الرئيسة \  قطوف وتأملات  \  أستاذ خالد ... مسجد الإيمان .. شوارد ذاكرة

أستاذ خالد ... مسجد الإيمان .. شوارد ذاكرة

19.10.2017
عماد الدين الشامي


ثلاث سنوات أمضيتها أنا الفتى- وقتها- ما بين أواخر المرحلة الابتدائية وأوائل المرحلة الإعدادية في ظلال ذلك المسجد الوادع في حي المعلمين- القريب من ساقية الري-على أطراف حي الخالدية الشهير في مدينة ابن الوليد.
 (أستاذ خالد)* هذا ما اعتدنا عليه نحن الفتيان والشباب أن ننادي به أستاذ التربية الإسلامية في ثانوية مروان زين العابدين في الجانب الآخر من حي الخالدية الكبير إياه، وإمام وخطيب مسجد وجامع الإيمان. إنه ذلك الرجل الهادىء الوديع صاحب الابتسامة الدائمة بهي الطلعة حسن الهيئة رخيم الصوت.
ما أحلى وأحسن أن تبدأ يومك بصلاة الفجر خلف (الأستاذ خالد) بصوته الدافىء وقراءته الندية لآيات القرآن الكريم، تتبعها بتسابيح وأذكار الصباح الجماعية ما بين شيخ كبير وفتى يافع تجمعهم جميعا طاعة الخالق سبحانه. قراءة ليست بالطويلة ولا القصيرة لكنها مختارة لآيات قرآنية تحلق وأنت تنصت في التفكر في آيات الكتاب الكريم وكتاب الكون الكبير وسير الأنبياء الكرام وسيدهم رسولنا عليهم وعليه أفضل الصلوات والتسليم؛ أو يجول بك الخيال بل في الحقيقة تعيش أوصاف الأحوال البرزخية والحياة الأبدية؛ وأبدا مع ذلك الصوت الرخيم. ولا بأس أن نذكر تسابيح ما قبل الفجر بصوت الحاج (أبو عبدو) لتستقبل يومك بذكر لله الكريم وبصوت رخيم جميل.
 
لصلاة العصر قصة أخرى.. لطالما تركنا طعام الغداء على الطاولة لنسرع مع بقية فتيان المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة خلف (الأستاذ خالد). ثم الأذكار المسنونة ومن ثم أحاديث عن ما جرى معنا أثناء اليوم وغيرها من مشاكل وقضايا. ثم إذا شئت تركن إلى زاوية أو عمود في المسجد تدرس فيه دروسك أو تقرأ ما تشاء من القصص والكتب المتوفرة في مكتبتي المسجد. نعم مكتبتان. واحدة إلى الجانب الأيمن بعد دخولك المسجد من بابه الرئيس. هذه مخصصة للفتيان. لعلنا كنا محظوظين أن عشنا تلك الأيام وقرأنا فيها سير العظماء يسردها كتاب وأدباء كبار. من خلال هذه الكتبة قرأت وقرأ أقراني لعبد الودود يوسف- تعرفونه أظنكم، ذلكم الذي أبى الطغاة إلا يكمموا فمه وإلى الأبد مع ثلة المؤمنين المتقين أمل الأمة وهم، فيما أحسب، لما يبدؤوا عطاءهم الفكري والأدبي والدعوي. وهناك تعرفت على الشاعر الكبير يوسف العظم رحمه الله تعالى رجل الدعوة والفكر والسياسة، أحد أعلام الأردن وفلسطين والأقصى الجريح.ثم هناك الندوي الهندي،لعله سليمان، وقصصه عن التابعين والنبيين، على ما أذكر.(ليت أحد من أصحاب حقوق هذه المطبوعات يبادر إلى إعادة نشرها فما أحسب أن ما جاء بعدها رغم كل التقنيات الحديثة قد بزها)
أما المكتبة الأخرى فهي إلى مقدمة المسجد إلى جهة اليمين وتخص الشباب والكبار. من خلالها تعرفت على الأديب الكيلاني وقرأت له عمالقة الشمال وعذراء جاكرتا ودم على فطير صهيون وغيرها.وهناك تعرفت على السباعي- الإمام المجاهد المفكر، وكلكم تعرفونه.
