الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بين مدينتين

بين مدينتين

13.04.2019
ميخائيل سعد


جيرون
الخميس 11/4/2019
كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط”.
بهذه الكلمات، قدّم الروائي الشهير تشارلز ديكنز روايته التاريخية (بين مدينتَين) التي تحدث فيها عن بعض الأحداث التي دارت إبّان الثورة الفرنسية، وحركة بعض أبطال الرواية، بين باريس ولندن، وصوّر، بشكل خاص، محنة الفقراء تحت القمع الوحشي للأرستقراطية الفرنسية، كما صوّر الوحشية التي مارسها بعض “الثوار” ضد الطبقة الأرستقراطية، في السنوات الأولى للثورة.
شعرت، وأنا في المقدمة التي كتبها الروائي الإنكليزي، بأنني أقرأ وصفًا للثورة السورية، التي ما تزال فصولها تتتابع في سورية ودول الجوار حيث لجأ السوريون، ومن هذه الدول تركيا التي لجأ إليها أكثر من ثلاثة ملايين سوري، استقر أكثر من نصف مليون منهم في إسطنبول، كما تقول الروايات الشفوية.
لم يخطر في بالي أن أُقلّد “ديكنز”، على الرغم من التقاطعات بين الثورتين، فأنا لا أتمتع بأي موهبة في هذا المجال، ولكن ما إن صعدت إلى الطائرة المتجهة من مونتريال (مدينتي الأم) إلى إسطنبول (المدينة المُتخيلة)، حتى بدأت الأسئلة تعصف بمتعي الذهنية، وتجبرني على فصل المتخيل من الأحداث عن الحقيقي منها.
منذ ثلاثين عامًا، أنا أحلم بالتنقل بين مونتريال ودمشق، ولمّا لم يتحقق ذلك، نتيجة استمرار حالة القمع التي أسس لها حافظ الأسد وتابعها ابنه الحالي بشار، ضد المجتمع السوري، فقد وجدت في إسطنبول، وكانت قد أصبحت سوريّةً “بسكانها”، بديلًا غير “مُكلف بشريًا” من دمشق، وهكذا بدأت رحلاتي السنوية، بين مونتريال وإسطنبول، منذ أواخر 2013.
لم يشدني مؤتمر المعارضة السورية، الذي دُعيت إليه عام 2013، فقد كرس الصورة السلبية التي ارتسمت في ذاكرتي عن المعارضين السوريين، منذ مؤتمر جبهة الخلاص، في لندن (حزيران 2006) الذي كنت قد حضرته ممثلًا عن الجمعية الوطنية السورية في مونتريال، ولكني وقعتُ فورًا تحت تأثير سحر الآثار البيزنطية والإسلامية المنتشرة في إسطنبول، واكتشفت أنني لا أعرف شيئًا عنهما، فقررت أن لا تكون زياراتي القادمة للمدينة تحت غطاء سياسي، وإنما معرفي؛ تاريخي واجتماعي، ولكن كلّ يوم تمضيه -كسوري- في إسطنبول يعني أنك في قلب السياسة السورية ودماء السوريين، من دون أن تتلون ثيابك بالأحمر.
وكما أن الثورة في رواية ديكنز كانت حاضرة، عبر شخصياتها، في باريس ولندن، كذلك كانت الثورة السورية، التي وصلت إلى كل بقعة في العالم مع السوريين. عدد السوريين التقديري في المدينة الفرانكوفونية يقارب أربعين ألفًا. في مونتريال انقسم الناس بين مؤيد للنظام ومناصر للثورة، وكانت مناسبة لفرز الناس عن بعضهم، ففي التظاهرة الأولى المؤيدة للثورة كان عدد السوريين والسوريات 18 إنسانًا، وعلى الرصيف المقابل، كان مؤيدو النظام بالمئات. مع مرور الوقت ازداد أنصار الثورة، ووصل إلى