الرئيسة \  تقارير  \  تحالف اوكوس: تلاشي وهم عودة أمريكا للقيادة وصدع في تضامن الغرب ضد الصين

تحالف اوكوس: تلاشي وهم عودة أمريكا للقيادة وصدع في تضامن الغرب ضد الصين

27.09.2021
إبراهيم درويش


إبراهيم درويش
القدس العربي
الاحد 26/9/2021
كان لقاء قادة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا على هامش قمة الدول السبع في 12 حزيران/يونيو هادئا بدرجة أن الجمل الأربع في البيان المشترك حول أهمية وتعميق التعاون في منطقة إندو- باسيفيك بدت هامشا في عودة التعاون الغربي بعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض. والأهم من كل هذا هو اللقاء الثنائي الذي جمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن وقبل حفلة الشواء في خليج كاربيس بكورنوول مكان عقد القمة. وأخبر بايدن الصحافيين وإلى جانبه ماكرون “عادت أمريكا” ليعلق الرئيس الفرنسي “القيادة هي شراكة”.
في ذلك الوقت لم تر باريس في الاجتماع الكثير من الضرر، ولكن حسها بالخيانة الأسبوع الماضي جاء بسبب اكتشافها أن بايدن وبوريس جونسون وسكوت موريسون منحوا زخما جديدا لتحالف استراتيجي يمكن أن يعيد تشكيل الأمن في آسيا ومواجهة الصعود العسكري الصيني. وأنهى التحالف الجديد الصفقة العسكرية الفرنسية بقيمة 36 مليار دولار لبناء 12 غواصة تعمل على البنزين لأستراليا ووقف طموحات ماكرون في منطقة إندو- باسيفيك. وفي رد فعل فرنسا الغاضب على ما اكتشفته استدعت سفيريها في واشنطن وكانبييرا ودفعت لتأجيل اجتماع تجاري أمريكي- أوروبي. وأدى التحالف لأكبر انقسام بين الحلفاء الغربيين منذ الغزو الأمريكي للعراق في 2003.
وبعد محادثة يوم الثلاثاء اعترف بايدن على ما يبدو أن فرنسا لم تعامل بشكل جيد. ووافق على لقاء الرئيس الفرنسي في أوروبا الشهر المقبل لكي يعيد ضبط العلاقة معه. لكن الخلاف لن ينهي الشكوك العميقة في أوروبا بشأن مصداقية أمريكا وسط تحول في السياسة الخارجية الأمريكية باتجاه آسيا.
فالتحالف الذي أطلق عليه “اوكوس” هو بمثابة إشارات عن استبعاد أوروبا من القيادة العالمية، كما تقول ماري جوردين، الزميلة الزائرة في المجلس الأطلنطي، كما نقلت عنها صحيفة “فايننشال تايمز” (24/9/2021) مضيفة أن القرار والخلاف العابر للأطلنطي أثار سؤالا حول أهمية “الحلفاء الأوروبيين” للولايات المتحدة فيما يتعلق بالتنافس مع روسيا والصين.
وفي قراءة لتطور الأحداث والغضب الفرنسي ومحاولات جونسون دعوة فرنسا لفهم الأمر، قال الأستراليون إن فرنسا تجاهلت إشارات عن مشاكل في الصفقة بما فيها زيارة بيير- اريك بوميليه، مدير “نافال غروب” إلى أديليد وسط أخبار عن أمر من موريسون لمراجعة صفقة “باراكودا” التي وقعت في 2016 وحاول بوميليه تحريك الصفقة بناء على “التصميم المفصل” والحصول على الدفعة الكبرى من الكلفة، لكنه عاد خاوي الوفاض إلى باريس. وكان لدى موريسون شكوكه حول بطء المشروع وعدم خلقه فرص عمل للأستراليين ونقل التكنولوجيا.
