الرئيسة \  واحة اللقاء  \  تراث الإغارة على النظام السوري: "عقلنة" تحفظ قواعد اللعبة

تراث الإغارة على النظام السوري: "عقلنة" تحفظ قواعد اللعبة

20.09.2014
صبحي حديدي



القدس العربي
الجمعة 19-9-2014
ليس مؤكداً أنّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما كان يرد على بثينة شعبان، مستشارة بشار الأسد الإعلامية، ضمن طراز من التراشق اللفظي المباشر لا ينزلق إليه البيت الأبيض عادة، خاصة في مخاطبة موظفين بدرجات أدنى، لدى أنظمة استبداد شرق ـ أوسطية. قالت شعبان، من شاشة CNN، إنّ "دمشق قد تسقط الطائرات الأمريكية، لأنها أتت من دون إذن واعتدت على سيادة سوريا"؛ وقال أوباما، عبر صحيفة "نيويورك تايمز"، :"إذا فكر الأسد وأمر قواته بإطلاق النار على الطائرات الأمريكية التي تدخل المجال الجوي السوري، فسندمر الدفاعات الجوية السورية كافة، وسيكون هذا أسهل لقواتنا من ضرب مواقع ‘داعش’".
ليس مؤكداً، أيضاً، أنّ رسالة أوباما هذه ـ مصاغة بلغة غير مبطنة، بل صريحة وقحة كذلك ـ لا يُراد منها "عقلنة" نظام لا ينوي الرئيس الأمريكي استهدافه، مباشرة؛ أو ليس بعدُ على الأقلّ، وليس في هذا الطور من "ستراتيجية" البيت الأبيض لتدمير "داعش". وهذه، إذا صحّت، "عقلنة" ليست جديدة على مجمل الخطّ الذي اعتمدته مختلف الإدارات الأمريكية تجاه نظام "الحركة التصحيحة"، الأب حافظ الأسد، مثل وريثه بشار؛ وهي، ذاتها، تقاطعت مع "عقلنة" من جانب إسرائيل، تبلورت ابتداءً من موقف وزير الدفاع، الأسد الأب، في هزيمة 1967 النكراء؛ وانتهاءً بالموقف الإسرائيلي الراهن، المعارض لأيّ تعجيل في إسقاط نظام الأسد الابن.
ولقد أثمرت "العقلنة" الكثير، للأطراف الثلاثة في الواقع: منذ صمت النظام على الاجتياح الإسرائيلي للبنان، 1982؛ إلى المشاركة في تحالف "حفر الباطن"، ثمّ مؤتمر مدريد، وحوارات شبردزتاون بين رئيس الأركان السوري الأسبق حكمت الشهابي مع الجنرال أمنون ليفكين شاحاك وإيهود باراك، ومحادثات هذا الأخير مع فاروق الشرع في واشنطن، ولقاء جنيف بين حافظ الأسد ـ بيل كلينتون، مطالع التسعينيات؛ وصولاً إلى حوارات ماهر الأسد السرّية، مع مسؤولين إسرائيليين، بينهم إيتان بن تسور، في العاصمة الأردنية عمّان، 2003؛ والمصافحة الفاتيكانية "التاريخية"، بين بشار الأسد والرئيس الإسرائيلي موشيه كتساف، 2005…
ثمة، إلى هذا، "تراث" خاصّ ـ لفظي بدوره، طبعاً، ولكنه أشدّ سوريالية وأعلى افتضاحاً ـ يغطي حكاية الغارات، وطبائع ردود أفعال النظام السوري على وقوعها؛ إذا جاز، بالطبع، الحديث هنا عن "ردود" أو "أفعال" بأيّ معنى، في السياقات الفعلية لوقائع الإغارة. وذات يوم، صيف 2006، خرج أحد جهابذة إعلام النظام بهذا التعليق على تحليق أربع مقاتلات إسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية: لم يتجاسر الصهاينة على اختراق أجواء دمشق الحصينة، ففرّوا إلى الساحل! والحال أنّ العبقري ذاك تناسى، أو لعلّه بالفعل كان يجهل تماماً، أنّ الصهاينة هؤلاء ذهبوا إلى اللاذقية ليس خشية من المقاتلات السورية في أجواء دمشق، بل ببساطة لأنّ الأسد كان ساعتئذ في قصر اللاذقية وليس في قصر دمشق. ومن جانب آخر، يصحّ القول إنّ الصهاينة لم يخترقوا أجواء البلد (اللاذقية أو دمشق… ما الفرق، بمعنى السيادة الوطنية؟) فحسب؛ بل اخترقوا أمن الرئاسة حين علموا أنه في ساعة محددة، سوف يكون الأسد في اللاذقية وليس في دمشق!
ولهذا فإنّ تحليق القاذفات الإسرائيلية فوق القصر الرئاسي في اللاذقية، حين كان الأسد مقيماً فيه تحديداً، أي في برهة منتقاة بعناية من حيث طبيعة الرسالة المشفّرة طيّ هدير الطائرات؛ لم يكن تصعيداً مع النظام السوري على أيّ وجه: لا في المستوى العسكري، ولا في السياسي، ولا حتى في مستوى المساس بالقواعد التي وضعها شارون حين قصفت الدولة العبرية موقع "عين الصاحب"، شمال غرب العاصمة السورية، بتاريخ 5/10/2003. لكنه تذكرة صاخبة بعض الشيء، لكي لا نقول إنها تنبيه غليظ، حول عواقب أيّ سلوك عاقّ إزاء خدمات أسدتها إسرائيل إلى النظام مؤخراً، بل طيلة حقبة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، من جانب أوّل. والتحليق، من جانب ثانٍ، كان إنذاراً بأنّ الخروج الجدّي عن "قواعد اللعبة" سوف يقلب رقعة الشطرنج رأساً على عقب!
