الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هل دفع الأسد ثمن بقائه في السلطة؟

هل دفع الأسد ثمن بقائه في السلطة؟

12.05.2019
حيّان جابر


جيرون
السبت 11/5/2019
يتساءل البعض عن دلالات الأخبار والأحداث الأخيرة، وبالتحديد المتعلقة بالاعتراف الأميركي بسيادة الاحتلال على الجولان السوري، وإعلان الاحتلال عن استعادة رفات أحد مقاتليه من داخل سورية عبر دولة ثالثة، وعن المغزى من التصريح الروسي الواضح والصريح حول الموضوع، والصادر عن الرئيس بوتين الذي يقول فيه بالحرف الواحد: “إنه كان في عداد المفقودين. وحدد عسكريونا بالتعاون مع العسكريين السوريين مكان دفنه”. الأمر الذي دفع كثيرًا من السوريين ومن المحللين والسياسيين إلى اعتبار ذلك بمنزلة ثمن بقاء الأسد في السلطة حتى أمد غير معلوم. وهو ما أود التمعن به عبر العودة إلى مقومات حكم الأسد، منذ بداياته حتى اليوم.
لا يمكن اختزال نجاح الأسد في حكم سورية قرابة خمسين عامًا، ببيع الجولان وحماية الاحتلال، دون الأخذ بجميع الأسباب والعوامل التي مكنت الأسد من ذلك، إذ يستند حكم الأسد إلى مجموعة من الأسباب المتداخلة والمترابطة التي يصعب الفصل بينها، كما يستحيل ترتيبها وفق أهميتها الحقيقية، لذا سوف أذكرها وفق التسلسل الذي أجده منطقيًا، وأولها قتل الحياة السياسية السورية، في كل من المجتمع والمؤسسة العسكرية، عبر استكمال ما تم إنجازه قبل وأثناء تجربة الوحدة مع مصر، من أجل تكريس القضاء على جميع القوى والحركات السياسية التاريخية والناشئة، وخصوصًا داخل الجيش السوري، من خلال اعتقال جميع الناشطين والكوادر المدنية والعسكرية، وصولًا إلى تصفية البعض منهم، ودفعهم إلى مغادرة الوطن أو طردهم منه.
ومنه ننتقل إلى العنصر الأمني، أو القبضة الأمنية التي غدت وسيلة النظام الوحيدة في التعامل مع أي تباين في وجهات النظر مع النظام وسياساته الداخلية والخارجية، حتى لو كانت تباينات داخل مؤسسة الحزب الحاكم، على اعتبار الحزب هو الحاكم في عهد الأسد، أو في إطار الجبهة التقدمية التي شكلها النظام لجمع طيف من القوى والأحزاب الشكلية، كي تضفي شرعية سياسية على حكمه وعلى ممارساته بعد إفراغها من أهم عناصر قوتها التي تتمثل في غياب أي شكل من أشكال التواصل مع الشعب السوري، وشراء ولائها بحفنة من الليرات والمناصب والامتيازات الهامشية، مثل المحاصصة البرلمانية والوزارية، ومحاصصة التعيينات والتوظيفات الإدارية والخدمية إجمالًا، بما لا يشمل القطاعات المهمة والحساسة من قيادات الفروع الأمنية، وأهم المراكز والفرق العسكرية، وأهم المؤسسات الإعلامية والسياسية والاقتصادية، التي وزعها النظام بين فئات مضمونة الولاء والتبعية والإخلاص لرأس النظام السوري.
كما عمل النظام -اقتصاديًا- على مستويين، كي يضمن السيطرة على مجمل المجتمع السوري، الأول عبر ترغيب وترهيب كبار التجار ورجال الأعمال السوريين، من أجل إرغامهم على عقد تحالف مصلحي مع السلطة، يضمن من خلاله استمرار أعمالهم واستثماراتهم تحت مظلة وحماية النظام، من خلال مشاركة ربحية تقوم على منح حصة مقتطعة من الأرباح لبعض رجال النظام نظير الحماية والاستمرارية. بينما كرّس المستوى الثاني جلّ اهتمامه على كسب ود الطبقات الشعبية المفقرة، من خلال مجموعة من الإجراءات التي تكفل تأمين الحد الأدنى للمعيشة للغالبية العظمى من السوريين، من خلال تضخيم دور الدولة الاجتماعي، حتى أصبح دورًا وحيدًا، عبر توزيع المواد التموينية؛ ومجانية التعليم والطبابة في إطار مؤسسات الدولة، وعبر مكافحة البطالة بالبطالة المقنعة التي استندت إلى توظيف أعداد كبيرة من السوريين ضمن مؤسسات الدولة، بشكل زائد عن حاجة هذه الدوائر والمنشآت، بغرض تحويل الدولة والنظام إلى أعلى سلطة اجتماعية تربط المجتمع السوري بها مباشرة؛ كما ساهم قانون الإصلاح الزراعي في كسب ود المزارعين والعاملين في القطاع الزراعي، خصوصًا محدودي الدخل والملكية منهم؛ حيث تمت كل هذه الممارسات في ظل غياب كامل لأي مشاريع تنموية حقيقية على جميع الأصعدة العلمية