الرئيسة \  تقارير  \  الزحف المتهور على بغداد : الدروس الصحيحة والخاطئة من حرب العراق (2-2)

الزحف المتهور على بغداد : الدروس الصحيحة والخاطئة من حرب العراق (2-2)

23.03.2023
هال براندز

الزحف المتهور على بغداد : الدروس الصحيحة والخاطئة من حرب العراق (2-2)
هال براندز – (فورين أفيرز) 28/2/2023
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الأربعاء 22/3/2023
بطبيعة الحال، كان التحدي الذي شكله العراق أقل حدة مما اعتقده بوش، لأن صدام كان قد جرد نفسه بهدوء من مخزونات الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في منتصف التسعينيات.
ومع ذلك، فإن النقد القائم على مقولة، “بوش كذَب، الناس ماتوا”، يخفق تمامًا في توصيف الواقع: كما يوضح ليفلر، كان كل صانع سياسة أميركي كبير يعتقد بصدق أن برامج أسلحة صدام كان أكثر تقدمًا مما كان عليه حقًا لأن هذا التقدير كان إجماع مجتمع الاستخبارات. (علاوة على ذلك، لم تكن المخزونات غير موجودة تمامًا، على الرغم من أنها كانت أصغر وأقل قوة بكثير مما كان يعتقده مجتمع الاستخبارات.
وقد اكتشفت القوات الأميركية في العراق في النهاية ما يقرب من 5.000 رأس حربي وقذيفة وقنبلة كيميائية، وجميعها صنعت قبل العام 1991).
وكما استنتج تحقيقان رسميان، فقد كانت المعلومات الاستخبارية معيبة بسبب التحليل السيئ -وجهود صدام لردع أعدائه من خلال التظاهر بحيازة أسلحة لا يملكها حقًا- أكثر من كونها كذلك بسبب التسييس المتعمد.
كان بوش ومساعدوه مفرطين في التحمس لتقديم الأدلة المتاحة، لكنهم لم يكونوا يكذبون.
ولا هم كانوا في حاجة إلى ذلك. إن ما يُنسى غالبًا الآن هو مدى شعبية انتهاج سياسة أكثر حزمًا تجاه العراق. خلال رئاسة بيل كلينتون، أُقر “قانون تحرير العراق”، الذي جعل من سياسة الولايات المتحدة لـ”دعم جهود إزاحة النظام برئاسة صدام حسين”، في الكونغرس في العام 1998 بتأييد ساحق.
وفي العام 2002، حصل التفويض بشن الحرب على 77 صوتًا في مجلس الشيوخ و296 صوتًا في مجلس النواب. وأعلن السيناتور جو بايدن في ذلك الوقت: “ليس لدينا خيار سوى القضاء على التهديد. هذا رجل يمثل خطرًا كبيرًا على العالم”.
لم تقم بفرض حرب العراق على البلاد جماعات أيديولوجية أو متعصبون متحمسون للصراع. كانت تلك حربًا اختارتها الولايات المتحدة في جو من الخوف الشديد والمعلومات الناقصة –وواحدة كان من الممكن أن تسفر، على الرغم من كل أهوالها، عن نتيجة رابحة بعد كل شيء.

أميركا تغادر
لاحظ رجل الدولة الفرنسي جورج كليمنصو أن الحرب هي سلسلة من الكوارث التي تنتهي إلى انتصار. وفي الواقع، إذا كان غزو العراق خطأً، فإن هذا لا يعني خسارة الحرب من تلك اللحظة فصاعدًا.
تنتهي رواية ليفلر بتعامل أميركا الفاشل مع الاحتلال الأولي. ولكن بعد ثلاث سنوات من الكارثة، في أواخر العام 2006، تمكنت إدارة بوش أخيرًا من السيطرة على الفوضى التي اجتاحت العراق، وصياغة استراتيجية جديدة لمكافحة التمرد، ودعمها بنشر ما يقرب من 30 ألف جندي كانت الحاجة تمس إلى وجودهم.
