الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فنانو الثورة: فارس الحلو مثالاً (1)

فنانو الثورة: فارس الحلو مثالاً (1)

21.07.2014
د. وائل مرزا



المدينة
الاحد 20/7/2014
فنانو الثورة: فارس الحلو مثالاً (1)يقولون في العربية (فالضِّدُ يُظهِرُ حُسنهُ الضدّ).
من هنا، فيما أعتقد، تَذكرتُ هذا الفنان السوري الثائر منذ بضعة أيام. قَفزَت صورة فارس وأفكاره ومواقفه إلى ذهني فجأةً وأنا أُمعنُ النظر في الوجوه الكئيبة لـ(فنانين) سوريين (صَفَّهُم) بحرص بشار الأسد في الصفوف الأولى من الحشد الذي شهد خطبته لإلقاء القسم الأسبوع الماضي.
لا يُمثل الحديث عن فارس شخصَهُ فقط، بل إنه مثالٌ على شريحةٍ من الفنانين السوريين الذين أظهرت الثورة السورية معدنهم الأصيل. ومن الواضح أن الأمر كان بحاجةٍ لظاهرةٍ بحجم الثورة حتى تظهر عملية التمايز في ميدانٍ كالفن، بكل أنواعه وفروعه.
ففي سوريا تحديدًا، كانت التصريحات الإعلامية والموادُ التي يتم إنتاجها وبعض النشاطات والفعاليات ومضمون الأداء ومستواه للفنانين السوريين خلال العقدين الماضيين توحي بامتلاكهم لجُرعةٍ من الثقافة أكبرَ من غيرهم.. أكثرَ من هذا، ظهرَ ثمة انطباعٌ بأن الفنان السوري يحاول أن يكون (ضمير) الشعب الذي يملك قدرةً أكثرَ من غيره للتعبير عن طموحاته وأشواقه وآماله وآلامه، وإن بشكلٍ مُواربٍ ورمزيٍ وغير مباشر، بحكم موقع الفنان وأدواته وصوته الذي يُوصِلُ للفضاء العام ما لا يمكن للمواطن العادي إيصاله.
ثم جاءت الثورة لتُظهر الحقائق بشكلٍ صريحٍ. وليس تبسيطًا القولُ بأنها (فَرزت) بوضوح بين مَن كان الفن لديه في نهاية المطاف (بابًا للرزق والشهرة) لا أكثر ولا أقل، وبين مَن لم يتردد في الارتقاء إلى تمثل قناعته، بأنه فعلًا ضمير الشعب، إلى أعلى الدرجات وفي أصعب الظروف.
لا مجال هنا للتلاعب بالحقائق، وتبرير موقف بعض الفنانين بأوضاع الثورة بعد (عسكَرتها)، ذلك أن العسكرة المذكورة بدأت بعد سنةٍ من اشتعال الثورة، في حين أن التمايز في المواقف كان واضحًا منذ البدايات.
ففي حين وقفَ بعض الفنانين ضدها وبوضوح من اللحظة الأولى، وتهرَّبت شريحةٌ ثانية من أي ظهورٍ علني تُعبر فيه عن موقفها، واختارت شريحةٌ ثالثة الإدلاء بتصريحات حمَّالة للأوجه والتفسيرات واضعةً قدمًا هنا وأخرى هناك، لم يتردد فنانو الثورة عن التعبير من انتمائهم لها بالطريقة الأكثر صدقًا ومباشرةً وجمالًا: الانخراط في المظاهرات الشعبية.
ثمة لحظاتٌ فاصلةٌ، شعوريًا وفكريًا وعمليًا، في مثل هذه المواقف المفصلية. فبالنسبة للفنان، قد يبدو طبيعيًا، وربما مُبررًا، الخروج ببيان أو الإدلاء بتصريح أو إعلانُ تأييد الثورة وأهدافها نظريًا. أو حتى الانصرافُ إلى كتابة قصيدة أو رسم لوحة أو الخروج بأغنية تصب في موقف الانحياز للثورة.
لكن هؤلاء اختاروا الفعل البشري الأكثر قدرةً على التعبير عن وجدانهم في تلك اللحظة الفاصلة، وشعروا أن وجودهم الشخصي في الشارع مع السوريين، يهتفون هتافاتهم، ويرددون مطالبهم، ويعيشون معهم مشاعر الترقب من هراوات الأمن التي لم تتأخر في الوصول إلى أجسادهم، ومآلات الاعتقال والإهانة والتعذيب. شعروا أن هذا التجلي لقناعتهم بأنهم (ضمير الشعب) يفوقُ في جماله ومعانيه وتأثيره أي عملٍ فني آخر.
