الرئيسة \  واحة اللقاء  \  وجوب ردّ الاعتبار للشعب السوري!

وجوب ردّ الاعتبار للشعب السوري!

04.12.2016
مرزوق الحلبي


الحياة
السبت 3/12/2016
هناك مَن يُصرّ على شطب الشعب السوري بمذاهبه ومفكريه. وإلا، كيف يُمكن أن نفهم سجالات طويلة عريضة منذ 2011 تتأرجح بين لفظتي: "النظام" و"المعارضة المسلّحة". وهناك مَن يختزل المعارضات المسلّحة في "داعش" وحده كلفظة ومدلول وحالة. في مثل هذه الحالة، تضيع الضحايا وتغور الوجوه في اللغة الاختزالية كأنها لم تكن. في مثل هذه الحالة، مَن سيتذكر أصابع علي فرزات مثلاً أو حنجرة إبراهيم قاشوش؟ بل مَن سيتذكّر محمد الماغوط وصادق جلال العظم وجورج طرابيشي وبرهان غليون ولؤي حسين ونزار نيوف وهيثم المالح؟ هل ستتسع هذه المسافة الضيقة بين نقيضين اثنين لعشرات آلاف المعتقلين السياسيين الذين قضوا في أقبية التعذيب قبل 2011 وبعده؟ وهل ستتسع هذه المفردات القليلة لجثث مئات ألوف الضحايا التي قتلها النظام بدم بارد؟ هل تتسع لفظتان أو ثلاث لتوصيف التدمير المنهجي للحاضرة الشامية، أو للتطهير الطائفي وتخريب الريف المُعارِض المنتفض ومذابح الهُوية؟
فقط النظام الشمولي الذي اختزل الدولة والمجتمع ومقدرات بلد في هيئة نظام أقلّوي يُمكن أن يكون مستفيداً وفرحاً بهذا الاختزال الظالم لمجتمع كامل بناسه وحراكه وتضحياته قبل 2011 وبعده. للتذكير، إذا ما نفعت الذكرى، نسجّل أمام المُختزلين حقيقة أن الشعب السوري عدّ قبل 2011 ما يزيد عن 22 مليون نسمة. شعب حيّ استطاع على رغم القمع والنظام الأمني المستورد من لدن ال"شتازي" وال"كي جي بي" ونسق "السيد والعبد"، أن يتحدى - كما في أوروبا الشرقية - وأن يتوق إلى الحرية والكرامة والعزّة ككل شعوب الأرض التي طاولها القهر. هذا الشعب أخرج من بين ظهرانيه رموزاً في كل شيء، في الفكر التحرري والتنوير وخطاب العقل، وفي الأدب والشعر والفنون كانت أعلام ومدارس. ليس بفضل النظام الأمني بل على رغم هذا النظام ووطأته.
في هذا الشعب الذي عاشت فيه مذاهب وعقائد كأي شعب، نمت معارضات للقمع والقهر، الأمر الذي واجهه النظام بالحديد والنار حتى صار "مدرسة" يأتي إليها الطُغاة والجلاوزة من كل بقاع الأرض للاستكمال والاستزادة! هذا الشعب عارض في أشكال مختلفة التمييز في حصص المياه ونظام الخاوة والتوزيع غير العادل للموارد والشحن الطائفي والاستئثار بالسلطة ودوس الكرامات والاستيلاء على الممتلكات الخاصة، ودفع ثمناً خيرة أبنائه وبناته. أما المَشاهد والأشرطة المسرّبة منذ تفجّر الثورة، فهي تكثيف فقط لما كانت الشام تشهده يومياً من دون عدسات أو توثيق أو شاشات. مُعظم العائلات السورية خسرت ابناً أو بنتاً. مُعظم العائلات السورية اضطرت إلى تهريب أحد أبنائها إلى الخارج حرصاً عليه من يد النظام. مُعظم المثقفين السوريين لجيلين وثلاثة تعرّضوا للملاحقات والتنكيل. لكل عائلة سورية امتداد في المنافي. مثل هذه التضحيات لا مكان لها في لغة اختزالية ظالمة. والفئات المثقفة السورية التي أنشأت خطاب الوطن والالتزام والتضحية والممانعة ومناصرة القضية الفلسطينية ومناهضة الاستعمار وأردفته بخطاب الحريات والحقوق والكرامة الإنسانية، هي هي هذه الفئة دفعت دمها ومستقبلها ثمناً لأفكار مثل دولة المواطنين والمؤسسات وسلطة القانون والعدل وما إلى ذلك من قِيَم التنوّر والمجتمعات المدنية، وتدفعه الآن بلغة الاختزال كأن ما قدمته من تضحيات جِسام غير ذي أهمية ولا يُحسب في حسابات العقائد والعقول الدوغما التي لا تزال تعيش حقبة الحرب الباردة مغسولة العقول معصوبة العيون!