وكشف في كانون الثاني/يناير 2020 أن المدقق العام كشف عن حث لجنة الخبراء العسكريين الحكومة في 2018 على البحث عن بديل للغواصات الفرنسية. وواصلت الصحافة الأسترالية نشر تقارير صورت فيها سخط الحكومة. وفي كل مرة حاولت فيها باريس الاستعلام عما رأتها حملة تشهير كانت تلقى تطمينات من الحكومة الأسترالية، وذلك حسبما قال مسؤول فرنسي شارك في المحادثات. وكان الموقف الفرنسي هو أن التأخير وزيادة التكاليف أمر متوقع في صفقة ضخمة كهذه. لكن الفرنسيين بمن فيهم رئيس نافال غروب لم يكونوا على علم بالخطة الأسترالية البديلة، في وقت لم يفهم فيه الفرنسيون ملامح القلق الأسترالي من زيادة النشاط العسكري في الباسيفيك. وتوصلت كانبييرا إلى نتيجة وهي أن الغواصات التي تعمل على البنزين ليست كافية لمواجهة الخطر الصيني. ولدى الفرنسيين قوة دفع نووية، وسألوا أستراليا في حزيران/يونيو إن كانت تريد التحول نحو الطاقة النووية. لكن طاقة الدفع النووية الأمريكية تظل “جوهرة التاج في العسكرية الأمريكية” لأنها تسمح للغواصة بالتخفي وتجنب الكشف.
التآمر
وبعيدا عن مشاكل التكنولوجيا فقد قررت حكومة موريسون بناء تحالف أوسع مع الولايات المتحدة التي لم تكن لتشرك التكنولوجيا في ظل إدارة ترامب. وجاء وصول بايدن إلى البيت الأبيض في بداية 2021 فرصة لتوسيع التحالف. وشكل موريسون حكومة مصغرة ترأسها لمناقشة صفقة جديدة مع الولايات المتحدة تلعب فيها بريطانيا دورا. مع أن وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان تجاهل الدور البريطاني في تحالف اوكوس واصفا إياه بـ “العجلة الخامسة للعربة” إلا أن الحكومة الأسترالية رأت في بريطانيا التي تشترك في التكنولوجيا النووية مع أمريكا منذ منتصف القرن الماضي وسيطا قد يساعدها على تأمين صفقة مع أمريكا. وكانت الأخبار عن بحث الأستراليين عن غواصات نووية بدلا من التقليدية “قفزة كبيرة” حسب مسؤول دفاعي بريطاني. وبعد نقل المقترح البريطاني- الأسترالي إلى واشنطن بدأ ممثلون عن الدول الثلاث بمناقشته. وعندما تعلق الأمر بإخبار فرنسا، فقد اعتقدت واشنطن أن هذا من وظيفة كانبييرا. لكن المسؤولين الأستراليين قالوا إن تحذير فرنسا لم يكن في مصلحتهم، فبقاء الصفقة الفرنسية سيزيد من الضغوط على بايدن والموافقة على صفقة مربحة. وفي غضون ذلك بدأت باريس بإظهار قلقها وطلبت مساعدة من أمريكا. وعبر كل من لودريان ووزيرة الدفاع فلورنس بارلي ومستشار ماكرون للشؤون الدبلوماسي إيمانويل بونيه عن قلقهم من الصفقة إلى نظرائهم الأمريكيين. وكان الرد صامتا أو أنهم لا يعرفون. وفي 10 أيلول/سبتمبر طلب لودريان وبارلي التحدث مع نظيريهما الأمريكيين أنتوني بلينكن ولويد أوستن، ولم تحدث أي مكالمة إلا بعد الإعلان عن تحالف اوكوس في 15 أيلول/سبتمبر. وأكد مستشار الأمن القومي لبايدن، جيك سوليفان التحالف للسفير الفرنسي في واشنطن فيليب إيتين والذي طلب مقابلة طارئة في البيت الأبيض. ووصف لودريان التحالف بأنه “طعنة في الظهر”. وفي الوقت الذي قال فيه المسؤولون البريطانيين أنهم فكروا بمنافع الصفقة إلا أن بعض الدبلوماسيين البريطانيين رأوا أن جونسون أساء تقدير تداعيات التحالف على العلاقة البريطانية-الأوروبية وعلى المدى البعيد. وقال السفير البريطاني السابق في فرنسا بيتر ريكيت “استفاق عدد من الناس لحقيقة أنهم (جونسون وفريقه) تسببوا بضرر كبير على العلاقات مع فرنسا” و “لا يمكنك حلها على المدى القصير، وهي واحدة من المناسبات التي سيتذكرها الفرنسيون”.
وبعد لقاء جونسون في البيت الأبيض دعا جونسون فرنسا أن “تعطية استراحة” (تحل عن ظهره بالعامية). وفي حفلة عشاء بالسفارة الأسترالية تمت مناقشة الأزمة مع فرنسا بشكل مكثف لكن الجو كان احتفاليا، حيث شمل الطعام زهور الكوسا المحشية بجبن الماعز ولحم البقر “واغيو” الياباني المعروف المحشو بعصيدة دقيق الذرة. ووقع موريسون على قائمة طعام جونسون ورد الأخير بالمثل.
