الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أن تكون صحفيا في سورية.. الأسد، التحالف، داعش ومشتقاته!

أن تكون صحفيا في سورية.. الأسد، التحالف، داعش ومشتقاته!

30.10.2014
رنا الصباغ



الغد الاردنية
الاربعاء 29-10-2014
ماذا يعني أن تكون صحفيا محترفا في سورية المشرذمة بين نظام الرئيس بشار الأسد، والحكومة السورية المؤقتة وجماعات ائتلاف المعارضة، أو تحت رحمة تنظيم "داعش" ومشتقاته؟
الجواب: "عميل مفترض"، و"خائن"، و"جاسوس للصليبيين"؛ تحمل روحك على كفيك ما لم تؤد الولاء لمن يجلس على مقاعد السلطة، وتبايعه في بلد تحول إلى مقبرة للصحفيين، منذ اندلاع التجاذبات بين النظام ومجموعات تنشد إصلاحات مشروعة، قبل أن تدخل على الخط قوى إقليمية ودولية مدعومة بأجهزة استخبارات لتصادر "سلمية" الثورة، وتحيل سورية إلى جبهة حرب استنزاف مفتوحة على كل الاحتمالات.
هكذا، تظل الحقيقة والصحافة المستقلة "العدو" المستهدف من معظم الأطراف، لأنهما (الحقيقة والصحافة المستقلة) تدينانهم وتظهرانهم على حقيقتهم، بحسب شهادات جمعتها كاتبة المقال خلال لقاءات بصحفيين يعيشون في مناطق سورية مختلفة، يقامرون بحياتهم في بلد تحول إلى حمام دم.
وفق تصنيفات لجنة حماية الصحفيين الدولية، بحسب تقريرها الصادر في العام 2014، بقيت سورية للسنة الثانية البلد الأشد فتكا بالصحفيين. ويواجه الصحفيون هناك تهديدات جديدة، بعد أن عززت الجماعات الإسلامية المتطرفة نفوذها في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، واحتدام الاقتتال فيما بينها.
في العام 2013، اختطف عدد غير مسبوق من الصحفيين، يعتقد أن عددا كبيرا منهم محتجزون لدى تنظيم "داعش" المنشق عن "القاعدة". لكن عمليات الخطف والترهيب لا تقتصر على هاتين المجموعتين المتطرفتين؛ فالفصائل المسلحة المرتبطة بالنظام، وتلك المرتبطة بقوات الثوار، متورطة أيضا في انتهاكات ضد الصحافة؛ بما في ذلك عمليات قتل واحتجاز. وعلى امتداد العام، نجحت الجماعات المسلحة في إسكات الأصوات المعارضة، والإفلات من العقاب. ويتناقص عدد الصحفيين المستعدين لتحمل المخاطر من أجل تغطية الحرب الأهلية في سورية، إذ يرفض العديد من الصحفيين الدوليين دخول هذا البلد، في حين يفر صحفيون محليون إلى المنافي خشية تعرضهم للقتل.
ويصنف النظام السوري كاميرا الموبايل على أنّها عدوّه الأول والفاعل منذ انطلاق الثورة. الرئيس بشار الأسد عبّر في أحد خطاباته عن هذه الخشية، حين أعلن أن المظاهرات لا تزعجه بقدر من يصورها.
وقد تعامل النظام بعدائية مع الصحافة منذ اشتعال الثورة؛ فكل صحفي مشتبه به حتى يثبت العكس، ما جعل سجون النظام تغص بالإعلاميين، لمجرد الاشتباه أو التفكير بأنّ ما يكتبونه قد يفسر لمصلحة "المؤامرة الكونية" ضد سورية. ومن لم يقبع في الزنازين، تعرض للتصفية أو تكسير الأطراف، كما حصل مع مبدع الكاريكاتير علي فرزات.
