الرئيسة \  واحة اللقاء  \  إدلب والمحرقة الروسية

إدلب والمحرقة الروسية

12.05.2019
بشير البكر


العربي الجديد
السبت 11/5/2019
تشكل إدلب في شمال سورية عقدة لأطراف تفاهمات أستانة، روسيا وإيران وتركيا. وكلما تقدّم الزمن، صارت المشكلة تكبر وتتعقد أكثر، تبعا لأداء كل طرف وطموحه لاستثمار هذه الورقة التي تتحكّم روسيا بالحصة الأكبر منها، وهذا ما يتيح لها رسم المسار العام للحدث، على الرغم من أنها لا تستطيع تصريف الورقة منفردة. وتعتبر إدلب منطقة ذات وزن نوعي في المسألة السورية المتفجرة، وما يميزها أن السوريين الذين يعيشون فيها هم خليط من سكانها الأصليين، ومن الذين نزحوا إليها في العامين الأخيرين من ريف دمشق ومنطقة الجنوب، ويجمعهم قاسم مشترك أنهم جميعا رفضوا عروض المصالحة التي قدّمها الروس، وفضلوا ترك ديارهم على البقاء بشروط النظام.
ولا يعني وضع إدلب الحالي أنها تعيش تحت راية الثورة السورية بالضرورة، فهناك رايات وأجندات أخرى مسلحة تتعايش، وتتصارع بعيدا عن سيطرة النظام، وسط حاضنةٍ شعبيةٍ لا تزال عند حلم الثورة السورية الأول، على الرغم من الثمن الكبير الذي دفعته. ويجانب الصواب كل من يعتبر أن هذه الحاضنة على وفاق تام مع القوى المسلحة. وهناك نقطة أخرى على درجة من الأهمية، وهي أن إدلب هي الجدار الأخير لقرابة أربعة ملايين سوري، بات العدو من ورائهم ولا بحر من أمامهم، بعد أن أغلقت تركيا حدودها أمامهم بضغط من أوروبا، ولم يعد أمامهم من منفذ للنجاة، ومع الأيام تصبح فكرة النجاة من الوضع المأساوي نوعا من الترف، فإما الموت أو الموت ولا خيارات أخرى، ولذلك هناك عشرات الآلاف الذين ينامون في العراء، منذ بدأت عملية التصعيد الراهنة في مطلع فبراير/ شباط الماضي. حتى الخيمة صارت حلما بعيد المنال. وتنقل تقارير تلفزيونية مصورة نمطا من الحياة لا مثيل له في عالم اليوم، وهي الحياة في البرّية تحت ظلال الزيتون التي تنعدم فيها أبسط المقومات.
لم يعد السوري ينتظر شيئا من أحد، وهو يعرف أن أحداً لا يكترث به، وسواء عاش أو مات لن يهتم به أحد. هي نسخة جديدة من فساد البشرية وانحطاطها في العصر الترامبي السعيد الذي لم تعد فيه حقوق الإنسان تعني شيئا، وصارت حياة ملايين البشر السوريين مثل كمشة ترابٍ في رياح روسيا وإيران. ولذلك يتصرف المحتل الروسي بكل حرية، فيضرب حيث يمكن أن يوجع الناس أكثر، وكانت صور المرضى، خلال هذا الأسبوع، وهم يهربون في الشوارع من هجمات الطيران الحربي الروسي واحداً من المشاهد التي لن تنمحي من الذاكرة. هي حرب إبادةٍ معلنةٍ أمام العالم وبالصور الحية، ولا تماثلها مأساةٌ سوى غرف الغاز التي بناها النازيون لحرق اليهود في الحرب العالمية الثانية. هي الوحشية والكلبية والتخلي نفسها. أن يُخرج الطيران الروسي البنى التحتية الصحية عن الخدمة ليس أمرا جديدا، فقد مارس الجرائم نفسها في الغوطة ودرعا وحلب، وكان بذلك يستخدم أكثر الأسلحة فتكا وعنفا، وهو بذلك نقل دروس حرب الإبادة التي ارتكبها في غروزني الشيشانية التي حكمها بعد أن أفنى البشر والحجر، ونال رئيس الأركان الروسي الحالي، غينادي غراسيموف، وساما من بوتين، لأنه استطاع أن يطفئ كل جذوة حياة في غروزني، وكتبت الصحافة الأجنبية الكثير عن جرائمه في حلب في عام 2016، والتي دفعت أهالي شرق حلب إلى الخروج بهجرة جماعية.
يأمل المرء ألا يصيب إدلب مصير حلب، ولكن المؤشرات لا توحي بأن هناك مخارج تجنب الناس المدنيين هذه المحرقة، وهذه مسؤوليةٌ على الجميع أن ينهض بها قبل أن تقع الكارثة التي ستفوق كل ما سبقها أثرا.وفي هذا الصدد يعلق مصدر أوروبي أن إيران استخدمت في الماضي ورقة الإرهاب وأوروبا منتبهة جيدا لكل خطوات طهران. أما بالنسبة للانسحاب من بندي بيع اليورانيوم المنخفض التخصيب والماء الثقيل فيحدد أحد المفاوضين السابقين في جولات فيينا أن هذا الإجراء رمزي لأن هذه المواد لا تجد من يشتريها. أما بالنسبة لمهلة الستين يوما والتلويح برفع تخصيب اليورانيوم فيحدد أحد الخبراء أن أي مغامرة بإيصال التخصيب إلى مستوى يؤهل الإنتاج العسكري تعني إنهاء الاتفاق واصطفاف أوروبا خلف إدارة ترامب.
