الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مقتل الصحافة في مجزرة الأتارب

مقتل الصحافة في مجزرة الأتارب

22.11.2017
ميسون شقير


العربي الجديد
الثلاثاء 21/11/2017
قال إدموند بيرك: "ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف في البرلمان، ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة، وهي أهم منكم جميعاً". وبهذا، أكد على قدرة الصحافة الخطيرة والمدهشة على تغيير السياسات، وعلى هز مطلقية السلطات الثلاث الأساسية.
ولكن ما لم يكن من المتوقع في هذا القرن، وبعد الثورة المعلوماتية الهائلة، وبعد ثورة عالم التواصل والصورة، وصحافة الإنترنت، وبعد وجود "يوتيوب" و"فيسبوك"، وبعد القدرة المذهلة على إيصال الصورة في لحظة الحدث نفسها إلى العالم كله، أن تبقى الصحافة الأوروبية، أو العالمية، بكل مؤسساتها المرئية والمسموعة والمقروءة، عاجزة عن إيقاف المذبحة المستمرة في سورية منذ ست سنوات، بشكل يومي ولحظي، تجاه أحد أقدم شعوب الأرض، ومجتمع كان مهيأ ليقود أهم نهضة عربية، كل ذنبه أنه أراد أن يعيش الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص الذي تعيشونه أنتم في دول العالم الأول.
عرّت الكارثة السورية تماما مدى فشل مقولة "أن الصحافة هي السلطة الرابعة"، أو هي "السلطة الأقوى"، وجعلتنا نعود ونعرف أن الصحافة "سلطة لكن بدون مخالب"، وتابعة، بشكل أو بآخر، للمؤسسات السياسية والاقتصادية، وأنها لم تستطع الانفصال عنها إلا نسبيا. وهذه الطائرات الروسية تقصف سوقا شعبيا لمدنيين في مدينة الأتارب السورية، وتصنع مجزرة كاملة من الأطفال والنساء والشيوخ، فاق عدد شهدائها الخمسين، وجرح مئتان، ولا يمر الخبر في الصحافة العالمية، ولا في التلفزات الأوروبية، وإذا مر، فبشكل خجول وباهت، كأن الذين استشهدوا دمى، أو أناس من كوكب آخر، وموتهم هكذا دفعة واحدة مجرد خبر مزعج قليلا، تتحاشاه معظم وسائل الإعلام العالمية.
كنا، نحن السوريين الذين استقبلنا كل شعوب الأرض، نعتقد أن ما حصل في الحرب العالمية، وفي الهولوكوست، وبعدها في فلسطين، من مجازر أخرى لم تكن صورها قادرة على الوصول طازجة، على غير أمر صورة المذبحة السورية ومقاطع الفيديو، تصل ومنذ ست سنوات، والدم لا يزال يقطر من حوافّها، ويغطي شاشات العالم. ومع كل هذا الدم، لم تستطع الصحافة أن تجعل شعوب دول العالم الأول تخرج إلى الشارع، وتفرض على حكوماتها التحرّك لإيقاف هذه المجزرة. وليس فقط هذا، بل المفاجئ أن عمق الفكر الديني، أو العرقي، أو العنصري، لم يزل أعمق لدى إنسان دول العالم الأول، من العمق الانساني، فصور "داعش" المجهزة أثرت في كل أوروبي، وهي طبعا لا يقبلها أي عقل أو أية روح إنسانية، لكنها أثرت في الصحافة العالمية، وفي الرأي العام العالمي، أكثر بكثير من مئتي ألف صورة لنشطاء مدنيين قتلهم الأسد في سجونه، وقد أوصل "قيصر" إلى العالم الهولوكست في سجن صيدنايا، وإثبات إعدام أكثر من خمسة عشر ألف معتقل مدني. ومع هذا، لم يتغير شيء، لم يستطع أي تأثير إعلامي إلى الآن أن ينقذ أي معتقل يمكن أن يموت في أي لحظة، أو هو يموت الآن تحت التعذيب، ونحن نتحدّث هنا، في المؤتمرات الإعلامية والصحفية، يموتون بكل بساطة، مثلما أعدم تحت التعذيب الصحفي والإعلامي وناشط الإنترنت، باسل الصفدي، الذي صنّفته أميركا بأنه من أهم عقول العالم. وكما مات باسل شحادة تحت الصواريخ، لأنه كان يريد أن ينقل الحقيقة، وكما اغتيل ناجي الجرف، لأنه فضح النظام، وفضح "داعش"/ أي الوجه الآخر للنظام في سورية، وفزّاعة العالم.
كان على الصحافة والإعلام العالمي أن يناقش أزمة "الأخلاق"، وهي أزمة "إنسانية"، وليست أزمة اللاجئين والاندماج. الأزمة هي صمت العالم اليوم عن مجزرة مروعة لا تحتمل، وصمته عن موت مليون شخص في هذا القرن. هذه الأزمة وشم سيبقي، مهما أقام الإنسان على هذه الأرض، ومهما أقام من أبراج عالية، وتقنيات مرعبة، سيبقى ندبا أسود في جبهة البشرية
مجزرة الأتارب اليوم جعلت السؤال الذي يجب أن يسأل: الصحافة إلى أين؟، وما هي الصحافة؟، هل هي مجرد البحث عما يثير أكثر؟. وبالتالي، يتحول فعل الموت والظلم إلى فعل اعتيادي تحيده الصحافة، مثلما فعلت مع القضية الفلسطينية، أو تقتله بتمديده وتمييعه كما يُطلب منها، لكي يقلّ غضب الناس من صورة ما تقلع العيون، وهذا ما يجعل الصحافة، إذا كانت كذلك، مفهوما كارثيا، لن يقدّم للحقيقة إلا موتها في نفسها.