الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن فردوسٍ أصبح جحيماً

عن فردوسٍ أصبح جحيماً

11.03.2018
رشا عمران


العربي الجديد
السبت 10/3/2018
كنت صغيرة جدا، حين خيّل إلي أن الجنة التي كانوا يحدثوننا عنها في درس الديانة الإسلامية قد أصبحت على الأرض، وأن والديّ يعرفان الطريق إليها جيدا. ذات يوم بعيد، من الصعب أن أتذكّر في أي عام، ولكنه حتما في ربيع أحد أعوام النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، نقلتنا سيارة صغيرة من بيتنا في حي المهاجرين إلى الطرف الآخر من دمشق. كنا ننحدر نزولا، ثم أصبح الطريق مستويا، شوارع دمشق كانت في ذلك الوقت هادئة جدا ونظيفة، وأذكر أننا عبرنا نهر بردى، الذي كان دافقا يومها، وكانت تقطعه قوارب صغيرة، لم أحقّق حلمي أبدا في أن أكون واحدةً ممن يتنقلون على متنها، حتى وصلنا إلى الجنة، أرض واسعة يغطيها عشبٌ أخضر، وورود من كل الألوان والأشكال، أشجار لا نهاية لامتدادها مغطاةٌ بالزهر الأبيض والبنفسجي والأصفر، جداول ماء صافية تنتشر في كل مكان، عصافير وفراشاتٌ ملونةٌ حول الأشجار وتحتها، وفي الجداول طيورٌ مائيةٌ لم أكن شاهدتها إلا في القصص المصورة، وروائح الزهر المنعشة تعبق في كل مكان، طاولاتٌ توزعت عليها أطباق ممتلئة بما لذّ وطاب، صغار يلعبون، وكبار(نساء ورجال) يتمايلون مع صوتٍ مدهشٍ يطلع من آلة تسجيل قريبة، عرفت بعدها أن صاحبة الصوت هي أم كلثوم، كانت تغني "دارت الأيام"، بعد مطابقة ما بقي من ذاكرتي من كلمات الأغنية مع أغانيها لاحقا.
هل من وصفٍ للجنة يمكنه أن يتفوق على ما شاهدته طفلةٌ مثلي في ذلك اليوم؟ تلك الجنة عرفت أن اسمها الغوطة، والتي أصبحت نزهتنا الأسبوعية مع عائلتي وأصدقاء العائلة، ومكان الرحلة الدورية لنا، نحن التلاميذ في المدرسة الابتدائية. يقولون إن الغوطتين الشرقية والغربية كانتا رئتي دمشق، ليدرك من لا يعرف دمشق والغوطة جيدا ذلك، كان يجب أن يعرف هذا المكان الاستثنائي في ذلك الزمن.
لم يمض وقت كثير، حتى بدأت محاولات تجريف الغوطتين من خيرهما، كما تجريف سورية من مدنيتها، نهر بردى بدأ بالجفاف، وشحّت مياه الجداول في الغوطة، وتحولت مستنقعات، أشجار الجنة تلك تم اقتلاعها، وحلت مكانها أبنيةٌ إسمنتية مشوهة. وبدل رائحة الزهر، انتشرت روائح وأبخرة مصانع عشوائية، حملت الأمراض إلى دمشق ومحيطها. تحولت تلك الجنة إلى أمكنةٍ خربة، ولم يبق ما يدل على وجودها يوما ما سوى بقايا أراض قليلة، قاومت التجفيف، وظلت تنتج الخير وتعطيه للجميع، وسوى ذاكرة تشبه الأحلام عن ذلك المكان، ذاكرة جمعية لدى السوريين، حولها الاستبداد إلى ذاكرة انتقائيةٍ معطوبة، بعد أن ضاق حتى الهواء على أهل الغوطة، وانتشروا يطالبون بحقهم في بلدهم وحاضرهم وماضيهم ومستقبلهم، بعد أن تم تجريدهم من كل شيء، حتى أراضيهم صادرها فساد النظام ومافيويته، من دون أن يترك لهم حق الاعتراض على ذلك. عقوبة احتجاجهم على ما عانوه كانت جحيميةً، بقدر ما كانت غوطتهم ذات يوم فردوسية، هل يمكنكم تخيل الفرق بين الفردوس والجحيم؟! تخيلوه، لعلكم تدركون ما الذي يحدث في الغوطة التي حوصرت منذ سنوات، وجوع أهلها الخيرين، ومنع عن أطفالها الدواء والغذاء والتعليم والطفولة، وسهل العالم لمرتزقة السلاح والتطرّف أن يزيدوا في الحصار.
أخبرني أحد العاملين في منظمة إنسانيةٍ، توصل مساعداتٍ إلى الغوطة المحاصرة، عن دهشة الأطفال حين تذوقوا الشوكولاتة أول مرة في حياتهم! أخبرني أيضا "غوطاني"، استطاع إحضار عائلته إلى القاهرة، أن طفلته الصغيرة التي ولدت في الحصار، صارت تصرخ كلما أشعل أحدهم الضوء في الليل في بيتهم في القاهرة، خمس سنوات لم تعرف ما هو ضوء الكهرباء.
يقول ابن الوردي في كتابه "عجائب البلدان": "الغوطة هي الكورة التي قصبتها دمشق، وهي كثيرة المياة ، نضرة الأشجار، متجاوبة الأطيار، مونقة الأزهار، ملتفة الأغصان، خضرة الجنان". كيف سنخبرك، يا ابن الوردي، عما يفعلونه اليوم بالغوطة؟ كيف ستعرف عن القنابل العنقودية والنابالم الذي يدمرها؟ كيف سنخبرك عن غاز الكلور والسارين الذي يخنق أطفالها في بث مباشر يومي، يراه العالم برمته، من دون أن يحرّك ساكنا؟ سنحتاج إلى تحرير كتب عن "عجائب الإجرام" لوصف ما يحدث في الغوطة.