للرياضة والقوة نصيب في مسجدنا. ولا بأس أن نذهب للعب كرة القدم في إحدى الساحات القريبة من المسجد، أو في ملعب نادي الإيمان الأهلي الشعبي (اسمه على اسم المسجد). وقد نذهب أحيانا للسباحة أو التنزه قرب ساقية الري والمروج الخضراء على جانبيها. [استطراد حول نادي الإيمان: أذكر مرة أن فريق نادي الإيمان لعب مباراة مع فريق خصم يبدو كان مستواه ضعيفا أو أنه لم يوفق في تلك المباراة. الذي حدث أن مسؤول نادي الإيمان وزعيم الفريق نبه فريقه أن يتجنبوا تسديد الأهداف لأن ذلك يقلل من شأن سمعة نادي الإيمان نفسه بين بين بقية النوادي!! أتساءل ما بال الطغاة في عالمنا العربي لا يتخلقون بأخلاق ذلك المدرب، فلا يظهر جبروتهم وبطشهم إلا على شعوبهم المسكينة المجردة من كل قوة؛ أما في وجه الأعداء فلا يعرفون سوى الهزيمة والخنوع).
نشاط آخر يفرغ له بعض شباب المسجد ويشجعهم في ذلك (الأستاذ خالد). تلاوة القرآن الكريم وحفظه. كأنه- عنيت (الأستاذ خالد)- كان يشجعنا بطريقة غير مباشرة على حفظ القرآن الكريم وذلك أن يدعو أحد طلاب المسجد ليحفظا معا ويتذاكرا معا سورة من سور القرآن العظيم.
ما بين المغرب والعشاء درس ديني من فقه أو غيره، وأذكر أنه كان يقرأ متن أبي شجاع في الفقه الشافعي. وقبل الدرس قراءة لسورة الواقعة يقرأها واحد أو أكثر من فتيان المسجد أو لعلها قراءة جماعية وقراءة المأثورات.. (تذكرونها؟ فيها دعاء الرابطة!!) الدرس ليس درس إملاء وتلق-(الأستاذ خالد) يشرح والطلاب يستمعون؛ بل نقاش وتداول وطرح أسئلة (يومها كنا صغارا لم نسمع أو لعلي أنا لم أسمع، بعد عن التشاركية والتغذية الإرجاعية والسمينار، الخ..)
وإذا تغيب (الأستاذ خالد) فهناك الشيخ أبو أيمن الرجب (من قرى حمص، لعلها قرية الشيخ محمد علي مشعل رحمه الله أو قريبة منها). هل الشيخ على قيد الحياة، أم كان نصيبه نصيب الأحرار من بين وطني الذين قالوا للطاغية الأب: لا. لست أدري!1
صلاة العشاء وطقوسها لا تنسى في مسجد وجامع الإيمان (وكثير غيرها من مساجد المدينة). الصلاة خلف (الأستاذ خالد) أو أحد رواد المسجد إن تغيب الأستاذ. ثم صلاة السنة والوتر، ويتبعها الأذكار الجماعية وقراءة سورة الملك على الترتيب بين الحضور. ولا أنسى قراءة (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء) بصوت أخينا جمال- أبي حديد، الجهوري المميز. يتبع ذلك حوارات ونقاشات وتداولات داخل المسجد أو خارجه إلى أن ينتهي كل إلى بيته.
أيام الجمع هي الأخرى لها ميزتها. الخطيب هو هو (الأستاذ خالد). الخطبة مدروسة ومحضرة بعناية، ليست بالطويلة ولا القصيرة، جزلة وذات معنى وهدف. بعد الخطبة نقاش وحوار عن موضوع الخطبة ولا يتورع (الأستاذ خالد) أن يستفسر عن كيفية الأداء وأهمية الموضوع وهل كانت الخطبة ناجحة أم لا وإلى أي مدى وفق فيها وهل هناك أي تعليقات أومقترحات. قراءة سورة الكهف كل جمعة أمر لا بد له في مسجد الإيمان، فيجتمع الشباب قبل صلاة الجمعة أو بعدها ومرات بعد صلاة العصر لقراءة سورة الكهف معا؛ مع تفسير وشرح وتعليق واستفسار.