ولسوف يتواصل "التراث" إياه: في خريف 2007 عبرت قاذفات إسرائيلية الأجواء السورية من جهة الساحل السوري، بعد أن اخترقت جدار الصوت على هواها، لتبلغ أهدافاً حيوية في العمق السوري (مساحات واسعة من المنطقة الشرقية ـ الشمالية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي، مروراً بمطارَين عسكريين في الأقلّ)، وعادت أدراجها سالمة مطمئنة. السلطات الإسرائيلية التزمت الصمت المطبق، وأوّل الخيط أتى من تصريح رسمي للنظام ـ على غير العادة، ولكن ليس دون التزام بالحاشية التقليدية حول حقّ الردّ في الزمان المناسب! ـ يعلن وقوع الغارة، ولكنه لا يحدّد أين وقعت، وماذا استهدفت، وكيف انتهت. باب التكهنات فُتح على مصراعيه، وتكاثرت الروايات وتضاربت، واتّسع الخيال وتوسعت الأقوال… حتى اتضح أنّ الغارة الإسرائيلية استهدفت مشروع مفاعل نووي كان النظام يشيّده، بتعاون مع إيران وكوريا الشمالية.
كذلك سوف تتكشف حقائق دراماتيكية، سردها الإسرائيليان ميخائيل بار زوهار ونسيم مشعال في كتابهما "الموساد ـ العمليات الكبرى"؛ بينها التالية، على سبيل الأمثلة فقط: أوّل الخيوط قدّمهاالجنرال علي رضا عسكري، النائب السابق لوزير الدفاع الإيراني وأحد كبار ضباط "الحرس الثوري"، بعد انشقاقه؛ وأهمّ المعلومات وفّرها أحد كبار ضباط الأسد، الذي كان ينزل في فندق لندني فخم، وتمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من زرع "حصان طروادة" في كومبيوتره الشخصي؛ وأدقّ التفاصيل تعاونت على تأمينها أقمار تجسس أمريكية وإسرائيلية، بعد أن نجحت وحدة كوماندوز إسرائيلية في الهبوط على أرض "الكبر"، وأخذ عينات من التربة؛ وأمّا ضوء العملية الأخضر النهائي، بعد قرار إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، فقد صدر عن البيت الأبيض، ونقله ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في حينه.
أخيراً، ولأنّ "التراث" يطول ويتشعب، ثمة بعض المغزى الخاص في التوقف عند الغارة الإسرائيلية التي وقعت مطلع العام الماضي، لأنها استهدفت قافلة عسكرية كانت تنقل شحنات من صواريخ SA-17 روسية الصنع، في طريقها إلى مخازن "حزب الله"، في لبنان. ذلك لأنها كانت تذكرة، عنيفة وقصوى، بأوّل "المحرّمات" التي فرضتها إسرائيل على النظام، في الشطر التسليحي من علاقاته مع "حزب الله"، أي عدم السماح بمرور أسلحة صاروخية يمكن أن تغيّر قواعد اللعبة، دون سواها. كما أنها، من جانب ثانٍ، تعيد طرح السؤال، القديم المتجدد: ما قول النظام "الممانع"، في طائراته الحربية التي تقصف السوريين، ثمّ تولّي الأدبار في وجه طيران العدو الإسرائيلي، الذي يعربد على مبعدة كيلومترات قليلة؟ وثالثاً: ما قول قيادة "حزب الله" في "انتهاك صارخ"، ضدّ "سوريا الأسد" حسب تعبير حسن نصر الله؟ وما قول علي أكبر ولايتي، صاحب الحكمة المأثورة، في أنّ "بشار الأسد خطّ أحمر"؟
ذاك، إذاً، "تراث" الإغارة بالقاذفات، وللمرء أن يضرب صفحاً عن عمليات عسكرية أخرى تُنفّذ من عرض البحر (اغتيال العميد محمد سليمان)، أو تُنزل المظليين داخل العمق السوري (الإنزال الأمريكي في منطقة البوكمال)، أو تستخدم وحدات الكوماندوز والعملاء المحليين (اغتيال عماد مغنية، في قلب دمشق)… وذاك، استطراداً، تراث يشير إلى أنّ أوباما لا ينذر نظام الأسد، بقدر ما يهديه إلى سواء السبيل، والحفاظ على قواعد اللعبة.
 
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس