الرئيسة \  واحة اللقاء  \  داعش ومسيحيو الموصل

داعش ومسيحيو الموصل

22.07.2014
د. رحيل محمد غرايبة



الدستور
الاثنين 21/7/2014
 تداولت وسائل الإعلام العالمية خبر "الدواعش" الذي صدر عنهم بخصوص المواطنين المسيحيين العراقيين الذين يقطنون مدينة الموصل، والذي يقضي بتخييرهم بين الإسلام أو الجزية أو الرّحيل عن المدينة، ويأتي ذلك تقليداً لما كانت تفعله الجيوش الإسلامية في المعارك مع الأعداء المقاتلين، حيث كانوا لا يبدأون القتال حتى يخيروهم بين ثلاث خصال.
هذا الخبر يعبر عن مشكلة كبيرة تثير الرعب في نفوس المسلمين أولاً قبل أن يمثل صدمة حضارية للعالم كله، فنحن أمام ظاهرة مقلقة نتيجة إقحام بعض شباب الأمة أنفسهم للدين بطريقة جاهلية وسطحية وموغلة بالفجاجة تهدد مستقبل العالم العربي والإسلامي، وتنذر بعواقب وخيمة على مستقبل الأمة المظلم والمدلهم بفعل ظهور هذه الفئات المنبتة عن دينها وفكرها وتاريخها وحضارتها، وخارج سباق الزمن ، وتأتي خطورة الجريمة من خلال تغليفها بالدين واستنادها الى الإسلام ظلماً وعدواناً.
هؤلاء يظنون أنفسهم أنهم يمثلون جيوش الفتح الإسلامي، التي تريد أن تفتح الأرض وتنشر الإسلام من جديد، ويتقمصون شخصيات المسلمين التاريخية، من خلال إعادة خطبة أبي بكر الأولى بنفس الألفاظ والمصطلحات، ومن خلال ما علق بأذهان بعضهم من دراسة مقتطفات تاريخية مجتزأة من سياقها، وخارج سياق فهم النص، وبعيداً عن مبادئ الإسلام العظيمة وقواعده الكبرى ومقاصده العليا، وخارج سياق التراكم الزمني لمنجزات الأجيال المتعاقبة التي اسهمت بتشييد حقبة تاريخية حضارية متميزة على مختلف الصعد المادية والمعنوية.
كيف لهؤلاء أن يفقهوا أن الإسلام جاء ليحرر البشرية والانسانية المعذبة من كل أنواع العبودية، وكل أشكال التسلط والديكتاتورية وجاء ليرفع الظلم عن المظلومين، ويزيل القهر عن المقهورين، من أجل إتاحة الفرصة أمام كل الآدميين ليختاروا دينهم وعقيدتهم وفكرهم وثقافتهم وأسلوب حياتهم، بعيداً عن الإكراه واستخدام القوة والعنف، وبعيداً عن كل أشكال العدوان والإثم، وذلك من أجل أن تصبح بلاد المسلمين واحة وارفة الظلال لكل من يبتغي العيش بسلام وآمان، ومن أجل توفير الحياة التي يسودها العدل والرفاه والتعاون والمساواة دون تمييز قائم على العرق أو اللون أو الدين أو المذهب، وكيف لهم أن يفقهوا أن الجهاد كان يهدف الى رفع القهر عن الناس من أجل تمكينهم من حرية الاختيار للمعتقد والفكر.
نحن أمام معضلة شديدة ومشكلة معقدة تصيب الأمة كلها،وما هي إلّا نتيجة لمجموعة عوامل متداخلة، أسهم بها عدد كبير من الأطراف، ويتحمل مسؤوليتها كل القوى الفاعلة في المجتمع على الصعيد الرسمي والمدني.
العامل الأول في هذه المعضلة كان نتيجة الأنظمة التربوية والتعليمية، التي تتحمل المسؤولية الكبرى في تخريج هذه الأجيال المشوهة فكرياً وثقافياً، خاصة في مجال الدين والعقيدة التي تركت لكل من هب ودب، ولمجاميع غوغائية استغلت مساحة الفراغ والجهل التي يعاني منها الجيل، فتم ملؤها بآراء واجتهادات فردية مختلفة تقوم على أفهام مجزوءة منقوصة ومشوّهة.
والعامل الثاني يقوم على التقصير المتراكم بالاهتمام بالمسجد والمنبر، ومجال الوعظ العام، الذي تعرض لموجة جديدة من أصحاب ثقافة انفعالية ترتكز على التعبئة غير المدروسة، وخطاب الكراهية والتحريض، والانشغال بالأمور الشكلية على حساب اللباب والجوهر.
العامل الثالث طرأ بعد الهزائم المتوالية والنكبات المتكررة منذ العام (48) و (67) وما بعده، حيث لم تستطع الأمة الإفاقة من غفلتها، وبقيت تعيش حالة التخبط والصراع الداخلي، ونشأت أجيال في ظلال الإحباط والخيبة التي تسمح بنمو بذور التطرف والميل نحو التشدد والعنف وترعرعت ثقافة البحث عن المخلص والبطل الفرد، والمستبد العادل.
أما العامل الرابع فيعود للأنظمة السياسية التي عجزت عن وضع طريق لإعادة بناء الأمة والأجيال من أجل التغلب على آثار الهزيمة والنكسة، واستغرقت في ثقافة التفرقة والإقصاء والتهميش، التي أدت الى تفشِّ روح الثورة والتمرد تحت لافتات العنف والتغيير بالقوة، ونشأت أجيال هائمة ومفرغة ثقافياً وفكرياً وسياسياً، وهي عرضة للاختراق والاستلاب الحضاري.
العامل الخامس كان بسبب الحركات والقوى الإسلامية المعتدلة التي عجزت عن تطوير خطابها المعاصر، ولم تستطع استيعاب الأفواج الجديدة، وقصرت تقصيراً كبيراً في مواجهة الفكر المتطرف الذي سوف تكون احدى ضحاياه
 إننا أمام حالة تقتضي التعامل معها بطريقة مختلفة، تقف على أصل المشكلة من أجل التعاون والتوافق على مواجهتها وفقاً لاستراتيجية شاملة للأبعاد التربوية والفكرية والسياسية والاقتصادية، وهذا يقتضي الاستنفار من كل القوى السياسية والاجتماعية الوطنية المخلصة.