الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الصحة "حق وكرامة"

الصحة "حق وكرامة"

11.04.2019
سوسن جميل حسن


سوريا تي في
الاربعاء 10/4/2019
في السابع من نيسان يصادف يوم الصحة العالمي بحسب منظمة الصحة العالمية التي تضع التغطية الصحية الشاملة على رأس قائمة أهدافها، إذ لا يمكن إنجاز هذا الهدف من دون ضمان حصول الجميع على الرعاية التي يحتاجون إليها، بحيث تقدم لهم في المكان نفسه الذي يعيشون فيه، لكن ماذا بشأن الكثير من بلدان العالم خاصة تلك الواقعة جنوب خط الاستواء، أو بلداننا التي ترزح تحت نير الحروب الخارجية والداخلية، والتي لم تكن شعوبها تنال الحصة التي تخصها من الرعاية الصحية بكل أشكالها، حتى في بعض البلدان المصنفة غنية لكن شعوبها يعانون من ضيق العيش والحرمان من غالبية من حقوقهم؟
يحق مثلاً للسوري الذي يمشي في شوارع مدن اللجوء الأوروبية أن يغار من الوجوه التي تطالعه فيها، هي وجوه مرتاحة، غير متجهمة، نضرة، خاصة وجوه الأطفال التي تمنحها النضارة جمالاً إضافيًا يوهم بتفوقهم
أطفال شعوبنا المنكوبة يعيشون المظالم الخاصة بهم، مظالمهم أكبر من أعمارهم ومن قدرتهم على الاحتمال
الجمالي الفطري، بينما الحقيقة أن الطفولة جميلة من دون تصنيف أو تمييز، الطفولة أجمل ما في الحياة وأكثرها حافزًا للحياة، لكن أطفال شعوبنا المنكوبة يعيشون المظالم الخاصة بهم، مظالمهم أكبر من أعمارهم ومن قدرتهم على الاحتمال، إنهم يقفزون فوق الطفولة ويشيخون باكرًا خاصة في جو الحرب والتشريد والحصار والجوع، وقبلها في ظروف الحرمان الذي عانوا منه، حتى مع آبائهم وأمهاتهم قبل هذه المرحلة، في عصر الفساد الموصوف، قبل أن تفرز الحرب منظومة فسادها الفاجر.
يقول بشار بن برد:
إنِّي وإن كان جمع المال يعجبني
فليس يعدل عندي صحَّة الجسد
في المال زينٌ وفي الأولاد مكرمةٌ
والسُّقم ينسيك ذكر المال والولد.
وكم رددنا ونحن تلاميذ من الأمثال التي كانت تشكل جزءً من المنظومة القيمية للمجتمع، إنما تعلمناها تلقينًا وكررناها ببغائية عجيبة كغيرها من المفردات والمعارف، من دون الولوج إلى معانيها أو تمثلها في الواقع لأن الواقع كان يطرح نقيضها أمام الوعي، الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلاّ المرضى، والعقل السليم في الجسم السليم، والنظافة من الإيمان وغيرها الكثير.
مع تطور البشرية وتعقد حياتها وما تطلبه من تنظيم تلك الحياة وإدارتها نحا مفهوم الصحة إلى أن يصبح مفهومًا عامًا تعتبر الدول مسؤولة عنه، وتبلورت فكرة "الصحة شأن عام" مع انطلاق منظمة الصحة العالمية عام 1946، التي قامت بوضع مفهوم اجتماعي للصحة ونشره، يقوم على اعتبارها حالة من اكتمال السلامة بدنيًا وعقليًا واجتماعيًا، وليست مجرد "انعدام المرض" مثلما كان شائعًا فيما مضى. انطلاقًا من هذا المفهوم الذي أقرته المنظمة تم الاعتراف بالصحة كحق من حقوق الإنسان يجب التمتع به دون التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو المعتقد السياسي أو الظرف الاجتماعي أو الاقتصادي أو غيرها من أدوات التمييز، وصارت منظمة الصحة العالمية تطور ذاتها وتزيد من حوض اهتماماتها وتعقد المؤتمرات وتطرح القرارات والقواعد والتوصيات والتعليمات التي تعنى بالصحة العامة وصحة الفرد والمجتمع، مع التركيز على الرعاية الصحية الأولية. بل زاد مجال الصحة المعنية اتساعًا بعد إعلان مؤتمر جاكرتا في العام 1997 الذي أقر بأن "السلم والمسكن والتعليم والأمن الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والغذاء السليم والمياه النقية للشرب، والدخل وتمكين المرأة والاستخدام الدائم والعادل للموارد والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان" هي متطلبات أساسية وعلى الحكومات العمل على تأمينها لمواطنيها، فالفقر هو أخطر ما يهدد الإنسان.
