الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فرّوا من الديمقراطية فراركم من الأسد

فرّوا من الديمقراطية فراركم من الأسد

03.10.2019
ممدوح الشيخ


العربي الجديد
الاربعاء 2/10/2019
قبيل إطاحة نظام صدام حسين في عام 2003، تعرّفت إلى سياسيين عراقيين مرموقين، أحدهم كان مقرّباً من الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني. وعندما جاء الأخير في زيارة إلى مصر، كانت تاريخية بكل معنى الكلمة، أجريت حواراً صحافياً مع هذا المسؤول المقرب من الطالباني (لم ينشر بسبب ما تضمنه من إجابات صريحة حد الصدمة). في هذه الزيارة، التقى الطالباني بالكاتب محمد حسنين هيكل ونصحه هيكل نصيحة لم تزل تصلح أن تكون مفتاحاً لفهم صراع "الثورة" و"الثورة المضادة" حتى اليوم.
سألت صديقي العراقي (الكردي) عن الدور الذي يتصوّر أن يسهم به العراق بعد رحيل صدام في دعم التحول الديمقراطي في العالم العربي، وانطلق الرجل متحدثاً بحماس عن "المسؤولية الأخلاقية" التي يعتبر أن العراق "الرسمي" استشعرها، وكيف أنها مسؤولية تجاه الإنسانية، قبل أن تكون مسؤولية تجاه شعوب المنطقة. تحدث بلسان "الكردي" الذي أكل شعبه من ثمرة الاستبداد المرّة، وصولاً إلى الإبادة بالأسلحة الكيميائية.
وفجأة انعطف في إجابته عن السؤال، ليبدي صدمته الشديدة من نصيحة أسداها هيكل للرئيس الطالباني. كان كلام هيكل واضحاً وكاشفاً، وكانت نصيحته حادة كالنصل المسنون: لا تتحدّثوا عن تحوّل ديمقراطي عربي حتى لا يغضب منكم الجميع. وجاء "الربيع العربي" بعد قليل ليؤكد أن مرض "الفرار من الديمقراطية" أوسع انتشاراً وأعمق تجذّراً مما بدا لكثيرين. وأن منع التحول الديمقراطي في العالم العربي هو أكثر "التفاهمات الضمنية" رسوخاً في القواعد الحاكمة لسلوك قوى دولية وإقليمية، وأن المطالبة بهذا التحول والتضحية لتحقيقه لن تكونا كافيتين للحصول عليه.
وخلال السنوات التي تلت حربي أفغانستان والعراق (2001، 2003) بدا، ولو ظاهرياً، أن قوى غربية تربط بين الإرهاب وغياب الديمقراطية، وأشعل هذا الربط بين الحرية والاستقرار حروباً كلامية، رسمية وغير رسمية، لها أول وليس لها آخر.. حروب كان محورها ببساطة أن الديمقراطية "جيدة" لكنها "غير مناسبة"!
وكانت الحيلة الأكثر حنكة (عاطفياً) القول إن حدوث التحول الديمقراطي مشروط بحل القضية 
"مرض "الفرار من الديمقراطية" أوسع انتشاراً وأعمق تجذّراً مما بدا لكثيرين"الفلسطينية (وهي حجة أشهر من ردّدها الدبلوماسي المصري عمرو موسى)، وكان من الحجج ذات الدلالة أيضاً أن التحول نحو الديمقراطية "زمنياً" شأن وطني خالص يخضع لـ "الإرادة الوطنية" و"الخصوصية الثقافية"، وكلاهما مفهوم مطّاط يمكن الاختباء وراءه ألف سنة. وعندما تتابعت ثورات "الربيع العربي" مندفعة بقوة دفع تاريخية، لا تصلح لعبة التسويف لاحتوائها، عندئذ انتقل "الفرار من الديمقراطية" إلى ثلاثة أنواع من الخطاب: "الديمقراطية مؤامرة"، "الديمقراطية اجتماعية أولاً وليست سياسية"، "الديمقراطية ستكون ممكنة فقط بعد استئصال "الإسلام السياسي". وهكذا حلَّ ربط الديمقراطية بشرط ممتنع، و"إعادة تعريف الديمقراطية" محل خطاب الديمقراطية بحسب "الخصوصية الحضارية"، مع الإقرار بفضائلها، ومن لا يعجبه التعريف الجديد للديمقراطية بوصفها أي شيء وكل شيء إلا الديمقراطية السياسية، يمكن دعوته إلى حضور جنازة الديمقراطية بعد إعدامها، لأن القول الفصل في شأنها أنها "مؤامرة".
وسواء كانت الديمقراطية "جيدة" ولكن "غير مناسبة"، أو كانت مشروطة بحل القضية الفلسطينية أولاً، فإنها، في المحصلة النهائية، تبدو مضاهاة لقول رب العزة سبحانه وتعالى لآدم وزوجه: "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين". فهي حتى الآن "الشجرة المحرّمة" في الاجتماع السياسي العربي منذ بدأ حكم ما بعد الاستعمار الغربي المباشر، والقناعة راسخة وتتبدّل الحجج المستخدمة للدفاع عنها من دون أن يتقدّم التحول الديمقراطي خطوة واحدة، والمتوافقون في الظلام على هذه "التفاهمات الضمنية" غير المكتوبة داخل المنطقة وخارجها، أكثر تشدّداً مما يرى المتفائلون والموضوعيون، والدفاع المستميت عن الاستبداد بدأ يظهر "أكثر مبدئية" وتجذّراً في القواعد الحاكمة لمسار هذا الحوض الجغرافي المكلوم ومصيره. والمنتدبون لمنع العرب من الأكل من "الشجرة المحرمة" يحرسونها بسيف من نار.
فتذكر نصيحة هيكل حيناً، وتذكر دائماً قول رب العزة سبحانه وتعالى: "والله غالب على أمره".