الرئيسة \  دراسات  \  حزب الله اللبناني في مواجهة الاستحقاقات المؤجلة

حزب الله اللبناني في مواجهة الاستحقاقات المؤجلة

25.06.2016
مركز حرمون للدراسات




وحدة دراسة السياسات - 18-6-2016
شكّل مقتل مصطفى بدر الدين، القائد العسكري والأمني في حزب الله، ومنسّق عملياته في سورية، في الثالث عشر من شهر أيار/ مايو الماضي، والغموض الذي رافق الإعلان عن طريقة مقتله، مؤشرًا على المأزق الذي وصل إليه هذا الحزب، والحرج الذي وجد نفسه فيه؛ بسبب تدخله العدواني في سورية. ومن الملاحظ أن الخسائر التي تكبدها، من وراء هذا التدخل، ألقت بظلالها على علاقته بالحاضنة الشيعية التي يستند إليها، حيث أخذت تكثر التساؤلات، يومًا بعد آخر، حول المصير الذي ينتظره، أو ينتظر الدور الذي وُجد من أجله.
أولًا: حزب الله.. إشكالية النشأة وتحوّلات الدور
ظهر حزب الله اللبناني مطلع ثمانينيات القرن الماضي، في عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتصفية الوجود الفلسطيني في الجنوب، وتشتيت قوى منظمة التحرير خارج لبنان. لم ينشأ بذاته، بل كان دمجًا لعدة تنظيمات شيعية صغيرة، كانت تقاتل إلى جانب المنظمات الفلسطينية، ثم راح يتوسع على حساب حركة أمل الشيعية، التي كانت تشكل الذراع العسكري لحركة المحرومين الشيعية التي أسسها موسى الصدر.
لا يخفى على أحدٍ من متابعي الصراع العربي – الإسرائيلي، الإرادة الإيرانية والسورية المشتركة وراء بروز حزب الله وتمدّده، وإحالته جميع المقاومين اللبنانيين والعرب في لبنان إلى التقاعد النضالي، واحتكاره فكرة المقاومة، وتوليه، بالتالي، اعتمادًا على العنصر الشيعي الخالص، مهمة “مقاومة إسرائيل”، مع إبقائه على (حركة أمل)، لكن في حدود ضيقة ومرسومة.
تكفّلت إيران بكل صنوف الدعم، المادي والعسكري، وما يتبعهما، لهذا الحزب، في حين تكفّل الوجود السوري في لبنان، الذي بات يُعرف لاحقًا بنظام الوصاية السوري، بلجم الأطراف اللبنانية والفلسطينية كافةً، التي كان لها فضل السبق في تبنّي نهج المقاومة في مواجهة إسرائيل، وفي تحويله إلى واقع على الأرض؛ لضمان تفرّده بلبنان، وللحفاظ عليه شريانًا حيويًا لإمداد الحزب بالسلاح الآتي من إيران. ولعلّ أهمّ دعمٍ قدمه النظام السوري، أحد راعيي اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، لحزب الله، هو استثناء سلاحه من عملية نزع سلاح الميليشيات المتصارعة، وتسليمه للدولة اللبنانية؛ وبذلك تمت شرعنة سلاح الحزب تحت ذريعة مقاومة إسرائيل التي تحتل الجنوب. ولأول مرة تكفّ دولة، بماهي دولة، عن احتكار أداة القوة، لتشاركها فيها ميليشيا تفترض تبعيتها القانونية.
عمل حزب الله منذ البداية على تأسيس وبرمجة نشاطه، بحيث لا يقتصر على البعدين السياسي والعسكري؛ فكان حريصًا على توسيعه ليشمل الخدمات الاجتماعية، من صحة وتعليم، وأعمال تجارية ومصرفية أيضًا، وخصّ، بنشاطه والخدمات، بيئته الشيعية؛ لضمان ولائها والتحكم فيها، ثم عمل، في ما بعد، على مدّ نشاطه الاقتصادي، المشروع منه وغير المشروع، إلى قارات الأرض الخمس؛ لتأمين الموارد المالية المتزايدة، طردًا مع توسّع مهماته داخل لبنان وخارجه.
