الرئيسة \  تقارير  \  هل تستمر روسيا في التقارب مع العالم الإسلامي؟

هل تستمر روسيا في التقارب مع العالم الإسلامي؟

02.12.2021
فيتالي نعومكين


فيتالي نعومكين
رئيس “معهد الاستشراق” التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
الشرق الاوسط
الاربعاء 1/12/2021   
رغم أن التركيز تقليدياً في النظام متعدد الاتجاهات للعلاقات الخارجية لروسيا مع دول العالم الإسلامي كان على العلاقات الثنائية، إلا أن الوضع بدأ يتغير منذ عام 2005، عندما أصبحت روسيا دولة عضو مراقب في منظمة التعاون الإسلامي. منذ ذلك الوقت، تحول العالم الإسلامي إلى كيان بحد ذاته يتفاعل مع موسكو. لقد تعززت العلاقات بين هذين الكيانين، وازدادت مشاركة روسيا في جدول أعمال “العالم الإسلامي”، وبات نمو ثقل الأمة الإسلامية الروسية، وتأثيرها في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد وفي سياستها الخارجية، يسرع عملية التقارب.
من منا لم يسمع عن “سفارة أحمد بن فضلان” الشهيرة. حين استجاب الخليفة البغدادي “المقتدر بالله” في عام 991 م لنداء حاكم “بلغار الفولغا”، الواقعة على أراضي تترستان الحديثة في قلب روسيا الحالية، بعد أن قرر الأخير جعل الإسلام دين دولته، وكان بحاجة إلى تعريف رعاياه بشكل أفضل بهذا الدين، فأرسل الخليفة مجموعة كبيرة من السفراء إلى نهر الفولغا، بمن فيهم الكاتب ابن فضلان، الذي وصلت إلينا مخطوطاته المشرقة مما ساعد العلماء بدراستها بتمعن. وصلت المجموعة إلى بلغار عام 922 م.
حين كتَبتُ قبل عقد ونصف العقد من الزمن سيناريو وصورت فيلماً عن ذلك الحدث، لم أكن أفكر أنه بعد مرور الوقت، ليس فقط المسلمون الروس، ولكن الدولة بأكملها ستحتفل رسمياً بيوبيل مرور 1100 عام على ذلك الحدث، بصفته يوبيل وصول الإسلام إلى منطقة الفولغا.
الآن أنا وزملائي العلماء في معهد الدراسات الشرقية بصدد التحضير لمؤتمر دولي كبير، من المقرر عقده في 6 - 7 ديسمبر (كانون الأول)، تحت عنوان “المسار الإسلامي لمنطقة الفولغا والعالم العربي: تقاطعات المصير” - حول الحقبة الانتقالية التي بدأت بالمهمة التاريخية لابن فضلان، وانتهت بتحويل الإسلام إلى دين دولة القبيلة الذهبية خليفة البلغار، على يد حاكمها أوزبك خان (حكم في الفترة 1313 - 1341). يبدو أن المصير فعلاً يتقاطع اليوم. بالمناسبة، يكرس علماؤنا هذا المؤتمر ليس لحدث واحد بل لحدثين تاريخيين. فالثاني هو اليوبيل الذهبي والذكرى الخمسون لتأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة – الدولة التي تجمعها مع روسيا أواصر التعاون الوثيق، بما في ذلك بمجالي العلوم والثقافة.
لقد تجلَّى “تقارب المصير” في جلسة مجموعة الرؤية الاستراتيجية “روسيا والعالم الإسلامي” التي عقدت في جدة مؤخراً في 24 نوفمبر (تشرين الثاني). إن مجيء، لأول مرة، أكثر من مائة ممثل للنخبة السياسية ونخبة الدولة الروسية، من علماء، وشخصيات دينية واجتماعية، بما في ذلك قادة عدد من مناطق وكيانات الاتحاد الروسي ذات الأغلبية المسلمة (كما هو معروف عددهم في روسيا أكثر من 20 مليون نسمة)، إلى المملكة بقيادة رئيس جمهورية تترستان رستم مينيخانوف، بالإضافة إلى ممثلين عن العديد من الدول الإسلامية الأخرى، هي حقيقة بحد ذاتها تتحدث عن نفسها.
كلمات رسائل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الموجهة لأعضاء المجموعة والضيوف كانت غير عادية بالنسبة لبعض المشاركين، الذين لم يعتادوا بعد على المستوى الجديد للعلاقات بين موسكو والعالم الإسلامي. شخصياً، أثناء الاستماع إلى الكلمات الترحيبية التي قُرئت علينا في قاعة فندق “ريتز كارلتون”، لفتت انتباهي كلمات الرئيس فلاديمير بوتين، حول ما تشترك فيه روسيا مع العالم الإسلامي، إذ أكد أن مواقف روسيا والدول الإسلامية حول العديد من قضايا الساعة في الأجندة الإقليمية والعالمية متقاربة للغاية: “نحن معاً نؤيد بناء نظام عالمي ديمقراطي عادل قائم على سيادة القانون والتعايش السلمي بين الدول، بعيداً عن أي إملاءات تستند إلى القوة وعن كافة أشكال التمييز”. وأشار كذلك إلى أن العلاقات بين روسيا والدول الإسلامية بشكل عام علاقات ودية وبناءة تقليدياً.