لم يعد النظام يطيق النقد حتى أقلّه؛ بات يشك بكل من حوله. واقتنع قادة النظام بأنّ "المتآمرين" قد يصنعون مجسمات لدمشق وللرئيس في دولة أخرى لإنتاج فيلم السقوط. كما اقتنعوا أيضا من مخططي الإعلام بأنّ النشرة الجوية على قناة "العربية"، مثلا، تحمل أوامر عمليات مشفرة يتحرك المتمردون على الأرض بموجبها. كذلك أقنعوههم بالشك بأنّ من يتحدث بشأن النقد المحلي ونسبة التضخم، إنما يساعد المتآمرين على إسقاط النظام من خلال تدمير العملة، من دون أن يقيموا وزنا لتأثير العقوبات الاقتصادية واستنزاف الحرب.
في المحصلة، اعتقل صحفيون على خلفية العملة المحلية والتضخم، واعتقل آخرون لأسباب تتعلق بنشر أخبار عن القمح أو بعض المزروعات التي تعتبرها السلطات "محاصيل استراتيجية".
أحد الصحفيين ممن قابلتهم كاتبة المقال، قبع في فرع الأمن العسكري في كفر سوسة لثمانية أشهر قبل أن يفرج عنه، ضمن صفقة تبادل أسرى بين النظام والمعارضة. وهو يعمل الآن خارج وطنه مع وسيلة إعلام عربية. وقد سجن لأنه بث فيلما يظهر أولى طلعات مقاتلات "الميغ" ضد مدنيين عزل؛ فألصقت به تهم تمويل ودعم الإرهاب بعد انتزاع اعترافاته تحت جلسات تعذيب.
كوابيس الاحتجاز ما تزال تطارد هذا الشاب، إذ كان بين معتقلين سُخّروا لنقل جثث من تمت تصفيتهم من خلال "كسر العنق" أو "طق عظمة الرقبة"، أو قضوا بفعل المرض والجوع. كانوا يكومون الجثث في الحمام، قبل أن يأمروا معتقلين بحملهم إلى ساحة السجن ورميهم في "السيارة المصندقة" الخاصة بنقل الجثث إلى مقابر دفن جماعي في ريف دمشق. ما تزال حشرجات معتقل تزنّ في أذن هذا الصحفي الذي أُمر برميه في سيارة الموت مع أنه لم يلفظ أنفاسه الأخيرة. وفعل ذلك بانهيار نفسي، فقط لينجو من تهديد السجان.
الأسوأ من ذلك الوقوع في قبضة تنظيمات إرهابية، أو التعرض لتقريع ومطاردة جهات معارضة لا تقبل بقاء الصحفي في المربع الرمادي؛ ف"إما معنا أو ضدنا".
في مسارح "داعش"، يأتمر الصحفي بتعليمات التنظيم. لا تؤخذ صورة أو ينشر مقال إلا بموافقة أعضائه، الذين يكون تعاملهم مع صحفيين تابعين لمؤسسات إعلامية ثورية أو منتمين لتنسيقيات المعارضة، من خلال مصادرة أدواتهم لمصلحة مكاتب "داعش" الإعلامية، حسبما حصل مع أحد الزملاء. وفي حال خالف الصحفيون التعليمات، فإن مصيرهم السجن أو الجلد أو الإعدام ذبحا بحسب التهمة. أما التعامل مع صحفيين أجانب فله اعتبارات أخرى: إذ يشكلون غنيمة أو مشروع تبادل منفعة أو ورقة مقايضة.
حال الصحفيين العاملين في مناطق تابعة للحكومة السورية المؤقتة أو ائتلاف المعارضة ومجالسها المحلية، أفضل بكثير من زملائهم في مناطق النظام أو "داعش"؛ ليس لإيمان أصحاب النفوذ هناك بأهمية حرية الإعلام والديمقراطية، وإنما بسبب ضعف مؤسساتهم التنفيذية والسيادية، وقوة إعلام الثورة الذي يقف بالمرصاد لكل من يحاول الاستبداد بقراره.
