الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ثورة آذار السّوريّة وبشّار الأسد دون كيشوت السّياسة الجديد

ثورة آذار السّوريّة وبشّار الأسد دون كيشوت السّياسة الجديد

18.03.2019
مهنا بلال الرشيد


سوريا تي في
الاحد 17/3/2019
يبدو أنّه سيُحسَب لبشّار الأسد نقلُه مصطلح (الدّونكيشوتيّة) من ميداني الأدب وعلم النّفس إلى ميدان السّياسة والخطاب السّياسيّ؛ فقد اشتُهِر هذا المصطلح مع ذيوع رواية (دون كيخوته) للرّوائيّ الإسبانيّ (ميغيل دي سِرفانتس)، ولاسيّما بعد اشتهار اسم بطلها الأسطوريّ (الدّون كيخوت دي المانتشا)، الّذي أسهب نقّاد الأدب في دراسة حالته، وغاص علماء النّفس يحلّلون عقدة هذا العمل الرّوائيّ؛ القائمة على النّزوع نحو الفروسيّة دون امتلاك أدنى مقوّماتها من شخص هزيل على المستويات السّياسيّة والعسكريّة والجسمانيّة.
نعم صارت الدّونكيشوتيّة مصطلحًا سياسيًّا قريبًا جدًّا من مفهوم العنتريّة أو العنتريّات الّتي اعترف بشّار الأسد في خطابه الأخير بشطارة نظامه فيها بشكل يعيد إلى الأذهان مضمون الخيارات الثّلاثة، الّتي طرحها أعضاء خليّة الأزمة -قبل تفجيرهم- لدراسة أفضل السّبل لقمع الثّورة السّوريّة وإخمادها؛ فأشار بعضهم إلى أنّ معالجة الأسباب البعيدة لثورة الشّعب من خلال الإصلاحين: السّياسيّ والاقتصاديّ سيكون مكلفًا للغاية، وقد يؤدّي إلى تمادي الشّعب واستمراره في ثورته وإصراره على إسقاط النّظام، ناهيك عن ترابط هذين الإصلاحين وصعوبة فصل أحدهما عن الآخر.
لابدّ من إراقة الدّماء للحفاظ على النّظام، وإخماد الثّورة، وفي الختام (الكلّ يسامح الكلّ)
وكذلك إنّ معالجة السّبب الظّاهريّ المباشر لثورة الشّعب ليست أقلّ خطرًا وسوءًا بالنّسبة للنّظام من معالجة أسبابها البعيدة، فالمحاكمة العادلة لعاطف نجيب ابن خالة بشّار بعد إساءته لأطفال درعا وأهاليهم ومجمل الشّعب السّوريّ قد تفتح المجال على المطالبة بمحاكمة غيره، وقد تؤدّي إلى شرخ في بنية النّظام الطّائفيّة من الدّاخل؛ ولذلك تبّنى بشّار وخليّة الأزمة -قبل تفجيرها- خيار المواجهة ضدّ الشعب الثّائر برغم إدراكهم ما سينتج عن هذا القرار من قتل وتهجير وسَجْنٍ وتعذيبٍ وتدمير؛ وذلك لأنّه -على حدّ تعبيرهم- إذا سقط النّظام سيُعدَم قادته على حِبال المشانق، أمّا إذا هُدِّمت سوريا، وسُجن أهلُها، وهُجِّر مواطنوها فمن الممكن نظريًّا إعادة إعمارها -في حلم دون كيشوتيّ رومانسيّ- بالاستفادة من مجمل المتغيّرات الدّوليّة، واستشهد بعض الأمنيّين في خليّة الأزمة بالحالة اللّبنانيّة الّتي حوّلت ميشيل عون من واحد من أمراء الحرب في لبنان إلى رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة، بعد تناسي شهداء الحرب وتبادل الاتّهامات في تحميل مسؤوليّة قتلهم بين الأطراف المتعدّدة، ثمّ الرّكون إلى الدّعوة بالتّسامح بين الجميع؛ مجرمين وضحايا على حدّ السّواء، وهو ما كشف عنه بشّار الأسد صراحة من خلال نظريّة (الكلّ يسامح الكلّ)، بتماهٍ مطلق مع ما قرّرته خليّة الأزمة قبل تفجيرها، بتقريرها أنْ لابدّ من إراقة الدّماء للحفاظ على النّظام، وإخماد الثّورة، وفي الختام (الكلّ يسامح الكلّ).
