الرئيسة \  واحة اللقاء  \  طيب تيزيني… المفكر الذي نعاه جلّ السوريين

طيب تيزيني… المفكر الذي نعاه جلّ السوريين

21.05.2019
زينة شهلا


القدس العربي
الاثنين 20/5/2019
دمشق ــ من زينة شهلا: في صمت وهدوء، وعن عمر يناهز خمساً وثمانين عاماً، رحل فجر يوم السبت المفكر والفيلسوف السوري طيب تيزيني في مدينته حمص، بعد رحلة طويلة من الصراع مع المرض، ونعاه آلاف السوريين واصفين وفاته بالخسارة التي لا تعوّض.
عُرف عن تيزيني نشاطه المكثف على المستوى الفلسفي والثقافي، ومساره الفكري الذي يقوم على نقد الطروحات السائدة ومراجعتها وتطويرها، بما يتناسب مع طبيعة المجتمع والواقع المعاصر، حتى أنه صُنّف عام 1998 كواحد من أهم مئة فيلسوف في العالم للقرن العشرين، من قبل مؤسسة كونكورديا الفلسفية الأوروبية، وله عشرات المؤلفات الخاصة والمشتركة، وأيضاً المقالات والأبحاث التي أضافت للمكتبة العربية الكثير.
وعلى عكس النشاط الذي اتسمت به حياة تيزيني لأعوام طويلة، أُقيمت له جنازة صغيرة لا صخب فيها، ودُفن في واحدة من مقابر مدينته الصغيرة، وبحضور لم يتجاوز مئة شخص، هم كل من بقي من أقرباء وأصدقاء الراحل في البلد الذي تمزقه الحرب منذ سنوات.
البداية والنشأة والمسار
وُلد طيب تيزيني في مدينة حمص عام 1934، ونشأ في كنف عائلة عُرف عنها اهتمامها بالثقافة وحرية الفكر، وفي الوقت ذاته التدين، فقضى سنوات حياته الأولى وهو يستمع لنقاشات المثقفين والمفكرين ورجال الدين، ممن يرتادون منزل والديه الذي كان أشبه بملتقى فكري، ما أتاح له الانفتاح على تجارب وآفاق كانت بمثابة بوّابة لحياته وأعماله في ما بعد، وفي الوقت ذاته علّمته التواضع وضرورة الاستماع لكل وجهات النظر. أنهى مراحل الدراسة الأساسية في حمص قبل أن ينتقل إلى دمشق لدراسة الفلسفة في جامعتها، ثم خارج سوريا لمتابعة تعليمه العالي، حيث حصل عام 1967 على دكتوراه في الفلسفة، ومن ثم الدرجة الأستاذية في العلوم الفلسفية عام 1973 من ألمانيا، ونشر طروحات تخرجه باللغة الألمانية وكانت تتمحور حول الفلسفة العربية الوسيطة.
المحطة التالية في حياة تيزيني كانت بعودته إلى سوريا، وعمله في جامعة دمشق كأستاذ للفلسفة. يتذكر كثير من الطلاب والمدرّسين تلك السنوات التي تحوّلت فيها مدرجات الجامعة من مجرد مكان لتلقين المحاضرات والدروس، إلى مساحة حرة من النقاشات والحوارات المنفتحة، حتى أن طلاباً من كليات أخرى كانوا يحرصون على التواجد أثناء محاضرات تيزيني، التي تميزت بغنىً فكري قلّما عرفوه، وأيضاً بشخصية الأستاذ المتواضع والمقرّب من الجميع.
أما في مجال التأليف والكتابة، فكانت البداية من دمشق مع كتاب "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" الصادر عن دار دمشق عام 1971، ومن ثم دراسة حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث في العام نفسه، وتبعتها بعد ذلك عشرات الكتب والمؤلفات والأبحاث والمقالات الصادرة في سوريا ولبنان بشكل أساسي، ومنها "من التراث إلى الثورة: حول نظرية مقترحة في التراث العربي" و"الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى" و"مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر" و"من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني" و"بيان في النهضة والتنوير العربي". وطُبعت معظم هذه الأعمال عدة طبعات، وتميزت في معظمها بكونها عبارة عن سلاسل من الكتب التي تتحدث كل واحدة منها عن موضوع معين ضمن عدة أجزاء.
