الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كيف نقرأ الهجوم الثلاثي على دمشق؟

كيف نقرأ الهجوم الثلاثي على دمشق؟

23.04.2018
حسن شامي


الحياة
الاحد 22/4/2018
هل يمكن تقديم جردة حساب بوقائع وتبعات الضربة الصاروخية الثلاثية على دمشق؟. ومن هي الجهة التي تتمتع بقدر معقول من الصدقية بحيث يسعها القيام بهذه المهمة من دون أن تتعرض مسبقاً لتهمة التلفيق والفبركة والتلاعب والتزوير...؟
صحيح أن البرلمان الفرنسي شهد مناظرة ونقاشاً حول الدور الفرنسي في العملية. لكن النقاش بقي أقرب إلى النشاط الإجرائي منه إلى التقويم الحقيقي. إمكانية أن تقوم وسائل إعلام رصينة بالمهمة تبدو صعبة بالنظر إلى تقلص هوامش الاستقلالية والتفلت من سطوة دوائر السلطة والنفوذ والمال. كل هذا يشير إلى تزايد منسوب الغموض أو الالتباس الذي يعتري الحدث. والمفارقة هي أنه كلما ازداد ادعاء الشفافية واستعراضها كلما ازداد الحجب والتجهيل والتدليس. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بعمليات وأنشطة ينسب لها تدشين انعطافة أو توليد سلطة جديدة، كما كانت الحال في حرب الخليج المديدة، بالأحرى حروب الخليج الممتدة من الحرب العراقية- الإيرانية واجتياح قوات صدام حسين للكويت ومن ثم اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) وغزو القوات الأميركية- البريطانية للعراق.
فالحال أنه على رغم من مرور أسبوع على حصول الهجمة الجوية الأميركية- البريطانية- الفرنسية على دمشق وتدمير بضع منشآت علمية، يكاد السؤال عن فحوى الحدث أن يكون فلسفياً أكثر منه سياسياً. ينبغي أن نتذكر بأن الحدث المذكور كان أشبه بعرض دعائي لضربة معلنة، إذ سبقتها وتبعتها طنطنة إعلامية ودعوية من نوع خاص جعلتها في منزلة غريبة وحائرة بين منازل الفلسفة الأخلاقية ذات الرطانة العالية والمتعالية، وبين حسابات سياسية ضيقة وانتهازية. ينبغي أن نتذكر أيضاً أن ترجيح حصول ضربة بعد الهجوم الكيماوي المزعوم في دوما دفع إلى تقليب احتمالات مواجهة من العيار الكبير، ما جعل الفرائص ترتعد والأنفاس تحتبس إثر الشروع في الضربة.
لا نستغرب أن يعتبر البعض أن المطالبة بجردة حساب هي أمر غير لائق أصلاً ما دام هدف الضربة يدور، في نهاية المطاف، على ركل أو صفع نظام استبدادي وقمعي. فالنبرة الأخلاقية، التأديبية والإرشادية في آن، طغت منذ البداية على مقاربة القوى الغربية للحراك السوري. وعندما ترتفع كثيراً النبرة الأخلاقية لدى قوى اعتادت على انتهاج حسابات المصالح الباردة فهذا يدعو إلى توقع الكثير من السوء ومن الصفقات المركنتيلية.
المسألة السورية كلها لم تخرج أصلاً عن النطاق الأخلاقي المزعوم والمضروب حولها، دولياً وإقليمياً، للتحكم بمسارها وتعرجاتها. بل حتى يمكننا القول إن هذا النطاق المضروب تحول إلى مستنقع سعى فيه كل الأطراف إلى إغراق خصومهم وما زالوا يواصلون اللعبة. إن إطلاق توصيف الإستنقاع يكاد يكفي للتدليل على تحول سورية والسوريين إلى مادة نزاعات مفتوحة ومرشحة للتناسل والتشظي.