كما يوضح العمل التجريبي المفصل للباحثين ستيفن بيدل Stephen Biddle، وجيفري فريدمان Jeffrey Friedman، وجاكوب شابيرو Jacob Shapiro، فقد وفرت هذه “الزيادة” في عديد القوات الأمن في المناطق الرئيسية، وعززت انتفاضة القبائل السنية ضد الجهاديين الذين اجتاحوا مجتمعاتهم.
وقد تراجع العنف؛ وكان تنظيم “القاعدة في العراق” على وشك الهزيمة. وتم إحراز تقدم سياسي مع ظهور تحالفات انتخابية عابرة للطوائف.
ولو بقيت الأحداث ماضية على هذا المسار، لربما كانت ستسفر عن عراق يكون شريكًا أميركيًا مستقرًا وديمقراطيًا وموثوقًا نسبيًا في الحرب الأوسع على الإرهاب؛ عندئذٍ، ربما كان الأميركيون سينظرون الآن إلى الصراع على أنه نصر مكلف أكثر من كونه هزيمة مكلفة.
مع ذلك، كان الحفاظ على هذا المسار سيتطلب استمرار الوجود الأميركي في العراق.
لكن خليفة بوش جعل شُغله معارضة الحرب، وكان قد جادل منذ فترة طويلة بأن الصراع قد خُسر، وخاض حملته على وعد بإنهائه، جزئيًا حتى تتمكن إدارته من التركيز على “الحرب الضرورية” في أفغانستان. وبمجرد توليه المنصب، لم يسحب أوباما القوات الأميركية على الفور من العراق
. ولكن، بعد فشل جهد متقطع للتفاوض على اتفاقية يكون من شأنها الإبقاء على قوة استقرار متواضعة هناك إلى ما بعد العام 2011، انسحب الأفراد الأميركيون في كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام. وحتى قبل ذلك، كانت إدارة أوباما قد تراجعت عن الإدارة المكثفة والعملية للمشهد السياسي العراقي المعقد.
كانت التعقيدات الدبلوماسية والقانونية لذلك الفصل من القصة كبيرة، لكن الدراسات التي أجراها الصحفيون والباحثون والمشاركون تظهر أنه ربما كان يمكن لأوباما أن يحافظ على وجود أميركي أطول أمدًا في العراق لو أنه أراد ذلك.
وكانت للانسحاب عواقب وخيمة. فقد أزال الانسحاب حواجز امتصاص الصدمات بين الفصائل السياسية العراقية، وترك رئيس الوزراء نوري المالكي حراً في الانغماس في أكثر غرائزه طائفية.
كما ساعد تنظيم القاعدة المهزوم تقريبًا في العراق على معاودة الظهور مجددًا باسم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضًا باسم “داعش”) بينما حرم واشنطن من البصمة الاستخباراتية التي كان من الممكن أن توفر تحذيرًا مبكرًا أكبر من التهديد.
وساهم الانسحاب في نهاية المطاف في انهيار كارثي للأمن العراقي وهيجان إرهابي في ثلث مساحة البلاد، مما أدى إلى تدخل عسكري أميركي آخر وتسبب في العديد من العواقب الوخيمة نفسها -الإلهاء عن الأولويات الأخرى، وزيادة تنشيط الحركة الجهادية العالمية، وخلق نفوذ إيراني متزايد في العراق، وشكوك عالمية حول كفاءة واشنطن وسلامة حكمها –وهي الأمور التي قال أوباما، مُحقًا، أن حرب بوش تسببت بها.
ومع تقدم “داعش” إلى مسافة ساعة بالسيارة من بغداد في العام 2014، اندلع جدل غاضب آخر حول ما إذا كان الانسحاب الأميركي هو السبب. من المستحيل أن نعرف على وجه اليقين؛ وحتى التخمين المستنير سيعتمد على حجم وتركيب القوة التي يفترض المرء أن الولايات المتحدة كانت ستتركها وراءها.