ركّزت مؤلفات وأبحاث طيب تيزيني على محاور عدة، منها قضية النهضة وما يقف في طريقها من عوائق ذاتية وخارجية، والفكر العربي ومراحل تطوره قبل وبعد ظهور الإسلام، ومراجعة أسس التراث العربي، والسياسة والفكر السياسي العربي في التاريخ العربي بشكل عام.
إضافة لذلك، كانت لتيزيني تجربة سياسية مع بعض الأحزاب اليسارية السورية في بداية سنوات دراسته في سوريا، وكانت مرحلة قصيرة، لكنه وصفها في إحدى حواراته بأنها "قدّمت له تجربة عميقة سعى للتنظير لها في إطار الفكر السياسي العربي، لكنه فضّل بعدها العودة للعمل الفكري، خاصة بصيغة الفكر السياسي". وانخرط أيضاً في العمل الحقوقي، حيث كان عضواً في لجنة الدفاع عن الحريات في الوطن العربي منذ عام 2001، وساهم في عام 2004 بتأسيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان "سواسية" وشغل منصب عضو مجلس إدارتها.
مسار فلسفي وفكري خاص
ركّزت مؤلفات وأبحاث طيب تيزيني على محاور عدة، منها قضية النهضة وما يقف في طريقها من عوائق ذاتية وخارجية، والفكر العربي ومراحل تطوره قبل وبعد ظهور الإسلام، ومراجعة أسس التراث العربي، والسياسة والفكر السياسي العربي في التاريخ العربي بشكل عام. وكان للمفكّر الراحل مسار فلسفي خاص، فرغم ميله للفكر والرؤية الماركسية والمنهج المادي، إلا أنه كان منفتحاً على كل المشارب الفكرية، حيث اعتبر بأن تجاوز أي اتجاه أو مرحلة هو بمثابة خطأ فكري وتاريخي لا يُغتفر. وكان مشروعه يعتمد على إعادة قراءة كل الرؤى من منظوره الخاص، فهو على سبيل المثال تخلّى عن مبدأ الصراع الطبقي الماركسي، وركّز أكثر على الطيف الواسع الكلي للمجتمعات، واعترف بتأثير التجارب الدينية والإيمانية على المجتمعات وتحوّلاتها ـ الأمر الذي يستبعده الفكر الماركسي- واهتم بدراسة تلك التجارب وفهمها من الداخل. وركز تيزيني في أعماله على أصالة الفكر العربي وتميزه بعيداً عن التأثيرات الخارجية خاصة الغربية، وكان يوصف بأنه من حاملي الهم العربي، والساعين لإحداث نهضة وترسيخ مكانة الثقافة والفكر العربيين، في مناخ يعاني من ضيق الأفق والهوامش السياسية لدرجة كبيرة، إلى حد انعدامها في معظم الأحيان، وفي مجتمعات يتفشّى فيها الفساد على كافة المستويات.
ماذا قال السوريون
في نعيه؟
منذ عودته إثر إنهاء دراسته استقر طيب تيزيني في سوريا، حيث أقام في دمشق وعمل فيها، ثم عاد في عام 2012 إلى مسقط رأسه حمص، التي يعتبرها "المبدأ والمنتهى في حياته"، وبقي فيها حتى مماته. وشهد المفكّر الراحل التحوّلات العميقة التي أصابت سوريا بعد عام 2011 وراقبها عن كثب بكل أسى، فأطلق عليها تسمية "الهبّة" و"التحوّل الكبير"، ورأى في إحدى المقابلات معه نهاية عام 2011 بأنها لم تأت من خارج التاريخ، وإنما هي نتيجة تراكم تاريخي وتحوّلات هائلة كانت تحدث تحت الأرض، وتحت الرماد، وإن كان الصمت يغلّفها من الخارج. وذرف بعد ذلك الدموع على موت أبناء حمص عند ساعتها القديمة في شهر إبريل/نيسان 2011 ومن ثم حزن على كل السوريين، وكان يقول على الدوام بأن "الرصاص يجب أن يكون حراماً على كل سوري".