ثانيًا: محطات مفصلية في مسيرة حزب الله
1 – الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب
في حزيران/ يونيو 2000، انسحبت إسرائيل -بقرارٍ أحاديّ الجانب- من جنوب لبنان؛ تنفيذًا للقرار الأمميّ رقم 425، وتحت ضغط المجتمع المدني في إسرائيل (حركة أمهات الجنود الإسرائيليين في جنوب لبنان مثالًا)، وتماشيًا مع الشعور الإسرائيلي بعدم جدوى استمرار احتلال تلك البقعة ما دام مكْلفًا؛ فشكّل هذا الانسحاب نقطة تحوّل أساسية في دور واستراتيجية حزب الله.
فقد استدار الحزب نحو الداخل اللبناني، في مسعًى؛ لتوظيف “إنجازه التحريري” في تكبير دوره السياسي في الدولة والمجتمع؛ فخاب ظنّ الكثيرين ممن أملوا بأن يتحول حزب الله إلى حزب سياسي، يشارك في الحياة السياسة للبنان، أسوةً بالأحزاب اللبنانية الأخرى، اعتقادًا منهم أن انسحاب إسرائيل يحتّم انتفاء مبرر المقاومة. فما كان من حزب الله وداعميه، إلا أن ربطوا فعل المقاومة بمزارع شبعا التي لم يشملها “الخط الأزرق” الذي رسمته الأمم المتحدة؛ ذلك أن النظام السوري رفض الاعتراف بلبنانيّة مزارع شبعا وقرية الغجر؛ فلم يشملهما “الخط الأزرق”، كما رفض ترسيم الحدود السورية – اللبنانية. وهكذا بقي مصير شبعا معلقًا. هذا، إضافة إلى تذرّع الحزب بالقرى اللبنانية السبع، التي ضمتها إسرائيل في عام 1948، وبحماية حقوق لبنان في نفط وغاز البحر المتوسط.
راح حزب الله يُظهر وجهًا مختلفًا عما كان يحرص على الظهور به؛ فقد فرض على الدولة والمجتمع اللبنانيين معادلة “الجيش والمقاومة والشعب” التي عنت -موضوعيًا- أن الدولة اللبنانية لم تعد صاحبة السيادة على أراضيها، كما لم تعد صاحبة قرار السلم والحرب؛ فكانت تلك بدايةً لمرحلة صعبة وطويلة، تآكلت معها سيادة الدولة اللبنانية، وأصبحت مع الزمن شكلًا بلا مضمون، نظرًا لتراجعها في مضمار القوة، الذي وضعه حزب الله على طاولة الحوار الوطني، بطرحه وثيقة الاستراتيجية الدفاعية المكونة من 250 صفحة. استنفر هذا التحول الأطراف اللبنانية الأخرى، وزاد في توجسها من توجهاته، علاوة على أن الأطراف المسيحية الرئيسة، في لبنان، كانت مبعَدة عن العملية السياسية؛ لأنها لم توافق على الطائف، الأمر الذي خلق استقطابًا عميقًا، عبّر عن نفسه بأشكالٍ وطرقٍ عديدة، على الرغم مما سعت له “الحريرية”، من امتصاص لهذا الاستقطاب وتبريده؛ بتحمّلها تبعات الحروب الخاطفة، والمدمّرة، التي شنتها إسرائيل في أعوام 1996 و1998 و2006، على التوالي، وكان حزب الله صاحب قرار الحرب فيها.
2- اغتيال الحريري وانتفاضة الأرز
في الرابع عشر من شباط/ فبراير 2005، وقعت واحدة من أكبر عمليات الاغتيال السياسي في التاريخ المعاصر؛ فقد قُتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وثمانية عشر آخرين من مرافقيه، في تفجير ضخم ومعقد، ليس في قدرة غير الدول القيام به؛ فهزّ اغتيال الحريري -بهذه الطريقة- لبنان والمنطقة بأسرها.
