الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قيام الساعة.. من إدلب أم من دابق؟

قيام الساعة.. من إدلب أم من دابق؟

10.09.2018
وائل مرزا


المدينة
الاحد 9/9/2018
من الواضح أن عنوان المقال (استفزازي) ويأتي في إطار استجلاب انتباه القارئ الكريم للموضوع.. لكنه في نفس الوقت يهدف للتذكير بمسألةٍ استراتيجية تغيب عن الحسابات لدى الغالبية من صُنّاع القرار السياسي. أما في ثقافتنا الراهنة، فإنها لا تُوخذ بعين الاعتبار، ولا تخطر في البال لدى شرائح واسعة من أفراد الثقافة تلك.
أستميح القارئ عذراً في طرح تلك المسألة باللغة الإنجليزية بدايةً، لأنها تدخل في صلب التفكير الاستراتيجي السياسي والحضاري خارج إطار الثقافة العربية/ الإسلامية، مقابل الفقر المدقع في استصحابها داخل الثقافة المذكورة: Everything is connected in this world. بترجمةٍ غير حرفية: "كل مسائل الحياة البشرية/ الاجتماعية متداخلة، وتؤثر في بعضها بشكلٍ مُتبادَل وجذري"، وإن لم يظهر هذا التأثير خارجياً إلا لقلةٍ من الناس.
بنظرةٍ إلى مستوى التفكير الذي يتجاوز التفاصيل اليومية، ويحاول فهم أحداث العالم بدرجةٍ شمولية، لا يوجد ثمة فصلٌ حقيقي بين ظواهر الحياة الإنسانية، ومكونات الواقع البشري على هذه الأرض. ثمة أمثلةٌ شائعة تقول مثلاً: "إذا أصيب الصينيون بمرض الرشح فستعمُّ الإنفلونزا هذا العالم". المثال مجازيٌ بطبيعة الحال، لكنه يساعد على شرح الكلام النظري المجرد إلى واقعة يفهمها عموم الناس. هذا، لكيلا نعيد الحديث فيما هو معروفٌ من ترابط الاقتصادات العالمية بشكلٍ معقد، وشيوع الثقافات وأنماط الحياة المختلفة، وربما الأمريكية والغربية منها، وتغلغلها في ثقافات أخرى. دون إغفال حقيقة تأثير تلك الثقافات نفسِها في ثقافة أمريكا وأوروبا بالمقابل.
لماذا يفتقد الكثيرونُ القدرةَ على رؤية التداخل الجذري في الظواهر العالمية ومجريات الأحداث على هذه الأرض. الأسباب كثيرة، لكن أهمهما، أولاً، لأنها مُعقّدَة. ثانياً: لأنها تحتاج لأدوات ذهنية وفكرية وعلمية لا يمتلكها معظم الناس، وتحديداً في ثقافتنا العربية/ الإسلامية. ثالثًا: لأن العقل البشري يحاول، بشكلٍ فطري، الفصلَ بين تلك الظواهر بغرض فهم كلٍ منها، ليسهل عليه التعاملُ معها عملياً بعد ذلك.
وإذا كان هذا طبيعياً بالنسبة لغالبيةٍ طاغيةٍ من الناس، إلا أن النُّخب التي تصنع الواقع البشري، وهي أقليةٌ صغيرة، تُدرك التداخل المذكور بقوة، وتستخدمه بمهارة، بما يساعدها على تحقيق أهدافها. لهذا يَصنعُ هؤلاء حاضر العالم ومستقبله، بعيداً عن رأي ٩٩٪ من الناس..
نعم، هذا العالم يُصبح قريةً صغيرة بكل معنى الكلمة.. مهما بدا الكلام للبعض يدخل في إطار الحديث النمطي (الكليشيه). وإذا كانت هذه السيرورة الثقافية الاجتماعية تسري في مجالات الثقافة والاقتصاد والفن وغيرها، فسيفاجأ كثيرون بدرجة سريانها في عالم السياسة العالمية، وأكثرَ بكثير.