لن يستطيع أحد أن يأخذ من الشعب السوري بكل فئاته حبّه لبلاده ودولته، وإن كره النِظام وأساليبه التي مسّت كراماته وحقوقه. لا أحد يستطيع أن يأخذ منه رموزه الثورية وأرصدة أبنائه وبناته في مناهضة الاستعمار الحديث والقديم ومن أجل التحرّر الحقيقي من كل ظلم بما فيه ظلم نظام الحزب الواحد الشمولي الأمني الذي تحوّل إلى قاتل الشعب مع سبق الإصرار والقصد ومُرتكب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية. مَن يفعل ذلك يُخطئ مرات، مرة بحق شعب كامل مشرّد ولاجئ، ومرّة بحقّ من تعلّمنا منهم الوطنية والالتزام وفكرة التنوير ومعارضة السلطان الجائر، ومرة بحق كل سوري وسورية قضوا تحت التعذيب لأنهم يحبون بلادهم أكثر ويكرهون الطغيان، بحق قِيَم التنوير وحقوق الإنسان التي قد يكون مِن المدافعين عنها في مواقعهم - في إسرائيل مثلاً، بحقّ أطفال وشيوخ ونساء لم يستطيعوا تدبّر أمرهم في ملجأ أو الهرب من براميل البارود والكلور والغاز، بحقّ سورية التي كان يُمكن أن تكون وطناً لكل السوريين لو أن الطاغية قبل اقتراحات الشعب أو اعتبر إرادته.
يُخطئ الذين يتجاهلون الشعب السوري وثورته أو يختزلونهم في جملتين أو ثلاث أو يصنفونه مع أميركا التي وافقت بالصمت وبالفعل على كل ما يفعله النظام منذ اندلاع الثورة. وهم يسلكون مسلك النظام القمعي في إقصاء الشعب من الحسابات أو حذفه مجازاً وبالفعل عن الوجود باعتباره عائقاً. يُخطئ هؤلاء عندما يشطبون شعباً من عشرين مليوناً ويرهنونه للعقيدة أو للعُقد لديهم. يُخطئون حين يضحون بهذا الشعب العظيم الذي قاوم الأتراك والفرنسيين من أجل وطن وعزة وكرامة ليسلبه منهم نظام الحزب الواحد والطاغية. لستم أنتم الذين قدمتم التضحيات في سبيل التحرر بل هذا الشعب. ليس الشيوعي العجوز من الجليل ولا القومجي من عجلون ولا الممانع من بارات باريس وحانات تل أبيب. هذا الشعب هو الذي يُذبح الآن ويُقتل وهو الذي يُهان وهو ميت بافتراءاتكم ومهاتراتكم ورقصكم على دمه في حلب وغيرها.
مع بداية السنة السادسة للثورة ولتقتيل الشعب، جدير بنا أن نردّ الاعتبار لشعب سورية الذبيح بأيدي نظامه ولحقوقه وحرياته وكرامته التي تُداس يومياً ببساطير العساكر المتواطئة مع النظام وأكثر الأسلحة فتكاً وتدميراً. الشعب الذي ثار من قبل هو الشعب الذي يثور اليوم للسنة السادسة وهو حرّ في أن يُعلمِن ثورته أو يتديّن معها - كما قال صادق جلال العظم. فهو الذي عاف ربّه من أقبية التعذيب وجَلد السيد والكي بأعقاب السجائر والتيار الكهربائي، بينما كان المختزلون ينعمون بديموقراطية إسرائيل مرّة أو بمخصصات تدفعها لهم الدول الأوروبية.
أسهل الأمر ألا نرى جرائم الحرب بحق الشعب السوري أو أن نختزل تاريخ شعب وحقوقه في الإبقاء على المعادلة السورية من عاملين اثنين: النظام و"داعش". هذا علماً أن الوقائع على الأرض تؤكّد منذ أول يوم للثورة وتُثبت أن النظام أساس البلاء ومُحدثه، يستهدف الشعب وحقوقه ومقدراته وتضحياته الأولى كلها بحجة "داعش" أو تنظيمات مسلّحة أصولية أو إسلامية. تماماً كما تفعل إسرائيل مع المسألة الفلسطينية ومطالبها حينما تصرّ على الربط بين قضية عادلة و"إرهاب دولي"! أو كأن النظام في الشام ذاك الذي رسم صورته أفلاطون في جمهوريته أو الفارابي في المدينة الفاضلة. إنها الخيانة في أوضح صورها يمارسها هؤلاء بحق الشعب السوري!