خرج اللبنانيون بانتفاضةٍ فاجأت المنطقة الراكدة؛ بحكم مفاعيل الاستبداد، ومناخ الهزيمة السائد. انتفاضة أفضت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، بعد ثلاثين عامًا من السيطرة المباشرة؛ تنفيذًا للقرار الأممي رقم 1559، وترتيبات اتفاق الطائف، التي كثيرًا ما تجاهلها نظام الوصاية في لبنان. لكن السبب الأهم وراء تسريع الانسحاب، كان الطلب الأميركي الحاسم.
لقد بيّنت الأحداث اللاحقة أن وجود الجيش السوري في لبنان، لم يكن سوى قمة جبل الجليد، الذي كان يخفي حجم التحكم الأمني السوري في مفاصل الحياة اللبنانية، التحكم الذي يغدو معه مصطلح نظام الوصاية السوري الذي يردّده اللبنانيون -بكل ما يختزنونه من قهر-  بليغًا ومفهومًا. لقد لعب حزب الله هذا الدور -بالوكالة- بعد انسحاب الأصيل.
توجّهت أصابع الاتهام إلى النظام السوري. ولم يتوقع أحد -في البداية- أن حزب الله يمكن أن يتورط في عملية من هذا النوع والحجم في لبنان.
لقد شُكّلت، بموجب قرارٍ دوليّ، محكمة دولية خاصة؛ للتحقيق في مقتل الحريري، وسائر الاغتيالات اللاحقة، التي طالت رموزًا سياسية وإعلامية لبنانية بارزة، وكانت غايتها إجهاض تيار الاستقلال الذي دشنته انتفاضة الأرز، والتغطية على الجريمة الأصل، وتشتيت التحقيقات، ولم تنهِ المحكمة أعمالها حتى الآن، لكنه بات واضحًا أن هناك من أصدر القرار، في حين تولّى حزب الله العملية كاملة، تخطيطًا وتنفيذًا. وقد صدرت أول مذكرة اتهامٍ بحق أربعةٍ من أعضائه، تجري محاكمتهم غيابيًا، بعد أن رفض تسليمهم.
3 – حرب تموز/ يوليو 2006
أقدم حزب الله على أسر ضابطٍ إسرائيليٍّ في مزارع شبعا، وهو ما عدّته إسرائيل مبرّرًا كافيًا لشنّ حربٍ على لبنان، ألحقت دمارًا واسعًا في البنيان والبنية التحتية، في الضاحية الجنوبية من بيروت، وسائر الجنوب، ودفعت مئات ألوف اللبنانيين إلى الهجرة الموقّتة نحو سورية، ونحو الشمال اللبناني، واضطُر حزب الله، بعد ثلاثة أسابيع من تلك الحرب، إلى القبول بالقرار الأممي رقم 1701، الذي قضى بحرمانه من تواجده العسكري في ما بعد الليطاني، وبتوسيع مهمة وعديد قوات اليونيفيل الأممية؛ لمراقبة تنفيذه.
لم يعدم حزب الله، وآلته الإعلامية، الادّعاء بأنه حقق “نصرًا إلهيًا”، لكن بعيدًا من الادعاءات، شكّلت حرب تموز، وتواجد قوات اليونيفيل في الجنوب، وغيره من المواقع في لبنان، مفصلًا مهمًا في مسيرة حزب الله، وتحوّلًا موضوعيًا في استراتيجيته، بتركيزه على الشؤون الداخلية، مستثمرًا توازن القوى الذي ترتب على دوره في “حماية لبنان”، و”النصر الإلهي” الذي حققه في الحرب؛ لفرض هيمنته على الدولة والمجتمع اللبنانيين، وربما مع بروز دوره الخارجي.
4- السابع من أيار/ مايو 2008
الحدث الأبرز الذي وضع النقاط على الحروف، في عملية استيلاء حزب الله على الدولة اللبنانية وقرارها، كان يوم السابع من أيار/ مايو 2008، عندما اجتاح بيروت الغربية، ومناطق أخرى، موجّهًا سلاحه بشكلٍ علنيٍّ، أول مرة، إلى الداخل اللبناني، مطالبًا القوى اللبنانية الأخرى، المناوئة له في 14 آذار بالتسليم بتوازن القوى الجديد، وبإعادة النظر في اتفاق الطائف وبنية النظام السياسي اللبناني، داعيًا إلى مثالثة (مسيحية، سنية، شيعية) في مناصب الدولة ومؤسساتها.
