الرئيسة \  واحة اللقاء  \  علم اللسانيات وجراحات اللسان الديكتاتوري 2/1

علم اللسانيات وجراحات اللسان الديكتاتوري 2/1

21.04.2019
محمد أمير ناشر النعم


سوريا تي في
السبت 20/4/2019
"لأنّ كل الديكتاتوريين سواءً جاؤوا من اليسار أم اليمين،
كفاراً أم مؤمنين، يجندون اللغة لخدمة مصالحهم".
هيرتا موللر
منذ مدة كتب أحد وجوه المعارضة السورية ممن يتبوؤون منصباً مهماً في مؤسساتها منشوراً يتحدث فيه عن (المعلم)، وبدأ كلامه بـ "المعلمون بناةٌ حقيقيون"، وفي 26/ 3/ 2019 أصدر المجلس الإسلامي السوري بياناً بشأن الاعتراف الأمريكي بسيادة كيان الاحتلال على الجولان السوري جاء في مقدمته: "فقد تابع العالم بأسره العربدة السياسية من قبل إدارة ترامب الأمريكية"، وكان إعلام النظام الممانع قبل ذلك بأربعة أيام قد خصّص حلقة إذاعية بعنوان: (الجولان على قائمة العربدة السياسية لترامب)، أما أحد أقرب أصدقائي المعارضين فنشر صورته وهو يتريّض، وكتب: (في الرياضة حياة) مستعيراً مقولة الأب القائد حافظ الأسد!
تحيلنا هذه الأمثلة، وأمثلة عديدة مشابهة لا نطيل بذكرها، إلى تغلغل لغة (حزب البعث) بمفرداتها وتشبيهاتها واستعمالاتها في قاموس خطابنا السياسي والثقافي
إنّ شراهة الديكتاتورية للسيطرة لا تضاهيها شراهة، لأنّها الوقود الأكثر فعالية في إبقائها على قيد التشغيل والديمومة، وإذا كان هنالك سيطرة على الإنسان فهنالك سيطرة على لغته، بل ربما كانت السيطرة على اللغة أحد بوابات السيطرة على الإنسان، وكما أن الديكتاتورية تسيطر على هياكل السلطة لتغدو على مقاسها، وطوع بنانها، فهي تسيطر على المفردات ومعانيها. حقائقها ومجازاتها. تشبيهاتها واستعاراتها. صيغها وأساليبها. مفاهيمها ومصطلحاتها. تمنع كلمات وتستبدل بها غيرها. تسيطر وتشوِّه، وتعبِّئ وتحمِّل، وتزرع بيوض المضامين في تلافيف اللسان لتنتقل إلى الدماغ وتفقس في الوجدان، فهياكل السلطة السياسية تنشئ هياكلها اللغوية التي تناسبها وتلائمها، وتعمِّمها وتفرضها.
أدركت النازية أهمية اللغة، وعلّقت عليها آمالها في التأثير على الشعب أولاً، وانقياده ثانياً. يقول وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز سنة 1936: "لا بدَّ من تجنّب صِيَغ الشعب الكاثوليكي، وأهالي الكنائس والشعب البروتستانتي. لا يوجد سوى شخص ألماني واحد". فالديكتاتورية ستتجنب لغة الشعب وصياغاته اللغوية، وستملأ الفراغ الذي تحدثه بصياغات مستحدثة، وسيسعى غوبلز بعد ذلك في نشر المفردات النازية في الأراضي المحتلة بمساعدة القواميس، وقد كتب في مذكراته سنة 1942: "أقوم بترتيب القواميس للأراضي المحتلة والتي، قبل كل شيء، تحافظ على المصطلحات التي تتوافق مع فكر الدولة الحديث لدينا، والتي تترجم تعبيرات من منطقتنا. هذه دعاية غير مباشرة"، ومن هنا ظهرت، بأعداد كبيرة، القواميس التي كتبها مسؤولون نازيون، مثل: (قاموس ABC السياسي للرايخ الجديد)، أو (قاموس الجيب للاشتراكية القومية).
وقد لاحظت الباحثة اللغوية كورنيليا شنيتر بيرنينغ مؤلفة كتاب (مفردات النازية) (1) في مقال لها نُشر في Bundeszentrale für politische Bildung بعنوان: (السيطرة على اللغة لدى النازية) أنَّ معجم Duden ــ و هو من أهم معاجم اللغة الألمانية ــ قد شهد ظاهرة العبث اللغوي النازي، فلدى المقارنة بين إصداراته قبل سنة 1933 وبين إصدارات سنة 1934 وسنة 1941 سنلحظ ظهور عدد متزايد من المفردات النازية المسجلة حديثاً، وهي تُعدّ بالمئات، كما أنَّ كلمات أخرى ستختفي وتُمحى، وفي المقال نفسه تورد الكاتبة إحصاءات لهذه الكلمات على اختلاف الطبعات، وتذكر العديد من الأمثلة للكلمات المضافة والمحذوفة.