للخروج من مطرقة النظام وسندان "داعش"، ينشط صحفيون مهنيون يبحثون عن الحقيقة، بأسماء وهمية وحسابات مبهمة على "فيسبوك" و"تويتر". يعملون بسرية، وينشرون فيديوهاتهم وقصصهم، ويتحدثون للمحطات العالمية عبر "سكايب" بأسماء باتوا مشهورين بها، لكنها لا تمت لأشخاصهم بصلة.
النظام يضيق ذرعاً بمراسلي "الجزيرة" و"العربية" و"سكاي نيوز" الذين يبثون تقارير من جوبر والمليحة وداريا، بل ومن قلب دمشق، من دون أن يستطيع الإمساك بهم أو التعرف إلى أشكالهم الحقيقية. و"داعش" تضيق ذرعاً بمجموعة إعلاميين ناشطين من قلب الرقة، باتوا يقضون مضاجع التنظيم بتقارير تحمل عنوان "الرقة تذبح بصمت".
يفاقم هذه المخاطر التي تحف بحياة كل من قرر الانضمام إلى جيش السلطة الرابعة، صعوبة الحياة اليومية مع انقطاع المياه والكهرباء، ونقص الأدوية، وانعدام الأمن والأمان، والموت والمرض.
زميل في مدينة سراقب بريف حلب، يستيقظ كل يوم على صفارات الإنذار التي تنبه إلى اقتراب مروحيات في سماء مدينته، على وشك تنفيذ هجوم أو إسقاط براميل متفجرة. فيخطف حاسوبه الشخصي، وإنترنت مركب ب"ساتلايت" ومشحون ببطاريات ومعدات أخرى، ليراقب المشهد ويغطيه بتقارير موثقة. لم يعد يفرق بين الحياة والموت. ويقف مكتوف الأيدي أمام صرخات الأمهات والأطفال لأنهم يترددون في الحديث إلى الإعلام، خشية كشف مناطق نزوحهم، أو لأن الإعلام عجز عن تغيير الرأي العام الدولي أو حتى المحلي من أجل نجدة أهل سورية.
زميل آخر يقيم في شمال سورية الخارج عن سيطرة النظام، يستذكر اعتقاله على أيدي قوات النظام في 27 /4 /2011 لمدة شهر، لأنه صور مظاهرة في شوارع دمشق كانت تهتف "يا درعا نحن معاكي للموت". وقبل أشهر، اعتقله تنظيم "داعش" في سجن الرقة ضمن مبنى المحافظة. كانت الأشهر الثلاثة كفيلة بتغيير "ملامح جسدي وفكري"، كما يقول. في هذا المكان معتقلون لا يعرف عنهم العالم الخارجي. أصوات التعذيب لا تترك لك مجالا للتفكير سوى ب"الأنا"، مثلما كانت عليه الحال في سجون النظام. لا وجود للزمن داخل السجن، حسبما يستذكر. فالصورة ثابتة، والوقت لا يتحرك. فقط أخبار الوافدين من الخارج تبقيك على قيد الحياة، وتعطيك أملا بالخروج من قبضة السجان. القتل والتعذيب اللذان تشاهدهما بأم عينيك، يوصلانك لحال من البلادة الجسمية أو "التمسحة".
الصحفيون في مناطق النظام والحكومة المؤقتة و"داعش" ينامون وينهضون على هاجس القمع وأصوات القصف والانفجارات. محاصرون بأصوات الموت وتهديد السلطة، وإن تفاوتت نوعيتها وطريقتها.
حماكم الله ووفقكم في مسعاكم لنقل الصورة وتوثيق الأحداث وكتابة المسودة الأولى للتاريخ، بعد أن اخترتم هذه المهنة الأخطر والأكثر نبلا، في أخطر بقعة على وجه الأرض.