ما يقارب 1500 شخص، في أكبر تظاهرة استطاعوا حشدها، وتراجع الحضور المؤيد للنظام إلى أن تلاشى من الشوارع. وبعد سنوات، وصل الأمر بأنصار الثورة إلى أنهم تخلوا عن دعوة الناس للتظاهر في الذكرى الثامنة للثورة، وعندما سألت أحد الشباب، الذي كان من بين الأكثر حماسًا في التظاهرات، عن غيابهم، قال: “إنه الإحباط، والإحساس باللاجدوى”. وقالت إحدى السيدات: “للأسف، الثورة مزقت السوريين بدلًا من أن تجمعهم”. أحد المعارف قال: “المستفيد الأكبر من سنوات الثورة كانوا جَمَعَة الأموال (التبرعات)، فقد أفرغوا جيوب الناس بواسطة الشعارات الحماسية الدينية، جمعوا ملايين الدولارات ثم اختفوا، لا أحد يعرف إلى أين وصلت تلك الأموال”!
في “إسطنبول السورية”، كان الأمر مختلفًا، فعدم معرفتي باللغة التركية جعل زياراتي للآثار الإسلامية والبيزنطية “بصرية” بحتة. في السنتين الأوليتين (14 – 2015) زرت عشرات المواقع الأثرية، والتقطت آلاف الصور لها. وفي مونتريال التي بقيت فرانكوفونية، على الرغم من وصفها من قبل عضو مجلس دائرة أنجو البلدي بأنها أصبحت “مدينة إسلامية”، شاهدت عشرات المسلسلات التركية التاريخية والمعاصرة، بهدف فهم أفضل للشعب التركي، إلا أنني لم أفهم إلا ما أردت فهمه، وقد يكون ذلك نتيجة نظرة السائح “السطحية البصرية” للناس والآثار.
كانت دائرة السوريين تتسع حولي، مع كل زيارة، فتغريني بالابتعاد عن الآثار، على الرغم من تناقص عددهم في المدينة، لأسباب متعددة منها إغلاق الحدود التركية بوجه السوريين، وتسرب عشرات الآلاف منهم إلى أوروبا، برًا وبحرًا وجوًا، ومَن وصل منهم حيًا عاش وبدأ يتأقلم رغم الصعوبات النفسية التي يعانيها الإنسان الذي يُقتلع من ترابه ويُزرع في تربة جديدة. ملايين السوريين الذين اقتنعوا بأن إقامتهم ستطول في تركيا بدؤوا يعبّدون الطرق المؤدية إلى استقرار دائم، فبدؤوا بتعلّم اللغة التركية، مكتشفين في الوقت ذاته أساليب “التجار” السوريين؛ سياسيين ورجال دين، لاستثمار وجودهم، فنقلوا أولادهم من المدراس “السورية” والجامعات السورية الافتراضية، التي كانت عبارة عن “غيتو مالي”، إلى الفضاء التركي
في مونتريال، مع تراجع “الثورة”، بدأت دائرتي تضيق، فقد خسرت الصداقات القديمة التي وقفتْ ضد فكرة الثورة، ولم أستطع التوسع في الوسط الداعم للثورة، فهناك الكثير من الحواجز التي لم تستطع الثورة كسرها، وخاصة علي المستوى الاجتماعي والديني، فبدأت تنغلق بدورها على نفسها، وانكفأت على علاقاتي الافتراضية في وسائل التواصل، ولكنها بقيت “افتراضية” إلا في ما ندر.
كان ما يحدث في تركيا والغرب، وتحديدًا في إسطنبول ومونتريال السوريتين، انعكاسًا لما يحدث في سورية، وكنتُ أشاهد ذلك على كل المستويات. وكان دائمًا يصح الاستشهاد بما كتبه ديكنز، في مقدمة روايته “قصة مدينتين”:
كان أحسن الأزمان، و كان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط”.
وكانت مأساة السوريين وموتهم من أجل الحرية.