هكذا بعد رمي الترويكا الأوروبية للإنذار- المهلة وتركيز إيمانويل ماكرون على البرنامج الصاروخي الباليستي مع تمسكه بالاتفاق النووي، تبدو المناورة الإيرانية مسدودة الأفق في رهانها القديم – الجديد على الشقاق بين الأوروبيين وواشنطن. تعتبر الأوساط الفرنسية المتابعة للملف أن الرئيس ماكرون سعى بكل جهده وفشل في إقناع ترامب بالتريث والعمل على استكمال اتفاق 2015 وسد ثغراته (تمديده بعد 2025، تطوير الصواريخ الباليستية والاستقرار الإقليمي) ولذلك رفضت أوروبا خطوته وكانت جادة في التوصل إلى آلية التفاف على العقوبات واستمرار المعاملات المالية والتجارية في بعض الميادين مع طهران، لكن لا القطاع الخاص ولا المصارف الأوروبية تجاوبت ولم يعد هناك هامش مناورة عند الترويكا.
بناء على ذلك، حاول الجانب الفرنسي مطالبة طهران بمرونة حول الملف الباليستي وحول الدور الإيراني في اليمن وسوريا ولم يكن هناك أي تجاوب إيراني ملموس. وزاد الطين بلة تورط طهران في أعمال إرهابية مفترضة ضد المعارضة الإيرانية في باريس وهولندا والدنمارك. إزاء هذه الدائرة المغلقة، زاد نفوذ الصقور داخل إدارة ترامب وازداد التوتر بين واشنطن وطهران من العراق إلى ضفاف الخليج العربي.
ومن الواضح أن إيران المنهكة داخلياً والمصرة على مكاسبها الإقليمية تراهن على عدم حرق المراحل والانسحاب على مراحل من اتفاق 2015 لكسب الوقت، وهي تعلل الآمال على عدم التجديد لدونالد ترامب كي تعود إلى خطوط الوصل مع واشنطن.
في المقابل أتى القرار الأميركي ضد تصدير المعادن الإيرانية ليشكل ضربة إضافية ويمثل تشددا في إدارة الملف بالتوازي مع نشر حاملة الطائرات والقاذفات الاستراتيجية. من الواضح أن فريق الرئيس ترامب لا يخطط للحرب الشاملة على شاكلة ما جرى في العراق في 2003 إذ لسنا أمام عدو مماثل أو ميزان قوى عالمي مماثل أو إدارة أميركية مماثلة، بل أقصى ما يمكن أن يحصل في حال قيام إيران بتحريك أذرعها في ضربات للمصالح الأميركية أو للجنود الأميركيين في المنطقة أو ضد حلفاء الولايات المتحدة، هو ضربة محدودة أميركية شبيهة بما حصل عام 1988 عندما عرقلت إيران الملاحة في المياه الدولية. لكن يمكن لإسرائيل أن تلعب دوراً في مواجهة بالوكالة يكون مسرحها الأساسي سوريا وربما لبنان والعراق. بيد أن احتمالات مواجهة ما قبل بدء الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية في صيف 2020، تبقى رهينة حسابات الأطراف المعنية وقدرة بعض اللاعبين الخارجيين وأبرزهم روسيا على تفاديها أو احتوائها.
مع إدارة دونالد ترامب تنتقل واشنطن للمرة الأولى من سياسة رمادية لا تتجاوز ربط النزاع مع طهران، إلى سياسة هجومية تلامس الخطوط الحمراء
على صعيد آخر عوّلت طهران طويلاً على الصين كشريك اقتصادي واستراتيجي. وبالفعل لعبت بكين دورا كبيرا في تخفيف آثار العقوبات الدولية بحق إيران بين 2012 و2015. لكن يبدو الوضع مختلفاً في 2019 بناء على أرقام طلبيات الصين من النفط الإيراني (مقابل زيادة الصادرات النفطية السعودية إلى الصين). ومن التفسيرات الممكنة لهذا التردد الصيني عدم وجود رغبة في مقارعة واشنطن حول هذا الملف وتسخين الحرب التجارية على هذا المحور.
ولا تستبعد بعض الأوساط أن تقوم الصين بلعبة مزدوجة تقضي بالحصول على نفط إيراني منخفض السعر عبر التهريب، وكذلك تشديد التعاون العسكري السري (خاصة في مجال الطائرات المسيرة). لكن أياً كانت مواقف الصين والهند وتركيا حيال استيراد النفط الإيراني فإنها لن تحد كثيرا من فعالية الخطوة الأميركية وتصاعد تأثيرها على الداخل الإيراني مع سقوط سعر صرف العملة الوطنية والتضخم وغلاء الأسعار.
يعمل الحكم الإيراني على شد العصب الداخلي في وجه الإدارة الأميركية، لكن هناك شك بقدرته على ضبط نقمة شعبية متفاعلة منذ نهاية عام 2017. ولا يستبعد أن يقود الضغط الأقصى أصحاب القرار في طهران إلى اتخاذ خيارات متهورة لاعتبارات أيديولوجية وذاتية تتصل بتوازن القوى داخل الدائرة الأولى للحكم. وفي مواجهة إدارة دونالد ترامب سيوجد كل الإقليم على صفيح ساخن على وقع تطورات الملف الإيراني.