الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن الدولة الاتحادية.. عندما يصبح الوطن مختطفاً

عن الدولة الاتحادية.. عندما يصبح الوطن مختطفاً

16.09.2019
بسام يوسف


سوريا تي في
الاحد 15/9/2019
لم تكن الثورة السورية قد أنهت عامها الأول، عندما تكاثرت دعوات التدخل الخارجي الحاسم، وهي الدعوات التي كانت قد بدأت في العقد الأخير من القرن الماضي، قُبيل احتلال العراق، وخلاله، وبعده. وبغض النظر عن نتائج احتلال العراق في المستويات كلها، وهي النتائج التي أقل ما يقال فيها: إنها دمرت الثقافة والعمران والشجر والحجر، وقد حولت الإقليم إلى ملعب دبابات زعران العالم وقراصنتهم وملاليهم ومشايخهم، دون أن تقترب من الديمقراطية أدنى اقتراب. لقد سقط الطاغية، وهذا رائع، ولكن الديمقراطية تباعدت مع ما يمكنها أن تحرره. لماذا؟ لأن تجارب البشرية قد أثبتت: غير ظفرك ما حك جلدك، ولن يحكه. ثم، مع ذلك، وبغض النظر عن مبررات وأسباب هذه الدعوات، إلا أنها منذ البداية قد أسست لواقعة خطيرة، واستراتيجية دامية، قد وسمت الثورة السورية، ولا تزال تنهشها، وهي:  الارتزاق، والاستكلاب، والاتكال، والتواكل، ما أفضى بالضرورة إلى عجز السوريين على جهتي الصراع عن تقرير مصير سوريا ومستقبلها، وعجز هم بالتالي، مع تتالي سنوات الصراع محتدمة وخافتة: عن التوافق على الحد الأدنى من القواسم المشتركة بينهم كمبادئ، لا يحق لأحد تجاوزها، وتكريسها؛ لأنها ضمانة طريق الأمل في بدئه وفي مجراه إلى وطن ومصير، ولأنها الصد والمصد والدرع المانع للوصاية الخارجية على السوريين التي تتفاقم، وتزداد، حتى أصبحت اللازمة التي تسبق أحاديث  المهتمين بالشأن السوري كلهم، بأتباعهم ووكلائهم من السوريين أنفسهم. هذا غير الأطراف السورية التي أمست تغوص في تبعيتها المتفاقمة، وتتباهى؛ فتجترح حلولاً تعكس الخارج ورؤيته، وتتباعد أبعد بكثير من أن تعبر عن مصلحة سوريا وشعبها، وعن هدف ثورتها في جوهرها على أضعف تقدير. وهي حلول- على كل حال- تتدرج: من الكونفدرالية، إلى المبادئ فوق الدستورية، إلى النظام البرلماني... وصولاً إلى الفكرة التي طرحت مؤخراً حول الدولة الاتحادية وصيغتها.
المفارقة الأولى في هذه الأطروحات، هي: أنها تأتي من شخصيات، أو من جماعات، ليس لها أقل تأثير في الواقع السوري، وأنها- غالباً-  تطرح أطروحاتها مع جهات خارجية، وعلى جهات خارجية، وليس في حوار وطني سوري واسع، وهو أمر يشير إلى مبنى الأطروحات، وإلى غاياتها، وإلى ما تقتضيه بحكم مبناها ودوافعها وحواملها.
والمفارقة الثانية، هي: أن هكذا أطروحات- بحامليها- تدفن حجر الأساس بلاهة، وحجر الأساس هو الشعب السوري، وتحجب المقرر الحقيقي شطارة، والمقرر الحقيقي أولاً وأخيراً هو الشعب السوري، وكأن السياسة فيها- وعندهم- خفة يد، أو مرونة خصر.
والمفارقة الثالثة، هي: أن هكذا أطروحات، وهكذا حملة، تتجاهل عامدة جوهر الصراع وحقيقته وسببه، وتقذف به إلى حقل آخر عن غباء- من منظور النية الطيبة- أو عن جشع وفهلوة غالباً.