قال تيزيني في حوار معه عام 2017 بأن "سوريا تحترق وتدمر وتكاد تصبح وطناً بدون مواطنين".
ومع ارتفاع وتيرة العنف في كافة أنحاء البلاد، قال تيزيني في حوار معه عام 2017 بأن "سوريا تحترق وتدمر وتكاد تصبح وطناً بدون مواطنين". ومع ذلك كان يأمل بأن تتوقف الحرب لتخرج البلاد من رمادها، وتعيد بناء نفسها بقوّة أبنائها الذين لا بد أن يعودوا إليها، لكن المنية وافته قبل أن يرى حلمه الأخير محققاً. وإثر رحيله، نعاه المئات من الصحافيين والكتاب والمفكّرين، وأيضاً ممن عرفوه على المستوى الشخصي والأكاديمي، وأكدوا فداحة خسارة سوريا لشخص بمكانته وثقافته وعلمه، وهي خسارة تشمل جميع السوريين بدون استثناء، فبدا بأن يوم وفاة تيزيني وحّد حال السوريين وأوجاعهم، ولو لأمد قصير، فاجتمعوا على احترام مكانة المفكر والحزن لرحيله، سواء اتفقوا أم اختلفوا مع آرائه وطروحاته.
ومما كتبته شخصيات سورية وعربية عقب وفاة تيزيني: "اليوم ينغلق بابٌ من أبواب حمص، وتهوي شرفة من شرفات سوريا، ويمضي عنا من لا يمكن للموت تغييبه". "اليوم رحل أحد دعائم الفكر التنويري العربي". "اليوم رحل الفيلسوف والإنسان وداعية التغيير السلمي والتحول الديمقراطي والإصلاح من الداخل". "يثير الاحترام في الراحل تواضعه، ليس فقط بالمعنى الإنساني كما يشهد من يعرفونه شخصياً، بل بالمعنى الفكري". "قال تيزيني "قيمتك تأخذها من الآخر الذي يخالفك، وليس ممن يوافقك الرأي، وعندما تفقد خصمك تفقد ذاتك". رحمك الله". "اختلاف الرأي المنتج هو ما نحتاجه لتطوير واقعنا ولإبداع نظريات معرفية اجتماعية سياسية تناسب حاجاتنا، فالاختلاف حياة والرأي الواحد جمود وموت. رحم الله رواد الفكر الذين أمضوا حياتهم قابضين على جمر المبادئ حالمين بوطن تسوده العدالة والسعادة".
وفي حديث لـ"القدس العربي"، أشار الفنان السوري منير الشعراني إلى احترامه لأخلاق وسلوك ونظافة ومواقف المفكّر الراحل، التي يعرفها عنه القاصي والداني، وأضاف: "رغم معرفتي المحدودة بطيب تيزيني ولقاءاتنا القليلة التي لم تتح لنا المجال للحوار المباشر، إلا أن عطاءه مليء بالنقاط المضيئة والمهمة والمحورية التي لا نملك سوى احترامها وإن اختلفنا معه في بعض الرؤى".
وأشار عبد الباسط فهد، وهو رجل أعمال من حمص وصديق لتيزيني، إلى "الخسارة الفادحة برحيل هذا الإنسان الطيب الأصيل البسيط المتواضع، الذي كان يمشي على حد السكين، وهي خسارة للإنسانية وكل الأصوات المنادية بالحرية في العالم". ونشر فهد صوراً من جنازة تيزيني في مقبرة تل النصر، التي اقتصرت على بعض الأصدقاء والمعارف، وكتب "رحل آخر الطيبين. حمص تودّع طيبها"، وأضاف في حديث مع "القدس العربي" بأنها كانت "جنازة متواضعة جداً لا تمثيل رسمي فيها من أي هيئة مدنية أو أكاديمية"