أما الشاعرة والروائية هيرتا موللر التي عاصرت ديكتاتوريةً من أفظع ديكتاتوريات أوروبا في بلدها الأم رومانيا في أيام تشاوشيسكو، ولمست بيدها الآثار المتبقية من ديكتاتورية الحزب النازي في ألمانيا الاتحادية، والحزب الشيوعي الألماني في ألمانيا الديمقراطية، فرصدت لنا أمثلة من تلك التشويهات اللفظية التي مارستها هذه الديكتاتوريات، ففي بلدها كانوا يطلقون على التماثيل الصغيرة من الملائكة التي يزيِّنون بها شجرة عيد الميلاد (تماثيل رأس السنة المجنَّحة) حتى لا يلفظوا كلمة (ملائكة)، ويسمّون الأعلام الصغيرة التي يلوّح بها الناس أمام منصَّات الحفلات الخطابية أو حتى الغنائية (أدوات التلويح)، لأن العَلم مقدّس، ولا يجوز أنْ نقول عنه (العلم الصغير)، وأطلقوا على النعش (موبيليا أرضية) هروباً من الموت الذي ساوى بين أبطال النظام الاشتراكي وأعدائهم.
لقد رأى الفيلولوجيون وعلماء اللسانيات الألمان بعد الحرب العالمية الثانية أنّ استمرار لغة الرايخ في التداول اليومي يهدّد التعايش الاجتماعي
أما في ألمانيا فكانوا يسمون المفرقعات الصغيرة المربوطة بفتيل إشعالٍ طويل ليطلقها الأطفال في ليلة رأس السنة بــ (ضرطة اليهودي)، وقد حكى لها أحد معارفها من جنوب ألمانيا أنّه في "زمن الطفولة بعد الحرب العالمية الثانية كان يتبادر إلى ذهنه أنها (ضرطة لعبة الجودو) لتشابه كلمة يهودي Jude، وكلمة رياضة الجودو Judo في اللغة الألمانية، حتى صار عمره سبعة عشر عاماً، وفي كل سنواته تلك كان يربط بين الجودو وتلك المفرقعات، وحين يطلبها في البيت، وفي الدكان فإنه كان يقول للبائع: أريد شراء (ضرطة الجودو)، ولم يقم أحد عبر كلّ تلك السنين بتصحيح ذلك، لا أبوه، ولا أمه، ولا أي من الباعة الذين باعوه، وعندما اكتشف الاسم الحقيقي للمفرقعة استحى من نفسه معتذراً عن كل صاروخ أطلقه تحت ذلك الاسم في أعياد رأس السنة، خلال كلّ تلك السنوات الماضية، وحين علم باسم المفرقعة المعادي للسامية كان والده قد مات. ورغم أنّ أمه ما زالت على قيد الحياة فإنّه لم يكن قادراً على سؤالها: كيف كانت تستطيع بعد أوشفيتز أن تطلق على مفرقعات عيد رأس السنة تلك التسمية (ضرطة اليهودي)، وبغير كلفة، وكأنّ شيئاً لم يحدث؟!" (2).
إنها أمثلة مختصرة عن تسميم الإنسان المتكلم، ومسخ روحه وقلبه وعقله حين يستعمل تلك التسميات التي تبنِّجه باللامبالة واللامسؤولية، أو تثير فيه نوازع الاستعلاء والكبرياء والاستهزاء والعلو، أما الأشرس من ذلك كله فمَحْقُ الإنسان المؤيد والمعارض على حدٍّ سواء حين كانوا يطلقون أوصافاً ترفع الزعيم فوق الآلهة، فــ ـ "هتلر أعظم من المسيح"، ونظير ذلك قالت الديكتاتورية النازية البعثية: "حلّك يا ألله حلّك يبرك حافظ محلك"، و"حيّدوا نحن البعثية حيّدوا، وحافظ أسد بعد ألله منعبدو".
لقد رأى الفيلولوجيون وعلماء اللسانيات الألمان بعد الحرب العالمية الثانية أنّ استمرار لغة الرايخ في التداول اليومي يهدّد التعايش الاجتماعي، وأنّ هذه اللغة لا تتقبل أن تنحلّ وتذوب بسهولة في سياقٍ ديمقراطي، ومن هنا كانت أولى مهامهم تنقية اللغة الألمانية من هذه الأوضار والأقذار والكلمات والمخلّفات التي زرعتها تلك الأنظمة الديكتاتورية في بدن اللغة، كشوك يؤذي ويؤلم بمجرد ملامسته والتعامل معه.
وسوف نعرض في الجزء الثاني من هذا المقال أهمّ هذه الدراسات التي قامت بتشريح اللغة الديماغوجية للديكتاتورية، وكيف أسهمت وما زالت تسهم في تضميد جراحات اللسان الديكتاتوري.
لقد قال كارل كراوس في شذرة من شذراته مرة: "كل كلمة تغيّر العالم". ولكن إذا كانت هذه الكلمة بنت الديكتاتورية فإنّها لا تغيّره بل تدمّره.
الهوامش:
(1) Cornelia Schmitz-Berning, Vokabular des Nationalsozialismus. (Brlin: Walter de Guyter GmbH & Co. KG,2007). (2)
انظر: هيرتا موللر، الملك ينحني ليقتل. ت: وحيد نادر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، سنة 2011، ص 54).