الرئيسة \  تقارير  \  اللعب مع الكبار.. كيف خلقت تركيا سوقًا عسكرية في أفريقيا؟

اللعب مع الكبار.. كيف خلقت تركيا سوقًا عسكرية في أفريقيا؟

20.11.2021
محمد محمود السيد


ساسة بوست
الخميس 18/11/2021
خلال العقد الأخير صارت أفريقيا أحد المحاور الإستراتيجية للسياسة الخارجية التركية التي وضعها الرئيس رجب طيب أردوغان، وهو الأمر الذي يحمل أكثر من هدف، بدايةً من البحث عن أسواق جديدة، ومرورًا بتوسعة مجال نفوذها السياسي، ووصولًا إلى منافسة القوى الدولية والإقليمية في المناطق الإستراتيجية المهمة في أفريقيا، واعتمدت تركيا خلال تحركاتها في أفريقيا على الدبلوماسية والأدوات الاقتصادية.
لكن مع صعود الصناعات العسكرية والدفاعية التركية خلال السنوات الخمس الأخيرة، سعت أنقرة لاستغلال قواها الصلبة لإضافة بُعد جديد لتحركاتها في أفريقيا، ومن خلال اقتحام مختلف البقاع الساخنة في منطقتي الساحل والقرن الأفريقي، بات يُنظر اليوم إلى تركيا على أنها “مزوِّد أمني” جديد للقارة، قد ينازع نفوذ بعض القوى التقليدية الكبرى مثل فرنسا.
أبعاد الحضور التركي في أفريقيا
بنهاية الجولة الأفريقية الأخيرة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والتي شملت نيجيريا وأنجولا وتوجو، في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، يكون أردوغان قد زار 30 بلدًا أفريقيًّا منذ وصوله إلى الحكم عام 2003، لتملك تركيا واحدةً من أقوى الشبكات الدبلوماسية في أفريقيا، عن طريق 43 سفارة مُمثلة لها في أنحاء أفريقيا.
فمنذ اليوم الأول له، سعى أردوغان إلى توسعة النفوذ التركي في أفريقيا، وازداد تمسكه بهذا المسار مع تعقد علاقاته مع الغرب في ظل الرفض الأوروبي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن التحول الأهم كان في عام 2011، عندما ركَّز أردوغان على رسم ملامح دور إقليمي رائد لبلاده في الشرق الأوسط وأفريقيا، وجرى تدشين مرحلة التوسع والامتداد في العلاقات التركية-الأفريقية، بزيارة أردوغان، في 2011، إلى الصومال، وكانت أول زيارة رسمية للبلاد من رئيس حكومة غير أفريقي، وتجلَّت أهمية الزيارة في توقيتها؛ إذ كانت الصومال تعاني حينذاك من أزمة إنسانية نتيجة الجفاف.
وكانت هذه الزيارة بداية علاقات وثيقة امتدت إلى وقتنا هذا؛ إذ وصل معدل التبادل التجاري بين البلدين إلى 206 ملايين دولار، كما قامت وكالة “تيكا” التركية بتمويل مشروعات إنسانية وإنمائية في الصومال، في الفترة بين 2011 و2017، بقيمة 500 مليون دولار.
ولم تكن العلاقات مع الصومال سوى مدخل لتعزيز الوجود التركي في منطقة القرن الأفريقي، والتي نظرت إليها أنقرة بوصفها مدخلًا إستراتيجيًّا يتحكم في كم هائل من التجارة العالمية، إذ تتراوح التقديرات بشأن حجم التجارة المارة بالبحر الأحمر من إجمالي التجارة العالمية من 13% إلى 15%، وأن حجم التجارة التي تمر عبر البحر الأحمر يبلغ أكثر من 2.4 تريليونات دولار سنويًّا، ويمر عبره نحو 3.3 ملايين برميل نفط يوميًّا؛ مما يدل على أن المنطقة تعد معبرًا جيوسياسيًّا يتداخل في العديد من صراعات الشرق الأوسط وأفريقيا، لذلك، عزَّزت تركيا علاقتها مع جيبوتي ليصل حجم التبادل التجاري بينهما عام 2019 إلى 255 مليون دولار.
وسرعان ما اتجهت أنقرة إلى إثيوبيا حتى وصل التبادل التجاري بين البلدين إلى معدلات قياسية، لتنمو بمقدار 650 مليون دولار في العامين الأخيرين فقط، لتصل إجمالي الاستثمارات التركية في إثيوبيا إلى اثنين ونصف مليار دولار. وبهذا تحتل المرتبة الثانية في حجم الاستثمارات الأجنبية في أديس أبابا بعد الصين. وصارت إثيوبيا تحتضن نحو 200 شركة تركية على أراضيها توظِّف 30 ألف إثيوبي.
