الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إلهان عمر واللوبي اليهودي: مَنْ يُبطل الوصايا العشر؟

إلهان عمر واللوبي اليهودي: مَنْ يُبطل الوصايا العشر؟

17.02.2019
صبحي حديدي


القدس العربي
السبت 16/2/2019
إلهان عمر، العضو المستجدّ في مجلس النواب الأمريكي عن الدائرة الخامسة في منيسوتا، ارتكبت تلك "الخطيئة" الأشنع المنصوص عنها، علانية أو سرّاً، ضمن مدوّنة السلوك السياسي السليم في الولايات المتحدة: لقد مسّت النفوذ اليهودي، واليهودي ـ الصهيوني، داخل الكونغرس؛ واقترن هذا ـ يا للطامة الكبرى! ـ بنقد دولة الاحتلال الإسرائيلي. كأنها غفلت، سامحها الله، عن حقيقة أولى تشير إلى أنها امرأة مهاجرة من أصل صومالي؛ وحقيقة ثانية، لا تُغتفر بسهولة، هي تعاطفها المعلن مع حقوق الشعب الفلسطيني؛ وحقيقة ثالثة، تقشعرّ لها أبدان كثيرة في بلاد العمّ سام، هي أنها… مسلمة!
المرء، في المقابل، ليس مضطراً للاتفاق مع جميع آراء عمر اتكاءً على أيّ من هذه الحقائق، أو بعضها؛ إذْ حدث، وقد يحدث في المستقبل، أن تنزلق عمر إلى هذا أو ذاك من المواقف التي لا تنبثق عن تمحيص متأنٍ أو محاكمة سليمة أو انحياز مبدئي إلى الحقّ؛ بقدر ما تتشكل كحصيلة تلقائية لخيار المعارضة المطلقة، أو العداء المسبق، أو حتى التضامن الفردي والصداقة الشخصية. ذلك يفسر أنها، في ارتكاب تلك "الخطيئة"، خلطت بين نقد النفوذ، وهذه ممارسة مشروعة في إطار حقّ التعبير؛ وبين توصيف الطرائق التي يتمّ بموجبها تجسيد ذلك النفوذ فعلياً، إذْ تحدثت عن شراء مباشر للتأييد في قلب الكونغرس، وهذا غير قابل للإثبات وحمّال أوجه شكّ كثيرة. ذلك، أيضاً، يفسّر مسارعتها إلى اعتذار شجاع لا لبس فيه، أتاح توضيح الفارق بين نقد السياسة الإسرائيلية ومجموعات الضغط المرتبطة بدولة الاحتلال، وبين وضع جميع يهود أمريكا في سلّة واحدة جماعية.
لم يكن مدهشاً، بالطبع، أن يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في طليعة المتنافخين شرفاً ضدّ عمر، فلم يقف عند حدّ اتهام النائبة بالعداء للسامية، بل طالب باستقالتها أو على الأقلّ منعها من عضوية أية لجنة داخل المجلس؛ حتى بعد أن اعتذرت، إذْ أنه رأى اعتذارها ناقصاً و"أعرج" القيمة. لكنه لم ينطق ببنت شفة لإدانة الآلاف من أنصاره الذين عبّروا، بصيغة صريحة أو بأخرى مبطنة، عن عداء عنصري يرفع راية "التفوّق الأبيض"، ويعيد تمجيد الرموز النازية، وبالتالي يمسّ اليهود ويحاذي العداء للسامية. وصحيفة "نيويورك تايمز"، تعقيباً على انتفاضته ضدّ عمر، نبشت له سلسلة مواقف يصعب أن تُنفى عنها صفة "المجاز" المعادي للسامية: في سنة 2015، حين خاطب ممثلي "التحالف الجمهوري اليهودي" هكذا: "لن تمنحوني دعمكم لأني لا أريد أموالكم. تريدون السيطرة على ساستكم، لا بأس"؛ وفي سنة 2016، حين اختار أحد إعلاناته الانتخابية عدداً من الشخصيات المالية اليهودية، محذراً من أنهم لا يريدون صالح المواطن الأمريكي.
من جانبه، في مقال صائب بعنوان "هنالك محرّم ضدّ نقد "إيباك" ـ وإلهان عمر دمّرته لتوّها"، اقتبس الإعلامي الأمريكي مهدي حسن حكاية توماس فريدمان، الصحافي الأمريكي المعلّق في "نيويورك تايمز" واليهودي الذي لا يرقى شكّ إلى إخلاصه لدولة الاحتلال الإسرائيلي. ذات يوم وقف أعضاء الكونغرس مراراً للتصفيق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فكتب فريدمان أنّ هذا السلوك "مُشترى، ومدفوع ثمنه، من لوبي إسرائيل"؛ فللمرء أن يتخيّل حجم العواصف التي كانت سوف تهبّ لو أنّ الكاتب لم يكن فريدمان، فكيف لو أنه كان مسلم الديانة! حكاية اخرى لا تقلّ مغزى، عن صحافي أمريكي يهودي لا يقلّ سطوة، هو جيفري غولدبرغ: في سنة 2005 كان الأخير يتناول العشاء مع ستيفن روزن، الذي كان حينذاك كبير مسؤولي "لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية"، الـAIPAC؛ فقال روزن: "هل ترى مفرش الطاولة هذا؟ خلال 24 ساعة تستطيع المنظمة وضع تواقيع 70 من السناتورات عليه". أو، في مثال أخير، عبارة يهودي ثالث، إسرائيلي هذه المرّة، هو يوري أفنيري: "لو أرادت الـAIPAC تمرير قرار يُبطل الوصايا العشر، فستضمن توقيع 80 سناتوراً في مجلس الشيوخ و300 عضو في مجلس النوّاب"!