لكنّ حسابات الخلايا لم تتطابق مع حسابات السّرايا -إذا صحّ تعديل المثل الشّعبيّ القائل: (حساب الجرايا/القُرى مو مثل حساب السّرايا)، فقد طال أمد الثّورة السّوريّة؛ لتقترب من إكمالها عامها الثّامن والشّروع في عامها التّاسع، واتّسعت رقعتها الجغرافيّة لتتجاوز سوريا، وتغدو حربًا كونيّة حسب أقوال بشّار وممانعيه؛ وليُسفر انتصار النّظام الوهميّ على قنوات الممانعة عن حروب أربعة، اعترف بشّار بأنّه ونظامه ما زالوا في بدايتها، وليس بوسع أيّ مواطن أن ينتقد سياسة الدّولة، ولا أن يطالب بالماء أو الكهرباء أو المازوت أو الغاز أو غيرها من متطلّبات الحياة الضّروريّة إلّا في حدود ما يؤمّنه النّظام، أو ما يسمح به من نقد سطحيّ ساذج، بعد الاقتناع بما يسلّمه لمؤيّديه من غاز ومازوت وكهرباء فائضة عن احتياج شبّيحة الدّرجة الأولى وزبانية النّظام في دائرته الضّيّقة.
وإذا عدنا إلى الدّونكيشوتيّة في شخصيّة بشّار الأسد على المستوى السّياسيّ؛ فإنّ أبرز ملامحها تتجلّى في التّناقض من خلال تبنّي الخطاب القوميّ بوصفه ممانعًا تارة ومحاولة التّملّص من العروبة وما تتطلّبه مستلزماتها من طرد للفرس ومليشياتهم تارة أخرى، وكَيل الاتّهامات للدّول العربيّة مرّة، وللدّول الّتي تؤوي النّازحين السّوريّين مرّة ثانية، ناهيك عن الصّراخ والانفعال والسُّباب والشّتائم الّتي لا يمكن أن تصدر عن قائد حزب سياسيّ مغمور في الموزامبيق، مع العجز عن امتلاك أيّ أوراق فاعلة للتّفاوض مع المليشيات المناصرة لبشّار أو الضّغط عليها من أجل إخراجها من سوريا بعد النّصر المزعوم، أو الحوار مع من يتّهمهم بمعاداة نظامه، أو إغراء هذا الرّئيس المأزوم أو ذاك المغمور مع دولته أيضًا بزيارة دمشق؛ لعلّ الزّيارة توظّف إعلاميًّا؛ وتضيف على تمثيليّة النّصر مشهدًا، أو تُغري نظامًا ما بفتح سفارته أو إرسال قنصله على أقلّ تقدير.
ومن الملامح الدّونكيشوتيّة العسكريّة الّتي كشفت عنها الثّورة السّوريّة لدى بشّار وجيشه أنّها حطّمت سطوة الأمن، ودمّرت أسطورة النّظام المجرم الّذي لا يُقهر، مثلما كشفت عن ملامح المصيبة الكبرى من حيث الادّعاء بامتلاك صواريخ الدّفاع الجوّيّ الرّوسيّة من (s1 إلى s600)، أو ملامح المصيبة الأكبر إن كانت هذه الصّواريخ موجودة، ولكن لا وجود للجرأة من أجل استخدامها، مع فتح الأجواء المستمرّ لطيران القاصي والدّاني للقصف وتجريب ما يشاء من أسلحة، واختبار ما يريد من منظومات على أهداف مدنيّة أو عسكريّة دون اهتمام أو مبالاة إلّا بزيادة أيّام السّلطة يومًا جديدًا أو أكثر على كرسي الرّئاسة المشؤوم.
ولعلّ في صور بشّار الأسد الأخيرة ما يملأ الكيل ويُفيضه من إهانات جسمانيّة-معنويّة لبشّار الأسد دون كيشوت السّياسة المعاصر؛ مثل صورة بشّار المنفعل المهزوز في خطابه أمام مجالس الإدارة المحلّيّة، وصورة بشّار الذّليل، وإيقافه من قبل الجنديّ الرّوسيّ وسحبه إلى خلف الخطّ الأصفر وراء بوتين في حميميم السّوريّة، واستدعائه على عُجالة بطائرة شحن إلى إيران، ونزوله فيها دون استقبال، وإجلاسه دونما رفع أيّ علَمٍ لنظامه، الّذي يفاوض بعض المدن والأحياء السّوريّة من أجل رفعه.
نعم، لقد أدخلت الثّورة السّوريّة مفهوم الدّونكيشوتيّة إلى عالم السّياسة، ولعلّها قبيل أن تكمل سنتها الثّامنة، وتستعيد ذكرى انطلاقتها في آذار 2011 رسمت صورة كاريكاتيريّة مضحة لأوّل دون كيشوت سياسيّ معاصر، بعدما رسم لنا ميغيل دي سرفانتس صورة الدّون كيشوت الأدبيّة الخالدة منذ أربعة قرون