كما أبدى المشاركون إعجابهم أيضاً بمضمون رسالة خادم الحرمين الشريفين، الذي أشار فيها بشكل خاص إلى أهمية التراث الثقافي العميق، الذي يمهد الطريق لتفعيل دور المؤسسات الدينية، وتنمية بيئة داعمة للتعايش السلمي بين أتباع الأديان والأعراق المختلفة، والمحافظة على دور الأسرة والقيم الروحية. وهذا بدوره يتوافق مع المزاج السائد بين الروس.
بعد التحدث مع العديد من المشاركين الروس، بمن فيهم أولئك الذين زاروا المملكة مرات عديدة، لفت انتباهي أنهم جميعاً تحدثوا عن التغييرات الإيجابية الكبيرة التي تجري بوضوح في حياة البلاد، بما في ذلك عن الانفتاح الكبير على العالم، بالإضافة إلى الفرص التي أتيحت للسائحين، على سبيل المثال، من بين الضيوف الروس أعضاء المجموعة كان هناك ممثلون عن رجال الدين الأرثوذكس، بما في ذلك المطران كيريل مطران قازان وتترستان، ممن أتيحت لهم الفرصة لإلقاء كلماتهم.
رستم مينيخانوف، رئيس جمهورية تترستان، وهي مثال حي على منطقة يعيش فيها ممثلو مختلف الطوائف والجنسيات بسلام على مدى قرون، كرر كلمات قادة الدولتين، حيث قال: “اليوم نحن بحاجة إلى استخدام أكثر فاعلية لإمكانيات علاقتنا. يجب علينا وبشكل مشترك تحسين فاعلية مكافحة الإرهاب، والتعاون في مجالات أخرى مثل حماية القيم الأخلاقية التقليدية، ورعاية أفراد المجتمع الضعفاء والأقليات القومية، ومكافحة تداعيات الكوارث الطبيعية والتقنية والبيئية”.
بالمناسبة، نائب رئيس وزراء الشيشان جمبولات عمروف، وافق في المؤتمر على أهمية الذكرى السنوية لسفارة ابن فضلان، لكنه ذكر المجتمعين بأن الإسلام جاء لأول مرة إلى أراضي روسيا الحالية في أواسط القرن السابع الميلادي، عندما وصل الجنود العرب مدينة دربند في جنوب داغستان. على أي حال مثل هذا الجدل يؤكد فقط الاحترام الذي تكنه روسيا للدين الإسلامي.
وكان رمزياً أن يتزامن يوم اجتماع مجموعة الرؤية الاستراتيجية في جدة مع يوم زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لروسيا، ولقائه مع الرئيس بوتين. وفقاً لما يتردد في الأوساط الدبلوماسية، فقد دار الحديث خلف الأبواب المغلقة عن ملامح دور أكثر نشاطاً لروسيا في دفع عملية تسوية قضية الشرق الأوسط، ذات الأهمية بالنسبة للعالم الإسلامي، التي توليها موسكو أهمية كبيرة على مستوى السياسة العالمية. تلعب مساعدة الفلسطينيين في توحيد صفوفهم دوراً مهماً في جهودها. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قال عشية وصول محمود عباس إلى مقر إقامة بوتين في “بوتشاروف روشيه” في سوتشي، إنه سيكون من المفيد أن نتعرف من الرئيس الفلسطيني على مدى تقدم حل مسألة إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية بين “فتح” و”حماس”.
من الواضح أن موسكو، رغم علاقاتها الحميمة مع إسرائيل، إلا أنها تنوي الاستمرار في مساعدة الفلسطينيين في هذه العملية الصعبة للغاية، ومن غير المرجح أن تفزع موسكو حقيقة قيام لندن بعد زيارة عباس مباشرة، تبعاً لبعض الدول الأخرى، بإعلان الجناح السياسي لحركة “حماس”، منظمة إرهابية، وأن الانتماء إلى عضويتها بات يعد جريمة جنائية. تجدر الإشارة إلى أن موسكو تبذل جهوداً دبلوماسية كبيرة أيضاً لاستعادة وحدة “فتح” نفسها، وتحاول المصالحة بين الرئيس محمود عباس والمنشقين عن هذه المنظمة برئاسة محمد دحلان، الذي كانت لديه لقاءات مع سيرغي لافروف وميخائيل بوغدانوف في موسكو في وقت مبكر من شهر نوفمبر. يبدو لي أن الأمر الأكثر أهمية هو وعد الرئيس الروسي خلال الاجتماع مع عباس بمواصلة العمل بشأن حل القضية الفلسطينية، بناء على القرارات السابقة التي تبناها مجلس الأمن الدولي “مهما كانت صعوبة ذلك”.
الواضح تماماً: هو أن التقارب الروسي مع العالم الإسلامي سيستمر.