عجرفة موريسون
وسط الابتسامات والغطرسة من جونسون وموريسون فإن معاملة حليف أوروبي كفرنسا لن تخدم مصالح البلدين، فاستراليا ليست بعيدة عن فرنسا التي تملك جزرا في منطقة الباسيفيك ويهمها الخطر الصيني كما يهم كانبييرا. أما بريطانيا فقد خطت خطوة أخرى نحو توتير العلاقة مع الجيران الأوروبيين الذين تحتاج إليهم، وليس أدل على هذا من أزمة نقل الوقود إلى محطاته وانتشار الطوابير، فبريطانيا تحتاج إلى 100.000 سائق شاحنة والكثيرين منهم عادوا إلى أوروبا بعد البريكسيت. وفي هذا السياق حذر رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفن راد بمقال في “الغارديان” (24/9/2021) من الضرر الذي تسبب به موريسون على العلاقة الطويلة والدائمة مع الجمهورية الفرنسية. وقال إن رد الفرنسيين مفهوم، فلو حدث مثل هذا لأستراليا لشعر مسؤوليها بالخيانة من صديق. وتساءل عن سبب سرية موريسون وعدم إخباره الفرنسيين عن لقاء كورنويل وتركهم يعرفون عن الأمر من الإعلام. كما وتساءل عن قدرة دولة مثل استراليا ليس لديها تاريخ في الطاقة النووية على صيانة غواصات تعمل على الطاقة النووية، مشيرا إلى ان فرنسا تقوم بتصنيع هذا النوع من الغواصات منذ عقود. وكان من الأولى لو طلب من الفرنسيين طرح عطاء جديد أو سمح لهم بمواصلة بناء هيكل الغواصات وللأمريكيين تزويدها بطاقة الدفع النووية. لكن رئيس الوزراء لم يكن مهتما بهذا أو بالعبء الذي سيضعه على دافع الضريبة الأسترالي، علاوة على مليارات الدولارات التي ستطالب بها الشركة الفرنسية كتعويض. وقال إن العلاقات الأسترالية-الفرنسية لم تصل إلى هذا المستوى من التدهور حتى عندما قدمت كانبييرا دعوى قضائية ضد باريس بسبب الاختبارات النووية في الباسيفيك. ونفس الأمر يقال عن العلاقات الأمريكية-الفرنسية، فلم يحدث أن استدعت باريس سفيرها منذ إعلان الجمهورية الأمريكية، بل ولم يحدث هذا في ذروة الخلاف حول غزو العراق. ويعتقد راد أن موريسون أراد أن يقدم إنجازا للداخل بسبب تراجع شعبيته في الاستطلاعات نتيجة تعامله مع وباء كورونا وتوفير اللقاحات والحجر الصحي. ولم يهتم بالصدع الذي أحدثه للعلاقات الأمريكية والبريطانية مع فرنسا وتقويضه التضامن الغربي ضد صعود الصين. وقوة متوسطة مثل أستراليا ليست بمستوى مواجهة تأثير فرنسا ذات الحضور في مجموعة الدول السبع والعشرين والعضو الدائم في مجلس الأمن والعضو الرئيسي في الناتو وصاحبة القرار المهم مع ألمانيا في الاتحاد الأوروبي. واعترف راد بأهمية فرنسا عندما وقع معها في 2012 شراكة استراتيجية غطت التعاون في الاستثمارات والتكنولوجيا والسياسة الاقتصادية الدولية. وضاعف مالكوم تيرينبل من التعاون الإستراتيجي عام 2017 وقبل اتمام صفقة الغواصات. ويخشى المسؤول السابق من ردة فعل أوروبي يتمثل بفرض ضرائب جديدة وتعرفة على الصادرات الأسترالية، كما وستتأثر محاولات استراليا عقد اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي. وأكثر من هذا فستجد أستراليا نفسها في مواجهة فرنسا وعالمها الفرانكفوني في الأمم المتحدة بحيث تفشل أي مبادرة تتقدم فيها كانبييرا. وأدى تصرف موريسون وهذا هو المهم من نزع ثقة العالم بكلمة أستراليا التي لا تريد الخروج من شرنقة العالم الإنكليزي، في وقت يتحول فيه ميزان القوة العالمية والإقليمية أمام ناظري الأستراليين، كل هذا من أجل صورة تظهر موريسون “من تحت” كما توصف بلاده، وهو يلعب الكبار من فوق.