وبعيدًا عن منطقة القرن الأفريقي، راحت تركيا تنافس بعض القوى الكبرى في مناطق نفوذها التاريخية؛ إذ توطدت العلاقات الاقتصادية بين أنقرة والجزائر بقوة منذ عام 2017، وصارت الأخيرة تحتضن نحو ألف شركة تركية، وتشير الإحصاءات إلى أن التجارة التركية-الجزائرية، خلال عام 2019، تجاوزت 4 مليارات دولار؛ مما جعل تركيا خامس أكبر شريك تجاري للجزائر بعد الصين وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
وتشير الإحصاءات إلى أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وأفريقيا، قد تضاعف خمس مرات في عهد أردوغان، من 5 مليارات  إلى 25 مليار دولار خلال عام 2020، وخلال زيارته للجزائر في فبراير (شباط) من العام نفسه، أعلن أردوغان أن بلاده تستهدف رفع هذا الرقم إلى 50 مليار دولار في المستقبل القريب.
تركيا “مزوِّد أمني” في أفريقيا
بالتوازي مع صياغة أنقرة لسياسة خارجية ودفاعية مستقلة عن شركائها في الناتو كان لِزامًا عليها أن تبحث عن مساحات إستراتيجية جديدة تمثل مجالًا حيويًّا للنفوذ التركي العسكري، فقد سعت تركيا لتعزيز صناعاتها الدفاعية والأمنية، وقلَّصت اعتمادها على الغرب في مجالات الدفاع والأمن من 80% إلى 18%، كما سعت إلى مد نفوذها العسكري إلى قارة أفريقيا بوصفها إحدى المناطق الإستراتيجية في سياستها الخارجية، وهو ما يمكن رصده على النحو التالي.
1- التوسُّط في النزاعات العسكرية
في البداية وظَّفت أنقرة أدواتها الدبلوماسية للتوسُّط في النزاعات العسكرية الدائرة في أفريقيا، وتحديدًا البقاع ذات الأهمية الإستراتيجية لها (دول الساحل والقرن الأفريقي)؛ فأشرفت أنقرة على المفاوضات بين الصومال وجمهورية أرض الصومال (صومالي لاند) منذ عام 2013، وذلك من أجل التوصل إلى اتفاق سلام، بل عيَّنت مبعوثًا خاصًّا لمتابعة تطورات الوضع هناك.
وكذلك دعَّمت اتفاق الجزائر للسلام في مالي عام 2015، وقدَّمت دعمًا ماليًّا قيمته 5 ملايين دولار لـ”مجموعة دول الساحل الخمس” عام 2018، وذلك لدعم جهود نشر قوات في بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر لمحاربة الجماعات المسلحة هناك، وكذلك أبدى الرئيس التركي استعداده في أكثر من مناسبة للتوسط بين الحكومة الإثيوبية و”جبهة تحرير تيجراي”، للحيلولة دون استمرار الصراع العسكري الدائر بينهما.
2- تأسيس قواعد عسكرية وتوقيع اتفاقيات أمنية
لم يقتصر تعزيز العلاقات التركية-الصومالية الذي بدأ عام 2011، على المستوى السياسي والاقتصادي فقط، بل تضمن بُعدًا عسكريًّا مهمًّا؛ إذ افتتحت أنقرة في الصومال أول وأكبر قاعدة عسكرية لها في العالم في سبتمبر (أيلول) 2017، بتكلفة بلغت نحو 50 مليون دولار، وذلك بهدف تعزيز القدرات العسكرية للقوات الصومالية في مجال مكافحة “الإرهاب”، وجرى نشر نحو 200 عسكري تركي لتخريج دفعات ربما تصل إلى 10 آلاف جندي صومالي سنويًّا.
وكذلك وقَّعت تركيا اتفاقية للتعاون في المجال الدفاعي مع السودان في مايو (أيار) 2017، شملت التطوير والإنتاج والتحديث المشترك لقطع الغيار والأدوات والمواد الدفاعية والأنظمة العسكرية والمعدات الفنية المطلوبة من طرف القوات المسلحة للطرفين، كما تضمن الاتفاق تبادل المعلومات التقنية المتعلقة بمعايير الصناعة الدفاعية، وتعزيز التعاون بين المؤسسات الفنية العسكرية وشركات الصناعات الدفاعية ومنشآت الصيانة والإصلاح، وتسهيل الزيارات الفنية لمراكز الأبحاث وتبادل الأفراد بين المؤسسات والشركات.