لا أنسى أبدا الأستاذ الآخر في مسجد الإيمان.. (الأستاذ زهير) شمي باشا. آه... الأستاذ زهير دينامو مسجد وجامع الإيمان. هدوء، وقار، صباحة وجه، وضوح رؤية، حركة دؤوبة. الأستاذ زهير (والشيخ عبد المعطي شمي باشا رحمه الله تعالى) وعائلته ومكتبتهم هي على ما أعرف مركز توزيع مجلة حضارة الإسلام. مجلة الإمام السباعي، المجلة التي كانت تنشر أشعار وقصائد (الأستاذ خالد). المجلة التي أحسب أنه لا يخلو منها بيت مسلم واع مهتم بقضايا دينه وأمته. هل من خبر عن الاستاذ زهير؟ هو الآخر، أحسبه، شهيدا على طريق الدعوة..2 الأستاذ زهير كان كلما سنحت له فرصة يجلسنا نحن فتيان المسجد ليحدثنا حديثا متشعبا ما بين لغة وفقه وأدب وتزكية وفكر بدايته ونهايته (الإسلام نظام وطاعة وأخلاق)؛ وفي كل مرة سياحة في معان جديدة وتفكر في آيات جديدة من النملة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة، إلى خبايا النفس البشرية وعجائب خلق الله تعالى.. لكني أعترف أن بعض ملل أصابني يوما وأنا اليافع الذي بدأت مداركه تتسع وأفكار جديدة تجول في خاطره وفكره يتشكل وأصحاب يتحاور معهم.. حتى إني شكوت يوما لأحد شباب المسجد تبرمي..
وكما للرياضة والتربية البدنية نصيب،فللأنشطة الثقافية كذلك حظها في مسجد وجامع الإيمان برعاية وإشراف (الأستاذ خالد). كما المسجد للصلاة وتلاوة القرآن، هو مكان ومنطلق لكل حركة ونشاط. هكذا كان مسجد الإيمان، كما الكثير من مساجد المدينة.
احتفالات ذكرى المولد النبوي (على صاحب الذكرى سيدنا محمد أفضل صلاة وتسليم) مناسبات للتعلم والاجتماع إلى العلماء، وسماع العظات والمحاضرات الدينية والفكرية والدعوية والسياسية والاجتماعية والعلمية، والتعرف على آخرين ممن صار بعضهم رفيق درب فيما بعد. هي مناسبات لتلقي العلم كما هي مناسبة لتعلم فن الإلقاء والاستماع والاجتماع. نعم هي كذلك ولا عجب. كان (الأستاذ خالد) يدعونا ولما نتجاوز العاشرة إلى أن نكتب كلمات عن أحداث السيرة كما غيرها من المناسبات لالقاءها أثناء الاحتفالات. ولا يقتصر الحضور على رواد المسجد وأساتذته، بل يحضر فتيان وشباب من مساجد اخرى، تماما كما يتم دعوة شيوخ وعلماء لالقاء الخطب والدروس. كانت الاحتفالات بالمولدتمتد أسابيع بعد الذكرى ولربما بدأت أسابيع قبلها. اليوم احتفال في مسجد كذا بحضور العالم أو الشيخ فلان، وبعد أيام احتفال وتجمع في مسجد كذا بحضور الشيخ فلان والشيخ فلان، وهكذا. مناسبات إيمانية دعوية فكرية شعرية إنشادية تعارفية!! وينتقل الشباب من مسجد لآخر ومن احتفال لآخر ومع كل مسجد ومع كل احتفال علم جديد وفكر جديد وتربية جديدة.
هي كذلك أيام غزوة بدر والهجرة والإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان.. أيام للعبادة والفكر والدعوة والسياحة. أيام للتعلم والتعليم. هكذا هو مسجد الإيمان وإمامه ومدرسه وخطيبه (الأستاذ خالد) وهكذا هي حمص ومساجدها.
ومما لا يزال في الذاكرة من تلك الاحتفالات، الاحتفال بذكرى الهجرة أو المولد النبوي الشريف عام 1978 في مسجد النور في حي الخالدية وكان بحضور الدكتور البوطي والشيخ سعيد حوى. كان الشيخ سعيد رحمه الله تعالى قد خرج للتو من سجنه بعد أن أمضى ما يقارب 5 سنوات. بعد الدرس تحشد الحضور خارج المسجد حول الضيفين ورفعوا على الأكتاف أحد الإخوة الكرام يرددون بعض الهتافات والشعارات ولما خشي الضيفان أن ينفلت الموقف طلب الدكتور البوطي والشيخ سعيد من الحشد الانصراف على أمل أن تمضي الليلة على خير؛ وقد كان. كانت تلك أول مرة أحضر الشيخ سعيد، أما الدكتور البوطي فلربما قد حضرت له من قبل.
أيام الجمع، خصوصا أيام الصيف، بعد صلاة الفجر أو صلاة العصر مخصصة للسباحة والرياضة يتخللها أو يتبعها كلمة موجزة جامعة من (الأستاذ خالد) أو من غيره. في هذه الأنشطة يتلاقى فتيان وشباب مختلف المساجد ويتم إلى جانب الأنشطة البدنية، التلاقي والتعارف وتتكون الصحبة والصداقات.