لعبة جونسون الخطيرة
وكتب سايمون جينكينز في صحيفة “الغارديان” (20/9/2021) واصفا تحالف جونسون في الباسيفيك بالمتهور ويعبر عن حنين فارغ لما بعد الامبريالية. وتفهم الكاتب بحث أستراليا عن غواصات نووية لأن الغواصات التقليدية باتت في حكم البائدة، مذكرا أن العقود الدفاعية تحمل قيمة سياسية وتجارية تتجاوز منفعتها. فلو كانت أستراليا تعتقد أن الصين هي في الحقيقة تهديد، فعليها أن تحضر أسلحة فعالة. ورأى أن التحالف الثلاثي كان يهدف إغضاب واستفزاز الصين وإهانة فرنسا وهو ما حدث. ويعتقد الكاتب أن التصريحات الفخمة التي تطلق من أجل التأثير السياسي مثل التحالفات المفاجئة والإزدراء لها عواقب. فالمصالح الغربية التي ولدت أثناء الحرب الباردة رفضت منح الناتو فرصة لإعادة تعريفها في فترة التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وكان هذا السبب الذي جعل بريطانيا تتورط في أفغانستان والعراق وبذريعة حماية الولايات المتحدة من الإرهاب الجديد. وحذر جينكينز من أن الخطاب المتشدد والدق على الصدور تعاليا هو ما غذى الحرب العالمية الأولى في البداية. ولا يوجد هناك أي سبب يدفع بريطانيا لتبني موقف عدواني في منطقة الباسيفيك، وكل هذا حنين غامض لما بعد الامبريالية. ولو كانت الولايات المتحدة مجنونة بالقدر الذي يجعلها تعود للحرب في جنوب-شرق آسيا من أجل تايوان، فهذا لا علاقة له ببريطانيا كما كانت فيتنام. والتعامل مع صعود الصين لا يتم عبر فتح حرب باردة معها، فهذه حماقة، وبالنسبة لبريطانيا تحديدا فهي سخافة ما بعدها من سخافة. وفي ظل فشل الدبلوماسية الغربية في التعامل مع روسيا مرحلة ما بعد الشيوعية وتعاملها المأساوي مع العالم الإسلامي مأساويا فلن تنجح مع الصين. وفي أفغانستان أجبرت أغلى الجيوش في العالم على الرحيل من خلال الأيدي الممسكة بزناد إي كي- 47. ومضى نصف قرن على سحب هارولد ويلسون بريطانيا من “شرق السويس” ويبدو أن جونسون يتحرق للعودة ليثبت أنه قادر على توجيه لكمات أكبر من وزنه ووضع بريطانيا على المسرح العالمي في مرحلة ما بعد البريكسيت.
باريس لن تنسى
ورأت سيلفي كوفمان، مديرة التحرير في صحيفة “لوموند” بمقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (22/9/2022) إن الشراكة الجديدة التي أعلن عنها في الأسبوع الماضي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا أحدث صدمة لدى الفرنسيين وأغضبتهم، ليس هذا بسبب خسارتهم الصفقة مع أستراليا، بل لأن الفرنسيين تركوا في الظلام بشأن التحالف الجديد وشعروا بالخداع من خلفائهم المقربين الذين تفاوضوا من وراء ظهورهم. وتقول الكاتبة إن الخلاف لا ينحصر فقط في صفقة تجارية ولكن بالجرح الذي أصاب الكرامة واعتداد الشعب الغالي بنفسه. فالقنبلة الدبلوماسية الوقحة كشفت عن القواعد غير المكتوبة للتنافس بين القوى العظمى لا يمكن لفرنسا أن تلعبها طالما لم يكن وراءها ثقل الاتحاد الأوروبي. وعلقت أن الحلف الجديد هو صورة عن الجيوسياسة في القرن الحادي والعشرين وترتيب التحالفات القديمة لكي تناسب الوقائع الجديدة. وتعتبر فرنسا نفسها “قوة دائمة” في منطقة إندو-باسيفيك، التي تعد منطقة تنافس حيوية بين الولايات المتحدة والصين، وذلك لأنها تملك عددا من الجزر وتحتفظ بأربع قواعد بحرية هناك. وطورت استراتيجيتها للمنطقة في عام 2018 وتدفع منذ ذلك الحين الاتحاد الأوروبي لتطوير مشروع مماثل.