الرئيسة \  في وداع الراحلين  \  الأخ الداعية أنس أحمد كرزون... "في رثاء تجربة"

الأخ الداعية أنس أحمد كرزون... "في رثاء تجربة"

29.01.2023
زهير سالم

في وداع الراحلين
الأخ الداعية أنس أحمد كرزون...
"في رثاء تجربة"
زهير سالم*
 
وكان وقع نبأ وفاة الاخ الداعية أنس كرزون عليّ بالأمس فاجعا...

لم أعرف الداعية "أنس كرزون" بعد خروجنا من حلب، وأثار شجني فيه ما قرأته فيما كتب مؤبّنوه، وما ذكروا فيه من خلق ودين وعلم وجميل عطاء.
اللهم اغفر له وارحمه وزده إحسانا وعفوا وغفرانا..
وإنما الذي أثار شجني، وزادني هما على همي من نبأ وداعه؛ انني قرأت في خبر نعيه أن السمط الذي خرجنا به ومعه من بلدنا في مطلع الثمانينات؛ لم يبق من فرائده وجواهره الا القليل..
وعهدي بأنس رحمه الله تعالى فتى يافعا، إذ أنا مدرس شاب، يدخل غرفة الإدارة "في ثانوية بني أميه العلمية" على استحياء، ويقترب من طاولة أبيه، أخينا التربوي القدير صاحب المدرسة ومديرها الحقيقي، فيتكلم معه بشأن خاص بصوت خفيض ثم يخرج. تلك كانت كل معرفتي بالراحل الحبيب، الذي قرأت في نعيه بالأمس نعيا، لتاريخ ومرحلة من تاريخ سورية الحديث.
تحدث الكثيرون أن "أنسا آنسه الله" في حفرته وجعلها عليه سعيدة حقا، خرج من حلب، من كلية الهندسة، شابا او فتى مع أبيه، ليصير إلى مكة، حيث استأنف حياة جديدة في بيئة جديدة، وعلم جديد.
وكانت ذاكرتي مشدودة، في خبر النعي، إلى ثانوية بني أمية العلمية، المحضن التربوي الجامع الذي كنت أقول فيه: وإذا أغلقت عليّ وعلى طلابي باب الصف، كنتُ الملكَ المتوج فيه بلا منازع، وأنا الذي أثبت وأنفي، وليس "كامل ناصيف ولا عمر الدقاق" الذين تولوا في تلك المرحلة تأليف كتب العربية، فأهمهم أمر الفيتوري، أكثر مما أهمهم أمر عمر ابو ريشة أو عمر بهاء الدين الأميري..!! تلك كانت معارك عشناها، وانتصرنا بها لأننا خضناها على بصيرة، وليس خبطَ عشواء.
تلقيت نعي أنس، رحم الله أنسا ورحم الله أباه من قبله ورحم الله من مضى من جيل كان في قلعة "ثانوية بني أمية العلمية" من أساتذة ومربين وطلاب. في غرفة المدرسين في تلك المدرسة كنا نلتقي والشيخَ عبد الله علوان، ومدرس الرياضيات القدير عبد القادر الخطيب، والشيخ فلان والسابق فلان، فتكون الهنيهات التي نقتنصها في حضرة أولئك من أجمل دروس الحياة.
وفي تلك القلعة المدرسة قمنا وأذكر لا للفخر، ولكن للأسوة، بإعادة نخل الكتب المدرسية في مادة الأدب العربي، عنوانا عنوانا، وفكرة فكرة، وشاهدا شاهدا، فبينا في ملحق غزير، وجه الحق في الأسماء والمصطلحات والعناوين والقصائد والشواهد… ووزعنا كل ذلك على من يلوذ بنا من مدرس وتلميذ..!!
وتلقيت بالأمس نعي كل ذلك في نعي الراحل الحبيب بن الحبيب انس أحمد كرزون..
لا أعلم لماذا لم يتوقف الناعون، بالأمس عند صرح ثانوية "بني أمية العلمية" وصرح ثانوية الغزالي، والراحل أحمد كنعان، وصرح المعهد العربي الاسلامي، لماذا لم يذكروا صرح التعليم الليلي، الذي أعان كثيرا من العمال السوريين من غير أبناء "الذوات" و"علية القوم" الذين كانوا يشتغلون في المصانع في النهار، ويواظبون على معاهد التعليم الليلي فأصبحوا اساتذة وعلماء!!
لا أدري لماذا لا يفخر الناس بمثل هؤلاء وهم أولى بالفخر؟؟!!
يدور رأسي وأنا استقبل نعي الفتى الشاب الخجول يدلف الى غرفة المدرسين، ويهمس بكلمات في أذن أبيه، وينقلب كياني وأنا أودعه في هذا المقام بمثل هذه الكلمات..
لماذا عاش الفتى ومات بعيدا عن محضنه..؟؟
لماذا كتب علينا ان نكون الجيل من أهل الشام يسقي زرع غيره؟؟ وسقيا زرع الغير كما تعلمون من أقبح القبيح.
يقولون بل يزعمون أن حافظ الاسد عندما كنا في بلدنا كان يوجه لنا اللكمات..!! وي وما أسخفه من زعم، وما أسخفها من ذريعة، وهل كان المنتظر منه أن يوزع علينا الأعطيات كما على رموز الجبهة الوطنية التقدمية، ولو قبلنا لأضعف لمن يقبل العطاء!!
وأعيد صياغة ما زعموا، وأنا منذ أربعين سنة أقول:
نعم عندما كنا على الحلبة، حلبة الصراع، كنا نتلقى اللكمات والركلات، ولكننا كنا نوجهها أيضا.. وحين قفزوا بنا هربا إلى الأمام باتوا لا يحسنون ولا نحسن إلا السباب.
أريده درسا لجيل!!
وأنظر في وجوه بعض الذين قدموا للسوريين هذا الفقه، فقه الهرب إلى الأمام، والهرب كله هزيمة، وأعيد عليهم السؤال ومنذ نصف قرن أيضا، نحن لم نؤمن بطريقتكم ففررنا، أما انتم فماذا تصنعون مع الجبناء أمثالنا من الفرارين؟؟
ما هو حكم مقامكم بيننا وقد سبقكم إلى ما زعتم أنه الحق كبار أهل طريقتكم ومددكم؟؟
لقد أرهقنا منذ نصف قرن فقه المدعين، الذين أفتوا على مدى ثلاثة قرون بحرمة القهوة، وقالوا شاربها كافر حلال الدم. وكأن التكفير والتحريم في أيديهم مثل ساطور الجزار…
وداعك يا أنس يا ابن أبي أنس، يا ابن مدير وراعي ثانوية بني أمية العلمية قد هيج الأشجان..
اللهم اغفر له وارحمه واعل مقامه، وأحسن عزاء أسرته وأهله ومحبيه..
كان من المبكر ان نقول وداعا أيها الراحل الحبيب
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لندن: ٦ / رجب/ ١٤٤٤
٢٨/ ١/ ٢٠٢٣
____________
*مدير مركز الشرق العربي