الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لا سلامة يا سلامة

لا سلامة يا سلامة

08.10.2018
باسل طلوزي


العربي الجديد
السبت 7/10/2018
أين ترجو السلامة يا سلامة؟ هو سؤال بحجم قبرك الصغير، بعد أن كان سؤالًا بحجم قبرك الكبير، أعني الدنيا التي طاردتك حتى آخر حلم.
أعترف، أولًا، أن الراحل سلامة كيلة هو أحد النماذج القليلة التي أبقت على فلول ثقتي المزعزعة باليسار العربي متوهجة إلى حدٍّ ما؛ لأنني رأيت فيه يساريًّا لا ينحاز للطغاة، ولا يستبدل الكادحين والفلاحين بالطغم الحاكمة، مهما تسربلت بالشعارات الجوفاء.
رأيته قبل شهر ونيّف في إحدى الأماسي الفكرية، في عمَان، وكان موضوعها يتناول العلاقة الإشكالية بين السلطة والشعب في الدولة العربية منذ نشأتها، وراهنتُ أن يكون مثل هذا الموضوع جاذبًا لسلامة كيلة الذي أرهقته هذه الإشكالية، واختطفت سني عمره كلها؛ بحثًا عن حلولٍ جذرية لها، بدليل أنه كان في تلك الأمسية شاحبًا ضامرًا، تغلّفه صفرة قاتمة، بالكاد يحتفظ بتوازن جسده، فأدركت أنه سيرحل قريبًا، من دون أن ينعم بهذه الدولة التي نظّر لها طويلًا.
في تلك الأمسية، بحثت، أيضًا، عن السنوات العشر التي اختطفها نظام بشار الأسد "اليساري" من حياة سلامة كيلة "اليساري". كنت أبحثُ عن ملامح الثأر الذي يُضمره لهذا النظام المستبدّ، غير أنني لم أجده، بل باغتني وجهُه السمح الدافئ، المترفّع عن بلاهات الطغاة التي تزيّن لهم أن سجن أجساد المعارضين والحجر عليها، أو حتى تذويبها بالأسيد، كفيل بوضع حدّ لأحلامهم واندفاعاتهم، وبحثهم الذي لا يكلّ عن الحرية.
يقودني ذلك إلى ثانيًا، وهو أن سلامة كيلة "ليس له من اسمٍه نصيب"، كما يزعم أحد الأمثال العربية، فقد دحض هذا المثل بالملموس، فهو رجلٌ لم يعرف السلامة ألبتّة في حياته التي توزّعت بين المنافي والسجون والمطاردة، على الرغم من أنه كان يستطيع أن يظفر برفاهية "أذناب الطغاة" في دمشق على الأقل، لو أنه رضي أن يكون بوقًا في جوقة المبشِّرين ببشار وسواه من الطغاة، غير أنه لم يُؤثر "السلامة" على حساب مبادئه.
ولأن ذلك كذلك، فقد كشف رحيل سلامة كيلة عن طرازٍ آخر من تفاهة اليسار العربي الذي كان أوْلى به أن يحترم تاريخ الراحل ومواقفه، لكنه راح، عوضًا عن ذلك، يكيل لكيلة صنوفا من الشماتة برحيله. وفي المقابل، يمجد الطاغية الذي سجن كيلة، ونكّل به في زنازينه، وهو اليسار ذاته الذي كشفت وجهَه الكالح ثورات الربيع العربي، لأنه يسارٌ حوّل المطرقة والمنجل من رموز للصناعة والفلاحة، إلى رموز لصناعة الموت وجزّ رؤوس المعارضين وتأبيد حكم الفرد، ولو جاءهم ستالين نفسُه ليقسم لهم إن استبداده كان "ضرورةً موضوعيةً" فرضتها ظروف الحرب العالمية الثانية لمواجهة الغازي النازي، لجزّوا رأسه هو الآخر؛ لأن الاستبداد، في نظرهم، ضرورة أبديّة لا تزول إلا مع زوال الكون برمته، أما مفردات الحرية والديمقراطية وحكم الشعب، فتدخل في خانة "الخيانة العظمى" التي تستوجب سحق المنادين بها، من أمثال سلامة كيلة، حتى لو كان مؤمنًا بالنظرية نفسها التي يزعمون تبنّيها منهاجًا لهم.
ليعذرني سلامة كيلة، إذن، إن فقدت بعده ما تبقى من فلول ثقتي باليسار العربي، فأنا هنا إنما أفقدها لأجله هو، وانحيازًا لمبادئه، وردًّا على الشامتين به، ففي بعض الأحايين، يكون خيرُ وسيلةٍ للإيمان بنظريةٍ هي الكفر بها، خصوصًا إذا كان هذا الإيمان مدعاةً لتمجيد الاستبداد، والاحتفاء برموزه من أمثال بشار الأسد وسواه.
وفي المقابل، على سلامة أن يبحث عن نظرية أخرى، في عالمٍ مغاير، علّه يستطيع هناك أن يجهر بنظريته من دون الخشية على "سلامة" روحه وجسده. ومن يدري، لعل في وسعه هناك أن يحقّق ما لم يحققه في حياته المثقلة بالرعب والمنافي. والأهم، ربما، أنه سيكون له، أخيرًا، "من اسمه نصيب".