ومهما كان الأمر، فإن في جوهر هذه الأطروحات تكمن أخطار متعددة قاتلة، أولها: ترسيخ صيغة بالغة الخطورة على الشعب السوري وعلى وطنه وعلى مستقبله، وهي الصيغة التي تكرس الفكرة القاتلة، تلك الفكرة التي يمكن تكثيفها في أن المشكلة الأكبر والأعقد والأخطر في سوريا، هي: مشكلة تركيبته الطائفية والإثنية والعرقية والمذهبية، وأن الحل الوحيد يكمن في صياغة سوريا القادمة بدلالة هذه التركيبة المتعددة، وليس بدلالة حاجة السوريين الحقيقية. وثاني أخطار هكذا أطروحات، هو في: تكريس فكرة الصراع في سوريا على أنه حرب أهلية بين مكونات الشعب السوري. وثالث الأخطار يكمن في: تمكين الطغمة المستبدة المافيوية الحاكمة في سوريا من اعتبارها طرفاً- من عدة أطراف تتصارع- في حرب أهلية، وبالتالي فهي ليست الطرف الأساس في دمار سوريا وتشريد شعبها.
ثم استطراداً: مهما تكن النوايا حسنة في هكذا أطروحات، فإنها تؤسس لتقسيم قادم، أحبت هذا أم كرهته، وشاءت هذا أم أبته؛ لأن كل الصيغ التي تذهب إلى تكريس طموحات قومية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية، فإنها لابد أن تفتح الباب أمام تقاسم ما، أو أن تفضي إلى تحاصص ما. هذا التحاصص، وهذا التقاسم، المحكوم بعجز أطرافه، سيكون تابعاً لجهة خارجية حتماً. وهو شأن لا يستعصي على أي متتبع للشأن السوري في أن يحدد معظم الاستتباعات التي ستحكم أطرافه السورية، هذه التبعية عدا عن أنها ستضعف إلى حد كبير إمكانية نهضة لا بد منها لقيامة سوريا، فهي ستكرس مناطق متصارعة يمكن إشعال حروبها بأتفه الأسباب، ويمكن إشعالها وتأجيجها بإشارة خفية من فاعل خارجي.
إن تغييب جوهر الصراع في سوريا، وتشويه حقيقته، بما هو صراع بين شعب بأطيافه كلها واستبداد مافيوي لا وطني، هو هدر صريح لحقوق الشعب السوري، وسيء النية والغاية، وهو إنقاذ للعصابة التي فتكت بسوريا أيضاً، وأيضاً هو إنقاذ لداعميها من مسؤولية جرائمهم بحق الشعب السوري، وهو- وهنا الأخطر- إنهاء لحلم السوريين بوطن يضمهم، ويضمن لهم حقوقهم وحياتهم الحرة الكريمة.
إن من يريد أن ينتصر للشعب السوري، وأن يجد له حلاً، هو من يساعد في فتح الممكنات أمامه، وهو من يدفع إلى تحرير إرادته؛ لكي يتمكن من تقرير مصيره فعلاً.
إن هذه الأطروحات كلها، هي أصلاً- مع القليل من خجل التواضع والقناعة، ومع القليل من البصيرة والتبصر في تجارب الشعوب ودروسها- كان ينبغي أن تكون مرصودة للشعب السوري؛ لكونها حقاً أولياً مبدئياً من حقوقه التي تتحدد موضوعياً بوجوده التاريخي وبمصالحه التاريخية- الآنية والاستراتيجية- وليس لأي جهة من الجهات التي تتفاصح أي حق للبت فيها. وهي- وهم- ثانياً، تحتاج- ويحتاجون- أولاً ومسبقاً إلى إنهاء الاستبداد؛ لكي تكون إرادة الشعب محررة كشرط أولي للتعبير، وهو الاستبداد الذي أسس هذا الخراب، ووسعه ونماه وعممه، وتحتاج أيضاً- ويحتاجون- إلى عودة السوريين من مخيماتهم ومن شتاتهم؛ لكي يتمكنوا من المشاركة في اختيار الصيغة التي يرون أنها الأنسب لهم.
إن من يريد أن ينتصر للشعب السوري، وأن يجد له حلاً، هو من يساعد في فتح الممكنات أمامه، وهو من يدفع إلى تحرير إرادته؛ لكي يتمكن من تقرير مصيره فعلاً، بكامل حريته. وليس هو ذلك الذي يعتبر نفسه وصياً على قاصر، الذي حاله كحال كأي وصي، فهو لا يتوانى- دائماً- عن التفريط بحقوق الموصى عليه،  سواء أكان هذا التفريط لمصلحته الخاصة أم لمصلحة من يتحكم برأيه وبمعيشته وبوجوده.