ومع ذلك، يبدو من المرجح أن قوة قوامها 10.000 إلى 20.000 جندي (وهو العدد الذي اعتبره المسؤولون الأميركيون والعراقيون معقولًا عند بدء المفاوضات)، إلى جانب مشاركة سياسية أكبر لتهدئة التوترات الطائفية بعد الانتخابات العراقية المتنازع عليها في العام 2010، كانت ستنتج العديد من الآثار البناءة.
كان ذلك سيعزز القدرات العراقية، ويعزز الثقة بالنفس لدى القوات العراقية، ويخفف من تسييس جهاز مكافحة الإرهاب النخبوي في البلاد، ويوفر مزيجًا من الطمأنينة والنفوذ في التعامل مع المالكي صعب المراس. وإذا لم يكن ثمة شيء آخر، فإن وجوداً أميركيًا بهذا الحجم كان سيمنح واشنطن القدرة والمعرفة المسبقة اللازمة لتنفيذ ضربات في سياق مكافحة الإرهاب قبل أن يكتسب “داعش” زخمًا حاسمًا.
إن ما هو صحيح بلا شك هو أنه بالانسحاب من العراق عسكريًا ودبلوماسيًا، فقدت الولايات المتحدة قدرتها على الحفاظ على الاتجاهات الهشة –وإنما المفعمة بالأمل- التي ظهرت هناك.
وتسبب الاقتناع بأن العراق كان حربًا غبية؛ حربًا خاسرة، في حرمان الولايات المتحدة من فرصة الفوز بها.

ظل العراق الطويل
ما هي الدروس التي يجب على الولايات المتحدة أن تستخلصها من قصة العراق الملحمية؟ قدم أوباما الإجابة الأكثر وضوحًا: “لا تفعل أشياء غبية”. يجب على واشنطن أن تتجنب حروب تغيير النظام والاحتلال، وأن تحد من التدخل العسكري في الشرق الأوسط، وأن تقبل بضرورة إدارة المشاكل الصعبة بدلاً من حلها.
هذه هي الرسالة نفسها التي تم نقلها، بشكل أقل حسمًا، في استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن، التي صدرت في تشرين الأول (أكتوبر) 2022.
للوهلة الأولى، من يستطيع أن يجادل؟ تُظهر حرب العراق الصعوبات المرتبطة بإسقاط الأنظمة المعادية وزرع البدائل الديمقراطية. غالبًا ما تكون تعقيدات مثل هذه المهام أكبر، والسعر أعلى مما يبدوان في البداية.
في الواقع، قد يُظهر قوس التدخل الأميركي في العراق -غزو البلاد، ثم تخفيض الاستثمار في استقراره، ثم الانسحاب قبل الأوان بعد تحول الأمور- أن هذه المهام تتطلب مزيجًا من الصبر والالتزام الذي تعاني وتكافح حتى قوة عظمى من أجل حشده.
لكن المشكلة هي أن نفس المبدأ لو تم تطبيقه في حِقب سابقة لكان قد حال دون تحقيق بعض أعظم نجاحات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مثل تحول اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى نفس المنوال، ساعد برنامج طويل الأمد لبناء الأمة، تدعمه القوات الأميركية، في تحقيق معجزة كوريا الجنوبية؛ كما حققت تدخلات ما بعد الحرب الباردة في بنما والبلقان من النجاح أكثر بكثير مما فشلت في تحقيقه.
إن الحملات العسكرية الطموحة لا تنتهي دائمًا بالحزن. لقد جاء البعض منها بنتائج عكسية؛ لكن البعض الآخر ساعد في إنتاج عالم ديمقراطي نابض بالحياة بشكل ملحوظ نعيش فيه اليوم.
تنطوي عقلية “لا مزيد من العراق” على مخاطر أخرى أيضًا. في عالم مثالي، ستحب واشنطن بالتأكيد التخلي عن شرق أوسط غير مستقر.