لم يكن مدهشاً، بالطبع، أن يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في طليعة المتنافخين شرفاً ضدّ عمر، فلم يقف عند حدّ اتهام النائبة بالعداء للسامية، بل طالب باستقالتها أو على الأقلّ منعها من عضوية أية لجنة داخل المجلس
والتاريخ يسجّل أنّ سنة 2005 تلك كانت فريدة في تاريخ الـAIPAC، لأنها شهدت غياب عزف النشيد الوطني لدولة الاحتلال خلال المؤتمر السنوي للمنظمة، على نقيض ما يحدث عادة في كلّ عام؛ وذلك بسبب افتضاح أمر اثنين من كبار الموظفين في الإدارة، عملا جاسوسين للأجهزة الإسرائيلية. لكنّ الـ"هاتكفا" تعالى مجدداً في افتتاح مؤتمر العام التالي، وكأنّ شيئاً لم يكن، أو كأنّ مؤتمر 2005 كان الاستثناء فقط. وأمّا على المنبر فقد تقاطر للخطابة كبار رجالات الإدارة، من نائب الرئيس ديك شيني، إلى المندوب الدائم في مجلس الأمن جون بولتون، وأقطاب المحافظين القدماء والجدد نوت غنغريش وريشارد بيرل؛ صحبة أمثال نتنياهو، إيهود أولمرت، وعمير بيرتز.
قبل هذا، خلال مؤتمر 2004، كان الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد ألقى خطبة قال فيها: "أنتم تقومون بعمل هامّ، وأرجو أنكم تدركون هذا. ففي واشنطن وخارجها، أنتم تلفتون الانتباه إلى التحديات الأمنية الكبرى في عصرنا. أنتم تثقفون أعضاء الكونغرس والشعب الأمريكي حول الأخطار المتزايدة لانتشار الأسلحة. وفي قرن جديد محفوف بالمخاطر، يصبح عملكم أكثر حيوية من أيّ يوم مضى". وعن دولة الاحتلال، قال بوش: "إنّ لدى أمّتنا، ولدى أمّة إسرائيل، الكثير المشترك. كلانا أمّة فتيّة نسبياً، ولدنا في غمرة الصراع والتضحية. كلانا تأسس على يد مهاجرين فرّوا من اضطهاد ديني في بلدان أخرى. وكلانا نهض على عقائد جوهرية محددة، مفادها أنّ الله يسهر على شؤون الناس، ويحفظ قيمة الحياة"!
فكيف لأمثال عمر، أو زميلتها عن ميشيغان فلسطينية الأصل رشيدة طليبي، مقاومة شبكات الـAIPAC؛ إذا كان كتّاب وصحافيون وفنانون عالميون يهود لم يسلموا من غضبة المنظمة، بل طالتهم أيضاً تهمة ارتكاب "الخطيئة" ذاتها؟ اللائحة تشمل وودي ألن، الممثل والسينمائي المعروف، الذي شُنّت ضدّه حملة تشهير شعواء لأنه أعلن العجز عن هضم مشهد الجندي الإسرائيلي وهو يدقّ بالحجارة عظم فتى فلسطيني أعزل؛ وميلتون فورست، المحرر المتجوّل في مجلة "نيويوركر"، واتُهم بالتواطؤ مع الشيطان العراقي لأنه التقى مع طارق عزيز عقب اجتياح الكويت؛ ومايكل ليرنر، الحاخام المستنير ورئيس تحرير المجلة اليهودية الثقافية ـ الفكرية Tikkun، لأنّ خطّ التحرير ينتقد إسرائيل بشدّة ويؤيد الحقّ الفلسطيني.
تبقى هذه الحكاية الأخيرة: في مطلع القرن الماضي انتُخب تيودور روزفلت رئيساً للولايات المتحدة على خلفية شعار عريض يقول بمحاربة مجموعات الضغط، اقتصادية وسياسية وإثنية ودينية. وحين أعلن تعيين اليهودي أوسكار شتراوس وزيراً للتجارة والعمل، سارع المصرفي جاكوب شيف (عميد يهود أمريكا آنذاك) إلى إقامة مأدبة عامرة احتفالاً بالمناسبة. كان روزفلت ضيف الشرف، فألقى كلمة أكد فيها أنه عيّن شتراوس استناداً إلى قاعدة الرجل المناسب في المكان المناسب، وليس لأنه يهودي. شيف لم يسمع ما قاله الرئيس لأنه كان أصمّ، ولم يتوفر الوقت لتنبيهه قبل أن ينهض ويلقي كلمة بدأها بالجملة التالية: "لقد استدعاني السيد الرئيس قبل تشكيل حكومته، وأعلمني برغبته في تعيين يهودي في الحكومة، وطلب منّي أن أسمّي الرجل الذي يُجمع اليهود على اختياره. ولقد أعطيته اسم أوسكار، فعيّنه، ولم يخيّب آمالنا"!
ومع ذلك، في الخلاصة الأهمّ: أفلحت عمر في كسر المحرّم، ولعلّ القادم أعظم.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس