكتائب الإسلاميّة الأخرى يقول "مقتل". أما المدنيون فيقول في خبر مقتل 7 منهم بأنّه استشهد 7 مدنييّن في حي الوعر مثلاً..
هذا التفريق بين منازل القتلى يصنع "لهجة" إعلاميّة، كي لا نقول لغة إعلاميّة لأنّها بعيدة جداً عن ذلك، مشغولة بنار الانتقام والتشفّي والتفريق. مثلما ينعت الأطراف غير المحايدة قتلاهم وقتلى الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى.
مثلما تمّ تلميع الطوائف والأعراق في سوريا في فترة زمنيّة قصيرة تمّ تلميع خطابات لا نسمع بها سوى في هيجانات وضوضاء وفظائع الحروب الأهليّة، وهذا كلّه يجعل "السخام"، الذي تمّ رفعه عن تلك الطوائف والأعراق والخطابات، من خلال تلميعها الوحشيّ، يتم رميه على فكرة التسامح نفسها وقابليّة العيش المشترك بعد نهاية هذه "الحرب"، التي ستنتهي في يوم ما بالتأكيد، مهما طال زمن محنة السورييّن.
أحد "المهجّرين" من حمص قال لي بأنّه لو بقي رضيع من عشيرته فإنه سيقتل العلوييّن! هذا الشخص يحمل شهادة الماجستير في الأدب العربي، ولكن النظام وميليشيات اللجان الشعبيّة كانوا قد قتلوا (200) شخص من عشيرته، منهم أطفال ونساء. هل يُمكن تبرير كلامه بسبب العدد الهائل من قتلى عائلته؟ وهل يمكن لومه لأنّه شخص متعلّم وحسّاس ويحمل درجة عالية في أيّ فرع علميّ كان، وليس في الأدب العربيّ وحسب؟ وبعد كلّ هذا، ولم نحمل نحن لحسن الحظ هذا الإرث الثقيل من الدم المتخثّر مثله، هل يمكن أن نفتح معه سيرة التسامح؟ والعيش المشترك؟
هذه شهادة واحدة من ملايين الشهادات التي يمكن الحديث عنها في أهوال السورييّن، إذا وضعنا جانباً استحالة سماع شهادات عشرات الآلاف من الموتى بسبب فقدانهم الأبديّ.
في حادثة أخرى، عندما تنفجر سيارتان مفخّختان في حي حمصيّ "موالٍ" للنظام سيهرع شبّان الحيّ إلى منزل عائلة "سنيّة" مؤلفة من 14 من الأطفال والنساء، حيث الرجال والشبّان غادروا ذلك الحيّ، ويقومون بذبحهم جميعاً كرد فعل على فقدانهم الضحايا الذين سقطوا في التفجيرين!
في الفترة الزمنيّة القصيرة التي تلت الانفجارين، خلال قطع أولئك الشبّان لتلك الأمتار القليلة بين مكان التفجيرين وبيت العائلة البريئة، هل كان من الممكن أن يتم إيقاف الشبّان والحديث عن البراءة والقانون والتسامح والعيش المشترك؟ بالطبع كان بين أولئك المتجمهرين عقلاء كان بإمكانهم التأثير على أولئك الشبّان وإيقافهم عن ارتكاب تلك المجزرة، أو حماية تلك العائلة الخائفة من ذلك المصير الدمويّ البشع. لماذا لم يتحرّكوا؟ لماذا فعل الحق، أو الخير، يحتاج إلى تفكير وحسابات، بينما فعل الشرّ، أو الوحشيّة لا يحتاج لأيّ تفكير؟ ألا يعرف "الأخيار" بأنّ السكوت عن قول الحق سيبرّر "للأشرار" أفعالهم وتصبح طبيعيّة وعاديّة؟
بالطبع وصلتنا أخبار عن أناس حاولوا ثني شبّان عن تكسير محلات أناس من طائفة أخرى. وللأسف فقد تمّ وصف أولئك الناس بـ"الخونة" لأنّهم يمنعون "الوطنييّن" من تكسير محلات "الإرهابييّن". بينما تعرّض آخرون للضرب المبرّح على يد أولئك الشبّان الوطنييّن. كما بات من العادي وصف أحد النازحين في اللاذقيّة بأنّه "سنّي. بس كويس". أو "سنّي بس مانو إرهابي"! وهو يحمل ما يحمل من فظائع التمييّز؛ وكأنّ كلّ السنّة إرهابيون بينما هذا الشخص استثناء غريب.
ما زلنا نسمع عن المشكلات التي تحصل بين السورييّن في دول الجوار لسوريّا (في لبنان وتركيا والأردن)، أو بينهم وبين سلطات تلك البلدان، وهي تعود لأسباب كثيرة ليس الانتقام والثأر أوّلها. لأنّنا لا نعثر على تلك المشكلات في بلدان أوروبا التي وصل إليها اللاجئون السوريّون بأعداد كبيرة. في أوروبا أيضاً أحبّ السوريون بعضهم، وحاولوا الابتعاد عن الأسئلة المخيفة التي تسألهم إياها السلطات في تلك الدول، وأحد الأسئلة تكون عن دين الشخص وطائفته. الكثير من السورييّن أصيبوا بالصدمة عند سماع مثل هذه الأسئلة، رغم أنّها أسئلة وضعتها السلطات لتسهيل دراسة ملف اللاجئ ومعرفة وضعه القانونيّ.
السوري في أوروبا يُفضّل أن تكون غرفته، في مركز استقبال اللاجئين، مع السورييّن، وليس مع الأفغان أو العراقييّن أو السودانييّن... الخ. يُفضل أن يكون شريكه سوريّاً بغض النظر عن طائفته وعرقه، وقد لا يكونان متشابهين أبداً في النظر إلى الحوادث، أو الثورة، التي اندلعت في بلدهما.
لا بدّ لهذه الحرب أن تنتهي. هكذا يقول المنطق. ولكن ليس من المنطقيّ أن يعود السوريّون الذين نزحوا من الخارج كي يهجموا على من تبقّى من السورييّن في الداخل ويمعنوا فيهم قتلاً وتنكيلاً. وبات من المنطقيّ أن يعود السوريّون لفكرة التسامح والعيش المشترك مهما طال الزمن. وما دام السوريّون قادرين على ذلك خارجها، فمن المنطقيّ أن يستطيعوا ذلك داخلها. وهي التسامح والعيش المشترك، ما يُقصد بها إعادة إعمار سوريّا بشريّاً وليس إعادة إعمار قراها ومدنها التي مُحيت عن وجه الأرض.
في أوّل يوم من العام الجديد 2015 كتبت على صفحتي الشخصيّة في موقع الفايسبوك مازحاً كوداع للعام المنصرم 2014: "عام 2014.. تمّ الدعس". فعلّق أحد الأصدقاء بتعليق: "كلب وفطس". وهي الفكاهة التي لا تغادر السورييّن على طول محنتهم. وهي الفكاهة التي ستطرد من دواخلنا وحشيّة الانتقام والثأر والقتل.