لكنها لا تستطيع، مع ذلك، لأنها ما تزال لديها مصالح مهمة هناك، من مكافحة الإرهاب إلى ضمان الأداء السلس لسوق الطاقة العالمي.
وقد تساعد المقاومة العنيدة للحروب في الشرق الأوسط في تجنب الوقوع في مستنقعات مستقبلية. أو كما اكتشف أوباما، قد يؤدي ذلك إلى حلقات تتصاعد فيها الاضطرابات العنيفة وتهدد المصالح الأميركية، بحيث تتدخل واشنطن لاحقًا من موقف أسوأ وبثمن أعلى.
الحقيقة هي أن الغباء يأتي في العديد من النكهات. ويتضمن ذلك التدخلات غير الحكيمة والانسحابات المتسرعة، والافتقار إلى الحزم أو ممارسة الكثير منه.
وإذا كانت حرب العراق تعلِّم شيئًا، فهو أن استراتيجية الولايات المتحدة غالبًا ما تكون بمثابة توازن بين قلة الوصول والإفراط في الوصول، وأنها لا توجد صيغة واحدة يمكن أن تسمح للولايات المتحدة بتجنب خطر من دون الاقتراب من آخر.
تعلِّم الحرب أيضًا أهمية التعلُّم والتكيف بعد الأخطاء الأولية. وليس هذا الأمر غريباً في تجربة الولايات المتحدة: الطريقة الأميركية الحقيقية للحرب هي أن تبدأ ببطء وترتكب الكثير من الأخطاء القاتلة.
وعندما تتحول الكوارث إلى انتصارات، كما كان الحال في الحرب الأهلية الأميركية، وكلا الحربين العالميتين، والعديد من النزاعات الأخرى، فذلك لأن واشنطن تتقن في نهاية المطاف سلوك منحنى تعلُّمي أكثر حدة من الخصم بينما تستغل قوتها الهائلة تدريجياً.
ولعل الشيء الجميل في كونك قوة عظمى هو أنه حتى أكثر الأخطاء فداحة ومأساوية وأضرارًا نادراً ما تكون قاتلة. وبذلك، فإن الكيفية التي يتعافى بها المرء من الأخطاء التي تحدث لا محالة في الحرب هي أمر مهم للغاية.
لكن تعلم أي دروس من العراق يتطلب أخذ التاريخ الفوضوي لتلك الحرب على محمل الجد. كانت الاتهامات بأن المحافظين الجدد، أو “فقاعة” السياسة الخارجية، أو اللوبي الإسرائيلي هم المسؤولون عن المغامرات الأميركية أصداءً للاتهامات التي وُجهت إلى واشنطن في الحرب العالمية الأولى بأن المصرفيين والتجار والبريطانيين هم الذين قادوها إلى هناك.
وقد تكون هذه الحجج ملائمة أيديولوجياً، لكنها لا تكشف الكثير عن سبب تصرف الولايات المتحدة كما تفعل -وكيف يضل صانعو السياسة الأذكياء وحسنو النية أحيانًا إلى هذا الحد.
ولا يقدم التأريخ الجيد أي ضمان بأن الولايات المتحدة ستقدم على المجموعة التالية من قرارات الأمن القومي بالطريقة الصحيحة. لكن التأريخ السيئ يزيد بالتأكيد من احتمالات فهمها بشكل خاطئ.
*هال براندز Hal Brands: باحث أميركي في العلاقات الدولية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وأستاذ هنري أ. كيسنجر البارز للشؤون العالمية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، وزميل أول وباحث مقيم في معهد أميركان إنتربرايز. عمل مستشارًا مدنيًا في وزارة الدفاع الأميركية من العام 2015 إلى العام 2016.
وهو مؤلف مشارك لكتاب “منطقة الخطر: الصراع القادم مع الصين” The Danger Zone: The Coming Conflict With China.