الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قبر لطفل الغوطة

قبر لطفل الغوطة

23.04.2018
باسل طلوزي


العربي الجديد
الاحد 22/4/2018
ليعذرني المعارضون والمؤيدون للعدوان الثلاثي على سورية، فلست مؤيدًا ولا معارضًا لكل ما يحدث في بلاد الياسمين، بعد أن لم أعد أرى فيها غير ذلك الطفل الذي يحتضر في غوطتها، والزبد الأبيض يندفع من فمه الصغير، بفضل قنابل الغازات السامة التي انهالت عليه من "حامي الديار".
كان يمكن أن أكون معارضًا، لولا أنني على قناعةٍ بأن مثل هذه المعارضة ستصب تلقائيًّا في صالح طاغية الشام، وأنا بطبعي لن أكون في صف الطغاة، حتى لو كان طغيانهم سيقودني إلى الجنة. وكان يمكن أن أكون مؤيدًا، لولا أن تأييدي قد يُفهم منه أنني أنحاز للغزاة على حساب أوطاني العربية. ولذا أجدني في موقف ثالث، أبحث فيه عن قبر صغير يلم جسد طفل الغوطة الذي استيقظ على موته المبكر، من دون أن يدري لماذا يموت، ولصالح من يدفع حياته ثمنًا لحروب سرقت منه الحياة قبل تفتّحها.
في سورية، اختلط القاتل بالقتيل، والمنطق بالجنون، والنازح بالعائد، حدّ الاستعصاء على نظريات الحروب كلها. وما يمكن رفضه هو ذاته ما يمكن قبوله، أيضًا، ففي الوقت الذي ينحاز فيه العربيّ لإنشاء مركز أبحاث عسكري متطور في أي قطرٍ من أقطاره العربية، سرعان ما ينقلب على هذا الانحياز، حين يجد أن نتاج هذا المركز جاء وبالًا على الشعب نفسه، بدل أن يكون ترسانةً لمقاومة العدو. أقصد هنا، بالطبع، مركز البحوث السوري الذي تم تدميره في العدوان الثلاثي أخيرا، خصوصًا إذا تذكرنا البراميل المتفجرة والغازات السامة التي أبدعها هذا المركز، وجعل من الشعب السوري حقل اختبار لها، إلى حد يجعلنا نبلع أمنياتنا بأي تطور أو تحديث عربي، إذا كان مثل هذا التطور يعني مزيدًا من الاستبداد للطغاة العرب.
وبالعين ذاتها، أنظر إلى قصف مطارات عسكرية سورية، كان الأجدى أن تنطلق مقاتلاتها صوب الجولان وتل أبيب، لكنها استبدلت إسرائيل بحلب وإدلب والغوطة، وانحرفت عن رؤوس المحتلين الصهاينة، لتحصد أجساد مواطنيها، فكيف إذن أصوغ موقفًا حيال مثل هذه المطارات التي تؤوي أدوات القتل والتدمير لسورية وشعبها نفسه؟
وفي متاهة المأساة السورية، لا يفوتنا أن نتذكّر جذرها الأساسي، المتمثل في رفض طاغيتها تلبية أماني شعبه بالحرية، يوم وصلت شعلة الربيع العربي إلى نهر بردى، فانطلقت المسيرات الشعبية السلمية تنادي بالحرية والخلاص من حكم الزعيم الأوحد، فكان أن ووجهت تلك المسيرات بالحديد والنار. وبدل أن يحتوي الزعيم نار الغضب الشعبي بإطلاق الحريات، راح يستعين بالخارج على شعبه، وسمح لمليشيات الحشد الشعبي العراقي والفيالق الإيرانية والقواعد الروسية باحتلال أرضه للفتك بشعبه. وعلى هذا الأساس لا يحق لطاغية الشام أن يدين أي تدخل خارجي آخر، ما دام غارقًا حتى أذنيه في التدخلات المستجلبة على يديه إلى عقر داره.
وفي المتاهة ذاتها، نعلم، جيدًا، أن هذا العدوان الثلاثي يصب، في ختام المطاف، في مصلحة بشار الأسد وبقائه على السلطة؛ لأنه يستدرّ عواطف الشعوب العربية التي تخدعها شعارات "الضحية"، حتى لو كانت الضحية جلادًا، بدليل أن مواقع التواصل الاجتماعي حفلت بشعارات التضامن، ومنها ما راح يستذكر ضرب بغداد، محاولًا سحب ما حدث على ما يحدث، من دون التفريق بين حربين، كان المقصود بالأولى منها رأس صدام، وفي الثانية ترسيخ سلطة الأسد؛ لأنه الخادم الأمين لمصالح الدول العظمى وإسرائيل على السواء، وإن تقمّص دور "الممانع" و"المقاوم".
وفي المتاهة، أيضًا وأيضًا، ينبغي أن ندرك أن المقصود بالضربة الثلاثية هي روسيا ذاتها، وليس سورية؛ وإن على نحو غير مباشر تدفع فيه سورية الثمن، على قاعدة "إياكِ أعني واسمعي يا جارة"، ذلك أن الغرب معنيٌّ، دومًا، بتذكير روسيا أن حقبة "القطبين العالميين" قد انتهت، وأن روسيا لا يمكن بأي حال أن تمثل قطبًا عالميًّا جديدًا، مهما استعرضت عضلاتها ونفشت ريشها.
وفي المتاهة، أخيرًا، لم أزل أبحث لطفل الغوطة عن قبرٍ لا يدنسه الطغاة والغزاة، على حد سواء.