الرئيسة \  مشاركات  \  أمنُ الثورة .. الأمن والقرآن الكريم (5) (تأصيل شرعيّ)

أمنُ الثورة .. الأمن والقرآن الكريم (5) (تأصيل شرعيّ)

26.11.2022
الدكتور محمد بسام يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم
أمنُ الثورة
الأمن والقرآن الكريم (5)
(تأصيل شرعيّ)


بقلم: الدكتور محمد بسام يوسف

نتابع استنباط "المفاهيم الأمنية" الواردة في بعض النصوص القرآنية الكريمة، لنؤكّد على أنّ "للعمل الأمنيّ" أصلاً شرعياً قوياً ينبغي أن تأخذ الحركة الإسلامية والثورة به، وتعمل على تنفيذ روحه وتعاليمه، ثم تطوّر هذا الجانب المهم من جوانب العمل الإسلامي، فضلاً عن تربية أبناء الحركة الإسلامية، على المفاهيم الأساسية للعمل الأمنيّ الإسلاميّ، الذي أصبح ركناً أساسياً من أركان البناء الحركيّ التنظيميّ لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه في أي حالٍ من الأحوال.

إبراهيمُ عليه السلام: دهاءُ فردٍ مؤمنٍ يغلبُ أمّةً كافرة
الغلبة ليست بالكثرة، والحق لا يُقاس بالعدد المجرّد، إنما يُقاس بقيمة مَن يرتقي إلى مستوى العقيدة والفكرة الربانية، وبدرجة رُقيّ الأساليب المتّبعة لنصرة الفكرة وتحقيق أهدافها السامية.. وهذا ما نلمسه جليّاً في قصة النبي إبراهيم عليه الصلاة السلام.
فقد أراد عليه الصلاة والسلام، أن يهديَ قومه للتحوّل عن عبادة الأصنام، إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي لا شريك له، ولم يستطع إقناعهم بالحوار المنطقيّ، فوضع لنفسه خطةً قام بتنفيذها وحده بأسلوبٍ أمنيٍّ بارع، لِيُقيم الحجّة على قومه: (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (الأنبياء:56). فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟..
لقد قرّر أمراً في نفسه!.. وأراد أن يُكايد القومَ في أصنامهم، وكانوا يخرجون جميعاً في يوم عيدٍ بعيداً عن تلك الأصنام، ونوى إبراهيم عليه السلام التخلّف عن الخروج مع قومه إلى ذلك العيد، لأنه دبّر أمراً في نفسه!.. فتظاهر بالمرض: (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ  فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) (الصافات:89 و90)،  فتركوه وحيداً وذهبوا، وتلك كانت الخطوة الأولى في الخطة.. الخطة التي أخفاها في نفسه: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) (الأنبياء:57)!..
نعم، لقد احتفظ بالسرّ في نفسه ولم يبح به لأحدٍ من العالمين، ثم تحوّل إلى أصنامهم، وعمل فيها تحطيماً وتكسيراً إلا كبيرهم!.. الذي أبقاه سليماً لتكتمل أركان الخطة:
(فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (الأنبياء:58).. وهكذا، فقد اختار عليه السلام الوقت المناسب بدقّة، واتّخذ لنفسه الغطاء المناسب الذي يُبرّر تخلّفه عن قومه بتظاهره بالسقم، ثم نفّذ ما يريد بذكاءٍ ودهاء، وترك كبير الأصنام سليماً، وهذا ما أظهره القرآن الكريم بوضوحٍ، حيث بيّن السبب الحقيقي لتصرّفه ذلك : (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ  قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء:62 و63).. فأُسقِط في أيدي القوم أمام هذه الهزّة العنيفة، التي كانت ثمرةً لعملٍ نُفِّذَ بأسلوبٍ أمنيٍّ كامل!.. وهيهات.. هيهات، أن ينطقَ الحجر!..
ثم يتدخل عليه السلام، لاستثمار تلك الصدمة التي واجه بها عقولَ القوم: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ  أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟.. (الأنبياء:66 و67).
بهذا تعاضد الدهاء الأمني وحُنكة التعامل مع العقل البشري، لتحقيق الهدف، وهو إقناع القوم بالحجّة والبرهان، بأنّ ما يعبدون من دون الله أضعف من أن يكونوا آلهةً لهم، وأنّ مَن خَلقهم وخَلق هذه الآلهة المزعومة، هو الله عزّ وجلّ، فهو وحده الذي يستحق العبادة!.. فهي دعوة للإيمان بالله وحده لا شريك له!..
هل كان يمكن لإبراهيم عليه السلام أن يفعل ما فعل، من غير خطة حمايةٍ كاملةٍ لنفسه، وهو الرجل الوحيد الذي يواجه أمّةً كافرة؟!.. وعندما واجه قومه وكُشِف سرّه ماذا كانت النتيجة؟!..
(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الأنبياء:68).
ولما همّوا لإحراقه، تدخّلت القدرة الإلهية لحمايته ونَصره على الظالمين الجبّارين الكافرين: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ  وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:69 و70).
لقد اتّخذ إبراهيم عليه السلام كل الأسباب لنصر دينه ودعوته، وعندما خرج الأمر عن حدود قدرته البشرية المحدودة، تدخّلت القدرة الإلهية العظيمة، والهدف واحد في الحالتين: الحماية، وتحقيق الأمن الكامل للدعوة وأبنائها!.. فلنتأمّل!.. ولنتدبّر!..
- يتبع إن شاء الله.