من يمكن له أن ينسى تلك المظاهرة التي خرجت في قلب دمشق وفيها مي سكاف ومحمد آل رشي وفارس الحلو وريم فليحان ويم مشهدي ونضال حسن وإياد شربجي وفادي الحسين وساشا أيوب وفادي زيدان وغيفارا نمر ومحمد وأحمد ملص وغيرهم ممن يفوتني ذكرهم، مطالبين بالحرية والكرامة وبدولة تعددية، وما تعرضوا له بعدها من اعتداء ثم سجن وتعذيب، وما تلا ذلك من تهديدٍ وملاحقات، انتهت بالبعض من فناني سوريا إلى الشهادة أو الاعتقال أو التشريد في بلاد الله الواسعة.
وبغض النظر عن (الشخصنة) في هذا المقام، إلا أنني أعتقد أن الكتابة عن قصة كل واحدٍ من هؤلاء أمرٌ مطلوب في عملية التأريخ للثورة السورية. ليس هذا (تمييزًا) لهم عن أهل الثورة من عامة السوريين الذين توجدُ لكل منهم أيضًا قصةٌ تستحق أن تُروى. وإنما لاستعادة معاني قدرة المرء وإرادته على أن يعيش مبادئه، ويدفع في سبيل ذلك الكثير، خاصة حين يكون في موقع التأثير بالرأي العام. فهذا الرأي يُصبح أقوى حين يرى من يُعتبرون شريحةٌ من (النخبة) ينحازون إليه وإلى خياراته في القضايا الكبرى مهما كان الثمن.
والأكثر وجوبًا هو أن يعود هؤلاء، ومعهم الكتاب والمثقفون السوريون الثوار لتجميع صفوفهم في مشروعات تستعيد دورهم الأساسي لاستعادة بوصلة الثورة وسط هذه الفوضى العارمة. ولن يعدموا وسيلةً لذلك إذا توفرت الإرادة.
قد يستغرب البعض من كتابتنا عن الفنانين في رمضان!
الحقيقة أن منابر الإعلام على اختلاف أنواعها تزخرُ بكمٍ هائلٍ من الكتابات التي يبحث عنها هؤلاء، وقد لا يكون فيما سنكتبه عن الشهر الكريم إضافةٌ لما يقرؤه هؤلاء. على العكس من ذلك، يشعر المرء أن هذه قد تكون فرصةً للتذكير بالمفارقات في شهرٍ أصبح الموسم السنوي للتنافس في عرض المسلسلات التلفزيونية، وفي مشاهدتها على حدٍ سواء.
وهناك كبيرُ احتمال أن من سينتقد الحديث عن الفنانين في رمضان سيعود بعد قليل إلى تقليب قنوات التلفزيون قاضيًا ساعات في مشاهدة تلك المسلسلات. وإن لم يفعل هذا بعضهم، فالأرجح أن أسرهم وأبناءهم منهمكون في هذه الممارسة، عرفَ بها أم لم يعرف.
وفي النهاية، رضي هؤلاء أم أنكروا، ثمة تأثيرٌ عميق للفن في حياة الناس لم يعد ينكره أحد. وثمة عملياتُ تسطيحٍ للعقول تُمارس على الغالبية العظمى من البشر، من خلال مضامين تافهة ونماذج مريضة وقدوات متقزمة ورسائل مُحرفة، تُغرس في عقول العرب، وتُغرسُ في قلوبهم وتكويناتهم غير الواعية من خلال الفن ومنتجاته. وثمة جرعةٌ كبيرةٌ من هذا يشربونها مع عصائر الإفطار في رمضان.
هل يكون التعامل مع مثل هذه الظواهر بالهرب من التفكير بالموضوع ابتداءً؟ أم يكون باستعادة الفن والفنان ليؤديا مهمتهما ودورهما كضميرٍ للناس؟
خيارُنا هو الثاني. ويبدأ بالحديث عن أمثلة هذا الضمير.
نعود لمثال فارسنا الحلو في الجزء القادم. فثمة إضاءات في مسيرته يستحق بعضها أن يُروى، لكن استطراد الأفكار لم يسمح بها في هذا المقام.