ما ظهر حتى الآن من حمولة الهجوم الثلاثي لا يبدد الغموض الذي اكتنف حيثيات اتخاذ القرار الحربي وتسويقه ديبلوماسياً. فالمعطيات المعلن عنها تتحدث عن استهداف مبان ومراكز للبحث العلمي يشتبه بأنها أمكنة لتصنيع أسلحة كيماوية. وليس هناك ضحايا باستثناء بضعة جرحى وفق ما ذكرته الحكومة السورية. بالاستناد إلى معطيات من هذا النوع تساءل كثيرون بحق عن ماهية هذه الضربة التي حبست أنفاس بشر كثيرين تخوفوا من نشوب حرب كبرى.
من الصعب التعويل على دونالد ترامب للحصول على جواب مقنع. سيكون أكثر صعوبة أن يقدم ترامب جردة حساب مقنعة. هناك بالطبع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون البارع في التوليف والجمع، الخلط وفق البعض، بين مشارب واتجاهات ومدارس فكرية وسياسية مختلفة. فهو أكد على أن الضربة ليست إعلان حرب على نظام بشار الأسد وأن الهدف طاول حصراً قدرات النظام الكيماوية. واعتبر ماكرون أن الضربة جديرة بأن تكون مناسبة لتكثيف العمل من أجل حل سياسي في سورية. بهذه الطريقة برر ماكرون الهجوم الثلاثي بأنه لإنقاذ شرف الأسرة الدولية. الحديث عن الشرف استدعى طلباً فرنسياً بسحب وسام الشرف الذي منحه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لبشار الأسد. وقد رد هذا الأخير الوسام إلى أصحابه. ويفهم من هذا أن الاعتبار الأخلاقي الذي استوجب الضربة فاق أي اعتبار آخر. وهذا لا يتعارض، في نظر ماكرون، مع مطالبته نظيره الأميركي بإبقاء القوات الأميركية في سورية للمساهمة في تفعيل الحل السياسي والديبلوماسي.
غموض على غموض. هذا ما يمكن استخلاصه من قرار الهجوم الثلاثي ومن طريقة تسويقه وتبريره. التصريح الصادر عن البنتاغون قبل أيام يلخص جيداً المعادلة. فقد صرح البنتاغون أن النظام السوري قادر على شن هجمات كيماوية محدودة في المستقبل. ويعني هذا أن الضربة الثلاثية التي وجهت إلى بعض مراكزه أضعفت قدرات النظام الكيماوية، لكنه مع ذلك يبقى موضع اشتباه كبير مما يستدعي وضعه على الدوام تحت مجهر المراقبة والعقاب وجهوزية التدخل. الضربة التي يخيل لكثيرين أنها لم تقع كانت في الواقع منصة رسائل في اتجاهات مختلفة.
في مقدم هذه الرسائل إفهام الروس والإيرانيين والأتراك أنه لن يكون لهم أن يرسموا وحدهم خريطة طريق لمعالجة الأزمة السورية. في هذا السياق يتواصل تبادل الاتهامات ويجري على قدم وساق وهو لن يتوقف في المدى المنظور. فقد اتهمت وزارة الخارجية الأميركية حكومتي روسيا وسورية بتطهير موقع الاعتداء الكيماوي في دوما، كما اتهمت الإدارة الأميركية الحكومة السورية بتأخير وصول المحققين الدوليين في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية. هذا فيما اتهم نائب وزير الخارجية الروسية مسلحي المعارضة السورية في دوما بمنع المفتشين الدوليين من الوصول إلى موقع الاعتداء المزعوم.
ينبغي الحفاظ على مبررات التدخل. هذا ما أفصحت عنه الضربة الأخيرة التي مهد لها في الواقع القصف الإسرائيلي لمطار تي فور واستهداف قوات إيرانية فيه. وما دام النقاش يدور على قابلية النظام لارتكاب أعمال وحشية وإجرامية كقصف السكان بمواد كيماوية، فإن مبررات التدخل ستبقى جاهزة. ولا يفيد كثيراً أن نذكر اللاعبين بأن القابلية موجودة لدى الجميع وبأن الخير والشر لا تقررهما هويات طبيعية وأصلية، بل وضعيات وشروط تختزن صراعات تدور على العدل ورفض الامتيازات والغلبة والسيطرة واحتكار السلطة.