سارعت الدول المعنية بلبنان، عربية وغير عربية، إلى نزع فتيل حربٍ أهلية جديدة، باتت تلوح في سمائه؛ فكان اتفاق الدوحة الذي رعته قطر، وأعطى حزب الله الثلث المعطل في الحكومة اللبنانية، التي عطلها لاحقًا عن أعمالها ومسؤولياتها تجاه مواطنيها، ثم ما لبث أن اكتمل هذا التعطيل، عندما انتهت ولاية الرئيس اللبناني ميشيل سليمان، ليصبح لبنان بلا رئيس؛ لأن حزب الله، ومن خلفه إيران، ينتظر جلاء الموقف في سورية؛ لضبط الأوضاع اللبنانية في ضوء ما يترتب عن ذلك الموقف.
5 – حزب الله والثورة السورية
انخرط حزب الله في حرب النظام السوري على شعبه منذ البداية، من دون أن يعلن ذلك، إلى حين اقتحامه مدينة القصير في الـ 2013، حيث روّج حينها، مبررًا تدخله، موضوع حماية القرى الشيعية في تلك المنطقة. ثم ما لبث أن شارك، إلى جانب ميليشيات شيعية، من العراق وأفغانستان وباكستان وحوثيين من اليمن، في معارك ريف دمشق، مبررًا مشاركته -أيضًا- بموضوع حماية المراقد الشيعية. وامتدت هذه الحماية، لاحقًا، لتصل إلى حمص وحلب والحسكة وريف اللاذقية وإدلب، حيث بات انتشاره يغطي الأراضي السورية كافة، وتغيب معه قصة المراقد وحمايتها، ليحلّ مكانها موضوع حماية النظام السوري الذي يتعرض، بحسب ادعائه، لمؤامرة أميركية – إسرائيلية؛ بسبب دعمه المقاومة وتبنيه لها. لكن الملاحظة الأبرز، في هذا الانتشار، هي حرص حزب الله على التواجد الكثيف على طول الحدود السورية – اللبنانية؛ لحماية خطوط إمداداته العسكرية، وضمان استمرار التهريب، ومواصلة عملية التغيير الديموغرافي، الجارية على قدم وساق في هذه المنطقة، ربما بقصد السيطرة عليها مستقبلًا، أو تمهيدًا لنشوء “الدولة المفيدة” التي يضعها النظام السوري وإيران، ومعهما روسيا، كأحد خيارات الصراع. أما محاولته التواجد في الجولان؛ فهي للحفاظ على تماسٍ مع إسرائيل، والإيحاء باستمرار دوره المقاوم.
مضى على حرب حزب الله العلنية على الشعب السوري ثلاث سنوات ونيّف، قتل فيها آلاف السوريين وفظّع فيهم، لكنه تكبّد فيها خسائر فادحة، بات يصعب عليه تحمّلها، بعد أن تجاوزت، بحسب التقديرات المعلنة، 1200 مقاتلًا، وعددًا كبيرًا من قادته العسكريين والأمنيين، وآخرهم مصطفى بدر الدين.
سفك حزب الله دم السوريين، وورّط الطائفة الشيعية اللبنانية في هذا الدم، وبات عاريًا -أمام الجميع- من كل ادعاءاته حول المقاومة وفلسطين والتحرير، إلى آخر اسطوانته المشروخة تلك، وتأكد للجميع، من لبنانيين وعرب، أنه مجرد أداة، وذراع تنفيذية، لمشروع الهيمنة الإيراني في المنطقة العربية شرقَ المتوسط.