الرحلات الجماعية ركيزة تربوية أصيلة في مسجد الإيمان وفي غيره من مساجد حمص. بدايتها صلاة الفجر جماعة؛ وأكرم بها من بداية. يتخللها تلاوة وتدبر بعض الآيات القرآنية. رياضة جماعية وسباحة. رفع الخيام أو السواتر والمظلات ونصبها. تحضير الطعام سويا. مسابقات فكرية متنوعة ما بين لغة ودين وتاريخ وفكر وألغاز تربوية هادفة. الصلاة جماعة في وقتها. ويكون حط الرحال ختاما في مسجد الإيمان ومن هناك يعود كل إلى بيته. طبعا، (الأستاذ خالد) هو المشرف والمنظم لهذه الرحلات والأنشطة يساعده في ذلك شباب المسجد ممن لهم سابقة في هذا المضمار.
أناشيد الدعوة جزء لا يتجزأ من فعاليات الأنشطة والاحتفالات في مسجد الإيمان. وقد هيأ الله تعالى لمسجد الإيمان شابا ذا صوت جميل اسمه- على ما أذكر- عبد الجواد، ومن حنجرته الرائعة استمعت ووعيت ومعه رددت وردد الفتيان"إنما الإسلام قوة.. وجهاد وفتوة.. واتباع لمحمد.. صلى الله على محمد.. صلى الله عليه وسلم".
للسياسة أيضا نصيب في مسجد الإيمان ومع (الأستاذ خالد). كان ذلك عام 1978، عام الاستفتاء على رئاسة حافظ أسد. لا حل للسوري يوم الاستفتاء إلا أن يقول "نعم" أو "نعم". وإلا فللأمر عواقب. أذكر حينها حدث نقاش طويل حول الموضوع. (الأستاذ خالد) مدرس وملزم بالحضور والعين تراقب، خصوصا مدرسي التربية الإسلامية. كيف العمل؟ التهرب صعب جدا. قول "لا" شبه مستحيل، عدا أن ثمنه غاليا خصوصا عندما لا يوجد أو لا يسمح بوجود تحرك عام يمكن أن يحمي أو يستثمر أو يوظف القول بـ "لا" بما يخدم مصلحة الوطن. لكن هيهات أن يخط البنان كلمة "نعم" لمحارب لله ورسوله، عدو للدين والأمة والوطن. هيهات لقول "نعم" لطاغية. هيهات قول "نعم" لمن باع الأرض.3 كما قلت حصل نقاش طويل ولعل هذه الحادثة لها وقع خصوصا على فتى يافع. أذكر كأنه في تلك المدة كان هناك نوع من الانفراج النسبي (لأسباب داخلية وإقليمية) بحيث يبدو كأن الأمن قد قلل من سطوته قليلا- لكن أكيد ضمن المسموح به- بحيث تفلت من تفلت من (مقصلة) الاستفتاء. أذكر أن أحد شباب المسجد وهو موظف حكومي لا سبيل له إلا المشاركة في الاستفتاء، قد تجرأ على قول "لا" أو أنه ترك الورقة فارغة (سيان عند آل أسد وعند الطغاة، فلا تستسيغ آذانهم إلا سماع كلمة "نعم")؛ لكنه تخفى عن الأنظار أياما وليال حتى ينقشع الأمر.!!
 (الأستاذ خالد) ومسجد الإيمان والأستاذ زهير وذاك الشاب الجريء ذكريات لا تنسى. رحم الله (الأستاذ خالد) ورحم وتولى الشيخ أبا أيمن والأستاذ زهير حيين وميتين، وثبت الله ذلك الأخ على قول الحق دائما وأبدا، ولك يا مسجد الإيمان مني تحية. سلام على مساجد حمص وسوريا جيمعها. سلام لأرواح شهداء الدعوة وشهداء سوريا جميعا. سلام لرفاق الدرب حيثما حلوا أو ارتحلوا.
___________
الثلاثاء 20 محرم 1439 الموافق لـ 10 أكتوبر 2017
* الأستاذ خالد البيطار أبو نزار (رحمه الله تعالى ) الذي غادر عالمنا يوم الأحد 8 أكتوبر 2017.
1- علمت بعد كتابة المقالة أن الشيخ أبا أيمن الرجب قد قضى في مجزرة سجن تدمر الشهيرة عام 1980.
2- علمت أيضا أن الأستاذ زهير شمسي باشا قد قضى هو الآخر في السجن إعداما.
3- هذا ليس كلاما إنشائيا فقد أمضى الشيخ أبو نزار سبعا وثلاثين سنة (1980- 2017) هجرة في سبيل الله تعالى لأنه وإخوانه أبوا مساومة الطغاة.