ما علاقة هذا بإدلب وقيام الساعة إذاً؟!
ماذا يعني مثلاً أن يشهد العالم، والقوى الرئيسة فيه تحديداً، استنفاراً سياسياً وأمنياً على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية من اجتماعات القمة إلى جلسةٍ لمجلس الأمن، مروراً باجتماعات ثنائية، واتصالات هاتفية مكثفة بين كبار قادة العالم ووزراء خارجيتها، وتصريحات كثيرة فيها رسائل لا نهاية لها، كلُّها حول إدلب؟ لسنا، والقارئ الكريم، من السذاجة بمكان بحيث نصدق ببراءة أن كل هذا الاهتمام يدخل في باب شعورٍ طارئ بالرحمة الإنسانية تجاه أهل تلك البلدة المُلقاة في شمال غرب سوريا. كمثالٍ فقط يصعبُ التفصيل فيه هنا: أحصينا أكثر من خمسين خبراً مختلفاً يتعلق بالموضوع المذكور خلال الأسابيع الثلاثة الفائتة. وهذا يكاد يكون رقماً قياسياً حين يتعلق الأمر بأي قضيةٍ في العالم، على الأقل، منذ أحداث ١١ سبتمبر في أمريكا قبل سبعة وعشرين عاماً! مرةً أخرى، لا نتحدث عن جمهوريات الموز، وإنما عن كل أعضاء مجلس الأمن الدولي، ومعهم كل من تبقى من مجموعة العشرين الكبرى في هذا العالم، وفوقهم عشرون دولةً أخرى من الدول ذات الوزن الاقتصادي والسياسي الأكبر على هذه الأرض..
خلاصة الموضوع بالنسبة لثلاثة أطراف.
يشعر النظام الدولي بأن ما سيجري في إدلب يمكن أن يمثل نهاية مرحلة An end of an era ، تبدأ في الإقليم، لكن تأثيراً كارثياً لها سيمتد، تدريجياً، وبقوة قوانين الاجتماع البشري، إلى مناطق أخرى في العالم. من هنا يأتي مجازُ عبارة (قيام الساعة) في عنوان المقال، ومعه الإشارةُ إلى (دابق) لورودها في حديثٍ معروف بهذا الشأن، بغض النظر عن ملابساته.
يجد السوريون أنفسهم أمام استحقاق هو الأكبر والأخطر والأشد حساسيةً في تاريخ ثورتهم. استحقاقٌ يُشكلُّ مفرق طريق في مسيرتهم التي خرج عشرات الآلاف الجمعة الفائت في مظاهرات سلمية يصفونها بشعار (مقاومتنا مستمرة). لكن قياداتهم تبدو حائرةً، في أحسن الأحوال، في التعامل مع ذلك الاستحقاق، وبشكلٍ مُعيب.
أخيراً، تبدو ثمة حاجةٌ ملحّة، لدى العرب أجمعين، باتجاه إعادة النظر في التحولات الأخيرة لسياسات بعضهم تجاه الشأن السوري. وإذ جاء بعضُها (مفهوماً) في إطار ملابسات وحسابات مستجدة وطارئة في الفترة الماضية، إلا أن رؤيةً استراتيجية جديدة، من خارج الصندوق، قد تبدو ملحةً في هذه المرحلة. وهذا ليس لمصلحة السوريين فقط بكل تأكيد..
هذا رسالةٌ تندرج في التحفيز للتفكير على مستوى (الماكرو).. مستوىً يُدرك أهمية فهم التفاصيل، لكنه لا يغرقُ فيها، وإنما يجمع شُتاتها، العشوائي في نظر كثيرين، ويضعه في سياقٍ أكثر شمولاً، هو وحدَهُ الذي يساعد على ولادة واستمرار الفكر الاستراتيجي. بكلمةٍ أخرى، إنه يعني امتلاك القدرة على رؤية (الغابة بأسرها)، دون الوقوع في التركيز على (الأشجار) التي تتشكلُ منها.