فلو راجعنا واقع الشعب السوري قبل انطلاق الحراك الشعبي في آذار 2011، والذي أنكره على الشعب قسم من الشعب نفسه، فإن الواقع يمدنا بشلال من الانتهاكات لكل الحقوق ولكل التوصيات التي نجمت عن منظمة الصحة العالمية وعن قرارات مؤتمر جاكرتا، فلا السلم الاجتماعي كان موجودًا ولا الأمن في ظل الخوف الذي كان مزروعًا في نفوس الجميع بسبب سطوة القبضة الأمنية على المجتمع، ولا التعايش
لم تكن الحكومة تبالي بشروط السلامة المهنية والتخلص الآمن من النفايات أو الارتقاء بوعي المواطنين لناحية البيئة ومخاطر انتهاكها
الطبيعي كان موجودًا بين شرائح المجتمع إنما كان هناك بديله الشمولي المفروض بالترهيب الأمني أيضًا، والدليل الانزلاق الذي انزلق إليه العديد من مكونات الشعب إلى الخلافات والتناحر وما تكشف عنه من تهتك النسيج المجتمعي، أما لناحية الغذاء فصحيح ان الجوع في سوريا لم يكن له أنياب، لكن الغالبية من المجتمع لم تكن قادرة على توفير متطلبات الراتب الغذائي بحده الأدنى لأفراد أسرها، ومياه الشرب النظيفة لم تكن متوفرة في كل المناطق، هناك مناطق في سوريا كانت تعاني من العطش، ومنها ما كانت تروي محاصيلها الزراعية بمياه المجارير، ولم تكن الحكومة تبالي بشروط السلامة المهنية والتخلص الآمن من النفايات أو الارتقاء بوعي المواطنين لناحية البيئة ومخاطر انتهاكها، ولم يكن هناك توزيع عادل للموارد وهذا وحده من الأسباب المباشرة لانتفاضة الشعب بسبب الإحساس بالغبن والظلم وانعدام العدالة بالإضافة إلى الأسباب الأخرى التي تصب في النهاية في خانة انتهاك الكرامة الإنسانية.
كان هناك برامج عديدة ومتنوعة في مجال الرعاية الصحية الأولية معظمها بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وكانت توفر حدًّا معينًا من الأهداف المتوخاة إن كان لناحية التلقيح ومراقبة نمو الأطفال ورعاية صحة الأمهات والحوامل منهن تحديدًا، وكانت المراكز الصحية متوفرة في معظم المناطق والمشافي العامة وحتى المراكز العلاجية الضخمة كمراكز الأورام وقصور الكلى وأمراض العيون ومراكز السكري، وكلها مجانية وتكلف الدولة مبالغ خيالية، لكن الفساد المستشري بغزارة والتغاضي عنه، بل وتشجيعه كأداة من أدوات الاستبداد، والترهل الإداري وانعدام المسؤولية والمحاسبة وأمور أخرى كثيرة أدى إلى أن تكون تلك القطاعات الخدمية عاجزة عن القيام بمسؤولياتها بالمستوى المطلوب، وشيئًا فشيئًا تحولت هذه المؤسسات والبرامج الصحية الموجهة إلى المجتمع تفقد فاعليتها ويتردى الوضع الصحي في الوقت الذي نشطت فيه المؤسسات الخاصة والمراكز الصحية والمشافي التي بإمكانها تقديم كل الخدمات الصحية إنما لشريحة قليلة جدًا من الشعب، أولئك المليئين ماديًا والمتنفذين، حتى إن سوريا صارت وجهة للسياحة الطبية أو سوقًا للخدمات الطبية بالنسبة إلى دول الجوار، والشعب السوري ينزلق إلى مستويات الحاجة ويلجأ إلى المؤسسات الحكومية التي صارت تتداعي وتعجز عن تقديم الخدمات المرجوة بعد أن نخرها الفساد ونهب المخصصات وإهدار المال العام، بالتواطؤ غير المعلن إنما المعروف لدى الجميع مع غيلان الاستثمار في القطاع الصحي، ويتحول جزء من الشعب إلى هدف أو ضحايا مرشحين لمافيا متحكمة بالـ "السوق الصحي".
بقدر ما هي الحرية مهمة كشرط إنساني، فإن الصحة مهمة أيضًا، وصحيح أن الحرية غاية عزيزة وسامية وإنما، كما يقول الكاتب النرويجي غوستاين غاردر، صاحب رواية عالم صوفي، "عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية وانما بالصحة. الصحة إذن تسبق الحرية". فهي إذن بحسب هذا القول من ألصق الحقوق بالكرامة البشرية، فلمن ما زالوا يرددون مقولة "كنا عايشين"، حتى لو كانت المقارنة تصح بين الوضع اليوم بسبب نتائج الحرب المدمرة ووضع ما قبل الحراك، أما بالنسبة للحياة الكريمة الإنسانية لم نكن "عايشين"، فإنني أقتبس عنوان كتاب الطبيب اللبناني إسماعيل سكرية "الصحة حق وكرامة".