وإلى تدخّل حزب الله، والميليشيات الشيعية الأخرى، التي دفعت بها إيران إلى الساحة السورية المشتعلة، يعود الدور الكبير في وقف انهيار النظام الذي كاد أن يهوي، منذ ربيع الـ 2013، وما زال هذا الحزب يشكل رأس الحربة في معظم المعارك التي يخوضها النظام، والذي بات يشكو -بشكل علنيّ- من نقص الموارد البشرية، وترنّح جيشه، وانسحب هذا التردّي، في ما بعد، على جميع القوى الداعمة له، التي لم تستطع وقف التهديد بالانهيار؛ الأمر الذي أرغم النظام وحلفاءه، على الاستنجاد بالترسانة العسكرية الروسية، الجوية منها على وجه الخصوص، التي أخذت توزع دمارها على السوريين، منذ الثلاثين من أيلول/ سبتمبر 2015؛ لتحقيق هذا الهدف، ونجحت إلى حدٍّ بعيدٍ في وقف مسلسل الانهيار.
6 – مقتل مصطفى بدر الدين ودلالاته
قُتل القائد العسكري والأمني الأبرز في حزب الله، مصطفى بدر الدين، كما أُعلن، في مقرّ لحزب الله، قربَ مطار دمشق الدولي، في أوضاع غامضة. موقف حزب الله الملتبس، والبيان الذي صدر عنه، وحمّل فيه مسؤولية مقتله من سمّاهم بالتكفيريين، وبقذيفة هاون، كل ذلك عكس حالة الإرباك التي أصابت قيادة الحزب؛ فهذه هي المرة الأولى -في تاريخه- التي لا يحمّل فيها إسرائيل مسؤولية مقتل أحد قادته.
لعلّ الأهم، في مقتل قياديّ بحجم بدر الدين، يكمن في الدلالات والرسائل التي حملها الحدث؛ فبدر الدين لم يكن قائدًا عسكريًا محترفًا فحسب، بل هو مستودع أسرار حزب الله، وحافظ أسرار جميع عملياته الأمنية، والاغتيالات التي نفذها، أو شارك في تنفيذها، في لبنان أو خارجه، وهو مطلوب لأكثر من دولة، وسبق له أن حُكم بالإعدام في الكويت، وهرب من سجنه بعد الاجتياح العراقي لهذا البلد في 2 أب/ أغسطس 1990، كما أنه مطلوب للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بتهمة تدبير وتنفيذ عملية اغتيال رفيق الحريري، ويحاكم غيابيًا مع ثلاثة من أعضاء الحزب.
إن الطريقة التي أعلن فيها عن مقتله، والمكان الذي قُتل فيه، تطرح كثيرًا من الأسئلة، والتكهنات حول الحدث وتوقيته، خاصّةً أنه ثاني قائدٍ، على هذا المستوى، يُقتل في دمشق؛ حيث سبقه إلى هذا المصير عماد مغنية، أسئلةٍ لن تجد لها جوابًا شافيًا في هذه المرحلة. فهل قُتل في جبهات القتال، في خان طومان، وفقًا لبعض الروايات؟ أم كان مقتله عمليةَ تصفيةٍ داخليةٍ، تبغي قطع خيوط، وإغلاق ملفات، تخصّ حزب الله في قضية اغتيال الحريري؟ أم إنها تتعلق بأدوار إقليمية لدول بعينها؟ فالرجل كان على ارتباط وثيقٍ بمخابرات الحرس الثوري الإيراني، وكان إصبعها الأمني داخل حزب الله منذ ثمانينيات القرن الماضي، كما أنه كان على صلةٍ تنسيقيّةٍ وثيقةٍ، وعالية المستوى، مع الأجهزة الأمنية السورية.
الاحتمال الآخر أن تكون عملية التصفية تمّت بعمل استخباراتي دولي، بشكل منفرد، أو بالتعاون، تقف وراءه أميركا، أو إسرائيل، أو روسيا؛ ربما بعد أن رُفع الغطاء عنه، أو عن أدواره، أو عن الجهة التي يتبعها؛ وذلك من ضمن الترتيبات التي تقتضيها التسويات المطلوبة في المنطقة، سواء ما أنجز منها، كالملف النووي الإيراني، أو ما يجري العمل على تسويته، كالملف السوري، وضرورة انتظام الأدوار، والقوى الفاعلة فيه، كإيران وحزب الله والنظام وروسيا.
أيًا كانت الطريقة التي قتل فيها بدر الدين، وبغض النظر عن غايتها؛ فإنها تعطي مؤشرًا مهمًا عن المأزق الذي وصل إليه حزب الله، وعن الوضع الذي آلت إليه الأمور في الصراع السوري، السياسي منه أو الميداني، وعن تموضعات الأطراف المنخرطة فيه، وما تتطلّبه هذه التموضعات الجديدة من ترتيبات. فعندما يقال إن سورية أصبحت مقبرة للقادة من الإيرانيين، أو من حزب الله؛ فإن هذا القول لا يؤخذ ببعده العسكري فحسب، على أهميته، وإنما بدلالاته السياسية كذلك، وبما يخصّ صراع القوى داخل إيران، أو في ما يخصّ دورها في المنطقة.
7 – وصمة الإرهاب والعقوبات الاقتصادية
ربما تكون أقسى الضربات التي تلقاها حزب الله حتى الآن، بعد الخسائر البشرية التي تكبّدها في سورية، هو قرار الحكومة السعودية بتصنيفه حزبًا إرهابيًا، ثم تبنّي مجلس التعاون الخليجي هذا القرار، وتاليًا الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، كذلك قرار وزارة الخزانة الأميركية بملاحقة أرصدته وتحويلاته في لبنان والعالم، على خلفية أدواره في تهريب المخدرات، وغسيل الأموال في الأميركيتين.
سبق وأن وضعت الولايات المتحدة الحزب على لائحتها للمنظمات الإرهابية، وعَدّ الاتحاد الأوروبي جناحه العسكري إرهابيًا منذ عقد من الزمن، كذلك مُنعت وسائل إعلامه المرئية من البث على القمر الأوربي. غير أن تلك القرارات، لم تؤثر على الحزب، على عكس ما يمكن أن تسببه القرارات الأخيرة، خاصة القرار الأميركي، من تقليص إمكانات استمراره في زخمه، أو لجهة أثر هذه القرارات على حاضنته الاجتماعية؛ فالترحيل ينتظر آلاف العائلات اللبنانية التي تدير نشاط حزب الله في الخليج، كما لن تفيد تهديداته للحكومة اللبنانية، ولحاكم مصرف لبنان المركزي، بدعوى السيادة الوطنية، كذلك لن يفيده تحوّله نحو المصارف السورية؛ لأنها ترزح – بدورها- تحت العقوبات، وأنهكتها تداعيات الحرب. لقد كانت هاتان ضربتين قاصمتين، سيكون لهما أثرهما الكبير على مستقبل حزب الله، خاصّةً أن إيران لن تستطيع تعويض نقصان الموارد لأمد طويل.
ثالثًا: حول مستقبل حزب الله           
أُسِّس حزب الله؛ للقيام بوظيفة عسكرية وسياسية، في إطار مشروع إيران للهيمنة على المنطقة، وللعب دورٍ رئيسٍ في توجّهاتها وقراراتها، وكان مدخل هذا المشروع إلى الفضاء اللبناني، ومن ثم العربي، شعار تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، على طريق تحرير فلسطين. غير أن التحوّلات السياسية والاستراتيجية التي شهدها العالم والمنطقة، فرضت تغيّرات على دور الحزب واستراتيجيته السياسية والعسكرية، وبات جهده الرئيس، كأي كيانٍ تابع، خوض معارك سياسية وعسكرية، تتطلبها التوجّهات الإيرانية الجديدة، والعمل على تحقيق أهداف هذه التوجّهات التي أنشئ لخدمتها، وهو ما عناه قائده حسن نصر الله في خطاباته، حين ردّد “أنه وحزبه بندقية في يد الوليّ الفقيه”.
