الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أي سوريّة هذه يا فدوى؟

أي سوريّة هذه يا فدوى؟

20.08.2017
عمار ديوب


العربي الجديد
السبت 19/8/2017
تتّقد عيناها بلمعاتٍ حادّة. هكذا رأيتها أول مرة مع ثلّةٍ من شبابٍ ثائرين، يحاولون فتح بوابات السماء. تكاد تخنقُها كلُّ كلمة تنطقها، حيث الزمن الجميل في الأشهر الأولى من 2011، والبلاد تغلي بكلّ أشكال الحراك الثوري، وبالرقص والغناء والاحتفالات والمبادرات، وكذلك بالقتل والاعتقال اليومي.
كانت السيدة الحالمة منصهرة بكل حدثٍ يجري هنا وهناك. شقّتها المستأجرة قرب ساحة الشهبندر كانت موئلاً لنشاطاتها مع رفاقها ورفيقاتها. كانت نشاطاتها لا تنتهي، من قلب دمشق حيث شارع الحمرا والصالحية، مروراً بدرعا وإلى أحياء دمشق المهمّشة، ثم الغوطة شرقاً وجنوباً وغرباً، ثمّ إلى حمص، وهناك كان استقرارها الأكبر حيث الخوف من "الفتنة الطّائفية" والتأسيس لدمار سورية. هناك كانت عاصمة الثورة، فكيف تغيب عنها، وقد طرح اللئامُ أنّها طائفية؟ رفضت، كما أهل حمص، التهمة فاستقرت هناك، ولم تتردّد في إلقاء الخطب من أقوى المنابر الثورية، فأكّدت سلمية الثورة ومدنيتها وشعبيتها.
فدوى سليمان التي استشعرت الخطر من النظام ومن الإسلاميين، ومن الخطر على الناس الذين حموها من بيتٍ إلى بيت؛ غادرت حمص وتخفّت بضعة أشهر في دمشق. كان خوفها كبيراً من النظام ومن الرحيل عن سورية؛ فلمن ستترك البلاد، للنظام الذي يدمرها أم لإسلاميين معتقلين لديه، وقد أفرج عنهم وسَهّل لهم الانطلاقة والسلاح والمال ومدعومين من دولٍ إقليميّةٍ، وبقصدٍ تخريبَ الثورة بالتدريج، ومحاصرة أيّة شعبية وسلمية للثورة، وأسلمتها وبالنهاية جعلها مقبرة؟
تركت حمص لكي لا تُحمّل أهلها، أهل الثورة، مسؤولية دمها. تركت سورية، لأنّها إن ظلّت فستعتقل وستقتل كما ظنّت وظنُّها صحيح. أخافتها دعوات التأسلم ودعوات السلاح والتدخل الخارجي؛ فثورة الشعب، كما رأتها، كانت من أجل حياةٍ أفضل للناس، وليس من أجل معارضة فاشلة، أو لتسليم البلاد لإسلاميين أو للتدخلات الخارجية.
لدى فدوى إيمانها الخاص، وفيه تتجاوز البعد المذهبي والديني، وهي تعلن ذلك في خطبها، فتكرّر كلماتٍ للأنبياء السماويين والأرضيين. يمكن متابعة بُعدها الصوفي مما كتبت، ومن نمط حياتها داخل سورية وخارجها، فحين وطأت أقدامُها الأردن، سألها خفر الحدود: هل كنتم لاجئين من قبل؟ هنا سقطت أرضاً، فقد أصبحت خلفها حوران وكل البلاد، ولن تطأ أقدامُها البلاد مرة أخرى ولزمنٍ طويل، وقد أصبحت لاجئة.. قتلها ألمها ذاك تماماً.
"لدى فدوى سليمان إيمانها الخاص، وفيه تتجاوز البعد المذهبي والديني، وهي تعلن ذلك في خطبها، فتكرّر كلماتٍ للأنبياء السماويين والأرضيين"
رغبت، ككل شخصية متميزة ومتفردة، بإعلان حركة سياسية تشبهها، وسمّتها "سوريا كما نحب"، وضمّنتها مبادئ تتسق مع شخصيتها في عدالة اجتماعية وديمقراطية وتسامح مجتمعي، كانت تريد إنقاذ الثورة بأي شكل. لم تغيّر موقفها من النظام الديكتاتوري، وأنه يجب أن يسقط، لكنها أيضاً رفضت كل مؤسسات المعارضة التي لم تفهم الثورة، وبدلاً من أن تثق بها، وثقت بأوهامها بالخارج الإقليمي والدولي، وهذا ما حولها إلى مجموعات تابعة لتلك الدول، وهو ما أفشل أيّ عملياتٍ توحيدية لمؤسسات المعارضة أو الثورة، فظلّت تلك المؤسسات مشتّتة ومتفرقة؛ فليس من قيادةٍ موحدةٍ، سياسياً أو عسكرياً أو مالياً، وفي كل متطلبات الحياة.
لم تتصالح فدوى سليمان مع الغربة أبداً. ربما يتوهم بعضهم أنّها، باعتبارها فنانة، ستعيش هناك كما أميرة، وتحقّق كل رغباتها، وهذا ممكنٌ لو شاءت. لم يحصل. كانت روحها في الداخل وجسدها في الخارج. قتلها اللجوء، وكان واسطته إليها المرض الخبيث.
أجبر النظام أخاها على التنديد بها على فضائيته، قال لها كلمات العتاب بكل رقّة. عذرت أسرتها؛ لأن رقابهم تحت المقصلة. حوربت فدوى من النظام وحاشيته ونقابة فنانيه، وكذلك من المعارضة المتأسلمة، فهي "مدسوسة وعلوية...". وهناك من جعلها عميلة للفرنسيين. لا يمكن تعليل الاتهامات التي طاولتها وتطاول غيرها بالحرمان الطويل من الحريات في سورية، وسيطرة التفسير المؤامراتي وغير الذكي على العقول، وقد نال فدوى كثير منه، فهناك أيضاً التفكير الطائفي، والذي قتل الثورة وساهم بقسطه في دمار سورية.
حين كنت أناقشها في أن تعود إلى المسرح والفن والشعر والتلفزيون والسينما، فذلك ميدانها وفيه يمكنها أن تحارب، كانت تنظر إلي بشفقة، وتجيب إن التاريخ فتح الآن أبوابه، وعلينا العمل من دون توقف، والناس يحتاجوننا.. ألا ترى؟ كانت حياتها هكذا في سورية، وحينما أصبحت "لاجئة" كان الإحباط، العزلة، والدخان.
تستحق هذه الفنانة أن تكون من أيقونات الثورة السورية. كانت حالمة وطوباوية؛ ضد القتل والسلاح والأسلمة والتطييف، وتمسّكت بأهداف الثورة السورية، كما في سنتها الأولى حتى موتها اللئيم: الشعب السوري واحد واحد واحد.
تقول مي سكاف معلقة "أنت سباقة يا فدوى في كل شيء". كانت كذلك، ورفضت مدّ اليد في هذه السنوات، ولم تعلن عن مرضها، ولم تهتم بحياتها، فقد تساوت لديها الحياة والموت بالمقدار ذاته... تغادر مسرحنا المدمر، ونظل ننتظر الممثلة.