أمَّا الاتفاق الذي أثار الجدل كثيرًا، فكان في منطقة الساحل، وتحديدًا مع دولة النيجر في يوليو (تموز) عام 2020، وهو اتفاق لم تُعلن بنوده، ولكن بعض التقارير ذكرت أنه يشمل خططًا تركية لتدريب ودعم قوات النيجر التي تقاتل جماعة “بوكو حرام” ومساعدتها في تأمين حدود البلاد مع مالي وبوركينا فاسو، وقد جرى توقيع الاتفاق بعد عام واحد فقط من ظهور تقارير تفيد بأن فرنسا ستوقف قاعدتها في “ماداما” بالقرب من الحدود الليبية في أقصى شمال النيجر وربما تسلمها إلى الإمارات.
وأخيرًا، جاءت الاتفاقية الأمنية التركية مع إثيوبيا، التي جرى توقيعها في أغسطس (آب) 2021، والتي لم يُكشَف عن بنودها، ولكنها تتضمن تنسيقًا عالي المستوى بين القوات التركية والإثيوبية، ناهيك عن تصدير أسلحة ومعدات عسكرية تركية إلى أديس أبابا.
3- تصدير “الدرونز” التركية
مع تطور صناعتها اكتسبت “الدرونز” (الطائرات بدون طيار) التركية سمعة عالمية جيدة، خاصةً بعدما أثبتت كفاءتها في أكثر من ميدان، ويعد طراز “بيرقدار تي بي 2” رخيص الثمن مقارنةً بالطائرات دون طيار المناظرة له، كما أنه أرخص بعشرين مرة من الطائرات المقاتلة، ولا يحتاج استخدمه إلى بنية تحتية عسكرية معقدة، وقد جرى اختباره بنجاح في العراق ضد حزب العمال الكردستاني، وفي ليبيا ضد قوات حفتر، وفي سوريا ضد قوات الأسد، وأخيرًا في حرب ناغورني كاراباخ ضد قوات أرمينيا.
وقد دخلت تونس والمغرب ضمن قائمة عملاء “الدرونز” التركية، فيما تتطلع كل من رواندا وإثيوبيا إلى الحصول عليها، فيما ذكرت بعض التقارير أن تركيا قد سلَّمت الحكومة الإثيوبية 10 مُسيَّرات ضمن الاتفاق الأمني المُوقع مؤخرًا بين البلدين، لكن السفارة التركية هناك قد نفت هذه التقارير.
4- شركة “صادات” العسكرية ودورها في ليبيا
وفقًا للتعريف الوارد على موقعها الرسمي على الإنترنت، فإن شركة “صادات للاستشارات الدفاعية الدولية” هي “الشركة الأولى والوحيدة في تركيا التي توفر الخدمات الاستشارية والتدريبات العسكرية في مجال الدفاع الدولي”، وقد تأسست الشركة عام 2012 تحت رئاسة، العميد المتقاعد، عدنان تانريفردي، والذي عيَّنه أردوغان في يوليو (تموز) 2016 مستشارًا عسكريًّا له. وتقدم الشركة – وفق توصيفها – خدماتها في ثلاثة مجالات رئيسة:
الاستشارات العسكرية وفي مجال الأمن الداخلي.
التدريب العسكري وفي مجال الأمن الداخلي.
التجهيزات من أجل القوات المسلحة وتشكيلات قوى الأمن والشرطة.
وتذهب التحليلات إلى أن الشركة صارت إحدى وسائل تحركات أردوغان العسكرية على المستوى الخارجي، سواءً في سوريا أو أذربيجان، كما أنها تعد جزءًا من اتفاقات تركيا الأمنية في أفريقيا، ولكن دورها البارز تجلَّى في ليبيا.
ففي صيف عام 2020، أصدر كبير المفتشين العامين بوزارة الدفاع الأمريكية تقريره الفصلي إلى الكونجرس حول عمليات مكافحة الإرهاب في مسرح القيادة الأمريكية في أفريقيا، وتضمنت نتائجه تقييمًا للوضع الأمني في ليبيا، وأشار إلى أن شركة “صادات” نشرت عشرات المدربين العسكريين لتدريب القوات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني خلال عام 2020، وكذلك المقاتلين السوريين الموجودين هناك.
1- الصومال.. منصة لبرنامج الفضاء التركي
تحدَّثت مصادر حكومية تركية، في فبراير (شباط) 2021، عن خطط برنامج الفضاء التركي للقيام بهبوط سلس على سطح القمر في عام 2028، بتكلفة تقدر بمليار دولار، وذلك من خلال مواقع لإطلاق الصواريخ في الصومال.
وتُخطِّط الحكومة للوصول إلى هذه المرحلة عبر خطوة أولية في عام 2023 (في الذكرى المئوية للجمهورية التركية)، تتضمن تنفيذ هبوط على القمر باستخدام صاروخ هجين محلي الصنع سيجري إطلاقه في المدار، من خلال القاعدة العسكرية التركية الموجودة في الصومال، ومن الجدير بالذكر أن فرنسا فكرت في ذلك أيضًا في استخدام الصومال لاستضافة محطة فضائية في الستينيات نظرًا إلى قربها من خط الاستواء؛ مما يجعلها أكثر ملاءمة لإطلاق الصواريخ.
لماذا تحتاج تركيا إلى أفريقيا؟
على الجانب الأفريقي هناك حوافز عدة للتقارب مع تركيا، فهي دولة ليس لها تاريخ استعماري في أفريقيا، وحليف أكثر سهولة في التعامل، ولا تطلب مقايضات اقتصادية وسيادية كبيرة كما تفعل الدول الكبرى، كما أن العلاقات مع تركيا، وخاصةً العسكرية والأمنية، تكسر الاحتكار الغربي لهذه الخدمات في أفريقيا.
أمَّا على الجانب التركي، فهناك دوافع عدة، جعلت أنقرة مهتمة بتوسيع دورها، وتركيز اهتمامها على أفريقيا:
أن تركيا ربما تحتاج إلى قصة نجاح تُعيد تعزيز شعبية النظام كما تذهب بعض التحليلات؛ ففي ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الحكومة، مع ضعف العملة وزيادة التضخم ومعدلات البطالة المرتفعة، صار هناك تململ على صعيد الطبقة الوسطى والشباب؛ لذا وبما أن الحكومة التركية أصبحت عالقة على جبهات السياسة الخارجية الرئيسة، فإن انخراطها مع الدول الأفريقية، بشكلٍ ما، يوفر لها قصة نجاح تحتاج إليها، محليًّا وخارجيًّا.
يطغى المنطق الاقتصادي على جانب كبير من سياسة تركيا تجاه أفريقيا؛ إذ ما زالت أفريقيا سوقًا واعدة، خاصةً على مستوى الخدمات الأمنية والمعدات العسكرية، في ظل استمرار التحديات الأمنية التي تواجهها دول الساحل والقرن الأفريقي.
مطاردة نفوذ رجل الدين التركي “فتح الله كولن”، والذي تتهمه أنقرة بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية في 2016؛ إذ دفعت تركيا نحو إغلاق المدارس التابعة لكولن، والتي كانت تُمثِّل أحد مصادر القوة الناعمة التركية في السابق، ثم اتجهت إلى ملء ذلك الفراغ عبر مؤسسة دينية جديدة سُميت بـ”معارف”، وباتت موجودة في 31 دولةً أفريقية.
أن تركيا قد حاولت توظيف علاقاتها الأمنية والعسكرية مع دول أفريقيا في إطار منافستها الإقليمية مع دول الخليج، كما يشير بعض المحللين؛ ففي ليبيا سعت تركيا إلى حرمان الإمارات وحليفها حفتر من السيطرة على مقاليد الأمور، كما نازعت دول الخليج في محاولاتهم للسيطرة على منطقة القرن الأفريقي (وتحديدًا جيبوتي)، كما أن العلاقات مع إثيوبيا هي ورقة ضغط مهمة يمكن استثمارها في إطار تسوية الخلافات مع مصر.
إجمالًا، وبغض النظر عن دوافع تركيا المتغيرة والثابتة للتقارب على المستوى العسكري والأمني مع دول أفريقيا، فإن استمرار تطور الصناعات الدفاعية التركية، واستمرار حاجة أفريقيا إلى مزودين جُدد للخدمات الأمنية العسكرية، سيدفع العلاقات التركية-الأفريقية إلى التطور في هذا الصدد، ولكنه على الجانب الآخر سيضع أنقرة في مواجهات مُتجددة مع الدول الكبرى التي اعتادت على لعب هذا الدور منفردة في الماضي.