لم يكن حزب الله -يومًا- لبنانيٌ الفعل والهدف، إلّا بما يخدم هيمنته على هذا البلد، ويعمل على فرض توجّهاته على المجتمع اللبناني، من دون مراعاة التوازنات القلقة فيه؛ إذ لم يتورّع عن التهديد بنسف هذا التوازن في أكثر من محطة. لقد أثبتت تجربته، في العقد الأخير، أنه ميليشيا عابرة للحدود، مثله في ذلك مثل التنظيمات المتطرفة الأخرى؛ فقد شارك في تنظيم وتدريب الميليشيات الشيعيّة في العراق، التي ازدهرت في ظلّ الاحتلال الأميركي لهذا البلد، كما اعترف بتواجده في البحرين، وبإسهامه في تنظيم وتدريب الحوثيين في اليمن، وأخيرًا تدخّله في سورية وارتكاباته فيها، لهذا، فإنه عندما يعبث في الأوضاع الداخليّة لعددٍ من الدول في الإقليم، يصبح ادّعاؤه بهُويّة وطنيّة ما نوعًا من سقط الكلام.
منذ انخراط حزب الله في الصراع السوري إلى جانب النظام القائم في هذا البلد، وبهذا الشكل الواسع والعنيف، فإنه يكون قد ربط مصيره بمصير هذا النظام، ولا تشير أيّ من الدلائل الميدانية، أو السياسية، إلى إمكانية أن يخرج هذا الحلف منتصرًا في المآل الأخير؛ وهو ما سيحدّد مصيره، ومستقبله السياسي، في لبنان والمنطقة.
لعبت إيران -منذ عقدين من الزمن- على زعزعة الاستقرار في المنطقة؛ خدمة لمشروعها القومي بالهيمنة، وفرض نفسها قوةً إقليمية معترفًا بها دوليًا، وأنشأت -لذلك- ميليشيات مسلّحة، تعمل بوظيفة الأذرعٍ في كل دولة يتواجد فيها شيعة، وبحسب أحوال كل منها. ومع انطلاق ثورات الربيع العربي، ودخول إيران -بشكل علنيّ- في مواجهتها، والحيلولة دون وصولها إلى أهدافها المرجوّة، نما شعور عربي، رسمي وشعبي، يتوجّس من التدخل الإيراني، ويستجمع قواه لمواجهته؛ حصل هذا في اليمن، ويحصل بشكلٍ غير مباشرٍ في العراق وفي سورية، وربما بات الجميع على قناعة بأن مكسر المشروع الإيراني سيكون في سورية؛ لهذا تبدي إيران تصميمًا أكبر على زيادة تدخلها، على الرغم من الخسائر الكبيرة، البشريّة والماديّة، التي تتكبّدها، وهذه الحال تنسحب على تابعها حزب الله أيضًا.
إن مأزق إيران، ومعها حزب الله، يكمن في محاولة المواءمة المستحيلة بين إنقاذ المشروع الإيراني من الهزيمة، وما قد يترتب عليه من تداعيات، يمكن أن تفجر الصراعات داخل الطائفة وداخل إيران نفسها، خاصة بعد توجّهاتها الأخيرة، التي أطلقها توقيع الاتفاق النووي؛ لتدشين مرحلةٍ جديدةٍ، تتّسم بالانفتاح على العالم، وطيّ مرحلة الحصار والعقوبات التي أنهكتها، مأزق قد لا تكون نهايته قريبة، لكن المرجّح أنها لن تكون سعيدة.
من هنا، بات ملحًا للمعارضة السورية، أن تزيد في مواجهتها لحزب الله، وأن تعرّي طائفيّته وإرهابه، وأن تُبدي اهتمامًا خاصًّا بالشيعة العرب، في جميع أماكن تواجدهم؛ لكسبهم وسحب البساط من تحت أقدامه، وزعزعة قاعدته الاجتماعية، والعمل -معهم- على تعميق مأزق الحزب، ومواجهة المشروع الإيراني؛ لأنهم الأجدر في هذا الاتجاه، وربما انتفاضة العراقيين التي تشهدها بغداد حاليًا، والثقل الشيعي فيها، والنقمة التي يبديها المنتفضون على التدخل الإيراني، وما جلبه للعراق من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، يعطي لمثل هذا التوجه معنًى، ويعطيه إمكانية واقعية أيضًا.