الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أين الخلل؟

أين الخلل؟

17.02.2019
سلام الكواكبي


جيرون
السبت 16/2/2019
علّقتُ على حدثٍ جزائري سياسي بامتياز؛ فانهالت علي صديقة افتراضية من الجزائر بالنقد الشديد الذي جارى الشتائم المبطنة في صياغته. وبسذاجة افتراضية أيضًا سعيتُ لتوضيح التعليق والإشارة إلى أن الأمر لا يتعلق بـ “الشعب” الجزائري وإنما بممارسات تُرتكب في الجزائر، ولكن كان سعيي عبثًا، إذ لم تُرد السيدة أن تكلّف خاطرها إعادة التفكير بما أورَدْتُ أنا من مفردات في تعليقي البسيط، واعتبرَت أنني أهاجم شعبًا بأكمله وأمّةً قدّمت أكثر من مليون شهيد لتحرير أرضها! وفي مناسبة أخرى، تطرّقت إلى الوضع المصري الكارثي، واستبداد السلطة الانقلابية العسكرية القائمة؛ فتنطّح لي صديقٌ مصري افتراضي، معتبرًا أن ما ورد على لساني يحمل إهانة لشعب عظيم لديه حضارة ترجع بنا آلاف السنين. وعبثًا أيضًا حاولت أن أشرح له الفارق بين شعب بمجمله ووطن بكامله من جهة، وقيادي سياسي أو أمني أو عسكري مستبد، وصل إلى سدة الحكم بانقلاب عسكري وما فتئ يفتك بمعارضيه من جهة أخرى. وفي استعراضٍ مكتوبٍ لانتهاك إنساني اقترفته سيدة خليجية بحق مدبرتها المنزلية الأجنبية، انبرى لي صديقٌ افتراضي خليجي معتبرًا أن كلامي يحمل إهانات مبطّنة لتقاليد وعادات شعب بأكمله، وأن في هذا إساءة، خصوصًا أنني “أدّعي” العلمية والموضوعية، كباحث في العلوم السياسية. وحصل أن انتقدتُ تصرّف نواب أردنيين، شاهده ملايين البشر على شاشات التلفزيون، حيث جرت معركة -أو أكثر- بينهم لأسباب مضحكة، فاعترض صديقٌ افتراضي من الأردن، واعتبر أنني أوجّه نقدًا قاسيًا للعشائر الأردنية، وأنني تعرّضت إلى رموزها الممثلة في البرلمان إياه، وسخرت منهم!
ولأخذ جانب حسن النية والابتعاد من سوء الظن؛ يمكن للكاتب الذي عبّر عمّا يجول في خاطره بعيدًا عن التعميم الساذج وعن الاتهامات المجانية وعن العبارات الجارحة وعن التلميحات الجنسوية أو الطائفية أو العرقية، من جهة، وعن توسيع رقعة النقد لتطال مجتمعًا بأكمله أو قبيلة أو دينًا أو مذهبًا أو منطقة أو عرقًا من جهة أخرى؛ من المحتمل أن ضرورة الاختصار والاقتضاب في التعبير افتراضيًا، يمكن أن تحمل على عدم فهم نصٍ ما أو إساءة فهمه. ومن الممكن أن تكون القراءة السريعة لما يهرف به أحدنا، تدفع إلى استنتاجات لا حول لنا ولا قوة في اجتراع مقوماتها، ويقع تفسيرها المبستر أو المشوه على عاتق المتلقي. كما أن من المعقول أن تكون لحظة كتابة المقطع، المختصر حتمًا، نابعة من ردة فعل عصبية، لم يقم الكاتب بحسب حسابٍ لأبعادها التأثيرية والتواصلية، ولم يأخذ في عين الاعتبار مستوى الاجتهاد المتطور للغاية -في الاتجاه السلبي غالبًا- في الوسائل الافتراضية، الذي جعل منها مساحات تبادل قذاف كلامية مشبعة بالعطر من الشتائم.
بالمقابل، يعزُّ على من يُلقي بالمحاذير الكثيرة في عرض البحر، ويخوض الأمواج الافتراضية بحثًا عن معرفة أو تقاسم رأي أو تعبير وجداني شخصي، يعزُّ عليه أن يقع في مصيدة الفهم الخاطئ أو أمام محاكم التفتيش الافتراضية التي يحلو لها أن توزّع صكوك الوطنية والإنسانية، كما رغبت أصابع أصحابها القابعين ليل نهار خلف شاشاتهم. وبالتالي، تتكرر الانسحابات بأقل الخسائر الممكنة للعاقلين من المجال الافتراضي. وتدور فكرة الانسحاب الهادئ في مخيلة أكثر من متردد، ولكنهم يعدلون في الثواني الأخيرة، محاولين إقناع الذات بأن هذا السوء الافتراضي ليس إلا جزءًا يسيرًا من مشهد عام كامل، فيه السلبي والإيجابي.
في الشأن السوري، التخندق أشد مرارة محليًا وإقليميًا؛ فمحليًا، إن ذكر أحد السجناء السابقين مكان ولادة وترعرع جلاّده، فهو حتمًا سيقع في براثن أهل المنطقة المشار إليها، وسيتم اتهامه بما لذ وطاب من حلويات أفواهٍ افتراضية تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على ضحاياها. وإن انتقد أحدُنا، ولو كان كرديًا، تجاوزات (قوات سوريا الديمقراطية) في مناطق سيطرتها؛ فسيقع في براثن الكثر ممن سيعتبرونه عنصريًا ومعاديًا لحقوق الشعب الكردي المشروعة في تقرير المصير. وإن التفت أحدنا إلى تحالف رجال الكنيسة، المعينين أمنيًا، مع السلطة الاستبدادية، فلن يتأخر الوقت ليخرج له من يتهمه بالطائفية. وإن حلّلت سياسة كارثية لحزب إسلامي على المشهد الوطني، فأنت معادٍ للإسلام بكل بساطة، ولن يتوانى الكثر عن التعرّض لك بسمفونيات الكلام التكفيري. وإقليميًا، فإن انتقدت تصريحات رسمية لبعض الساسة اللبنانيين ذات المحتوى العنصري بحق السوريين، وصلت روائحها الى شواطئ قبرص، فأنت ستُصنَّفُ فورًا معاديًا للشعب اللبناني عمومًا.
في محاولة إسقاط تلك التجربة على مجتمعات غربية، فمن النادر أن يعتبر فرنسي أو ألماني أو بريطاني، إذا تطرق نصٌ ما إلى انتقاد سياسات بلده أو حكومته أو تصرفات مجتمعية بعينها أو ممارسات بعينها، ذلك الانتقادَ هجومًا ضد مجمل السكان، ولن يتنطح لك مدافعًا عن أمته العظيمة، ومستهجنًا جرأتك وانتقادك بعض الممارسات فيها. ولك أن تكتب معلقات مليئة بالانتقادات، بحق سياسي أو سياسة أو تصريح أو فعل عام أو تصرّف فردي أو جماعي، ولن تجد فرنسيًا واحدًا أو ألمانيًا واحدًا أو بريطانيًا واحدًا، بحسب جغرافية هدفك الذي كتبت عنه، يتعرّض لك بالشتائم والعصبية، ليتهمك بأنك تمس المقدّس الوطني أو سواه. فأين الخلل؟!