والخدمية والصناعية، وعليه أصبحت الدولة ممثلة بنظام الأسد هي مصدر حياة ورزق السوريين المباشر وتقريبًا الوحيد، خصوصًا في الأوساط الفقيرة، وأصبح الولاء للنظام هو معيار الارتقاء الوظيفي والاجتماعي الوحيد؛ لذا جهد السوريون كثيرًا من أجل كسب ود النظام، بغرض الحفاظ على مصدر رزقهم الوحيد، والحصول على أبسط الحقوق الدستورية، من العمل والطبابة والتعليم وغيرها من التفاصيل المعيشية البسيطة الأساسية، وعلى ذلك، غرق المجتمع في دوامة اللهاث خلف النظام، مهما استفحلت مظاهر الفساد والمحسوبيات والرشوة، وغابت الأصوات النقدية والوطنية، أو لنقل غُيّبت، التي تعي دور الدولة وتحاول الفصل بينه وبين دور النظام، والتي تسعى إلى محاكمة النظام على غياب الرؤى التنموية، وعلى دوره الواضح وشبه العلني في نهب المال العام.
وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى سياسة نظام الأسد الخارجية، ودورها المهم في تمكين الأسد من حجز سورية حتى اللحظة، حيث استندت هذه المنهجية إلى سياسات توافقية مع جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين على امتداد مرحلة حكم الأسد، فمن ناحية صنف حكم الأسد الأب ضمن المعسكر الشرقي، أو معسكر الاتحاد السوفيتي، وهو المعسكر النقيض والمعادي للمعسكر الأميركي، إلا أن الواقع قد عكس نجاح الأسد في الحفاظ على علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة الأميركية، منذ بدايات سيطرته على الحكم حتى اللحظة، وقد مرت هذه العلاقة بمراحل تقارب شديدة في عهد الأسد الابن، تعكس سعي الأسد للتقارب من الإدارة الأميركية بالتزامن مع الحفاظ على خطاب الممانع المتوجس من النفوذ الأميركي. لكن وبالمجمل فقد تحاشى الأسدان الدخول في صدام مباشر أو غير مباشر مع أي من حلفاء أميركا في المنطقة، بل ساهم النظام في تحقيق الأهداف والمطالب الأميركية في المنطقة، عبر تفاهمات والتزامات علنية وسرية تلبيها كاملة، وهو ما يمكن تلمّسه، من خلال قوة ومتانة العلاقة السورية السعودية (إذا ما استثنينا المرحلة التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري) والعلاقة المصرية السورية خصوصًا في مرحلة حكم حسني مبارك.
كما نفذ النظام السوري مجمل التعليمات الأميركية إبان سيطرته على لبنان، وفي ما يخص ضبط الحدود السورية العراقية، وانخرط في حرب الخليج الأولى تحت قيادة الولايات المتحدة، وقدم جميع الخدمات والمساعدات المطلوبة منه دوليًا وأميركيًا على طول مدة حصار النظام العراقي، حتى احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية، بل حتى اللحظة. في حين لم ترق علاقة النظام السوري مع النظام الإيراني إلى مستوى يثير مخاوف وغضب المجتمع الدولي والدول الإقليمية إلا مؤخرًا، بل كانت تحت الأنظار وبقبول إقليمي ودولي، حتى اندلاع الثورة السورية التي تبعها تدخل وتصاعد كبير في النفوذ الإيراني داخل سورية، حتى بات بمثابة خطر أو جرس إنذار يقض مضاجع العديد من الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. كما يعكس التزام النظام باتفاقية فك الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي نهج النظام الخارجي المهادن، بل المستسلم، مع جميع الأطراف، وعلى رأسها الاحتلال، وهو ما يتجسد في حماية الحدود المشتركة، والحيلولة دون إبراز أي نشاط مقاوم أو تحرري انطلاقًا من الأراضي السورية، واعتقال أي شخص أو مجموعة تتجرأ على التفكير بمثل هذا الأمر، إضافة إلى الانحناء السوري الرسمي أمام جميع ضربات واعتداءات الاحتلال، وتجاوزها من خلال تكرار ذات العبارة السمجة: “الاحتفاظ بحق الرد في المكان والزمان المناسبين” وما زلنا بالانتظار. ومن المفيد الآن استعادة الأزمة السورية التركية، بغرض توضيح النهج الاستسلامي الأسدي، حيث تراجع الأسد عن جميع مواقفه وعنترياته بسرعة البرق، من أجل إزالة أي توتر محتمل مع الجار التركي المحتل لجزء من الأراضي السورية، وهي القضية المعروفة بتسليم عبد الله أوجلان، أحد حلفاء النظام في ذلك الحين، وقد أسفرت عن توقيع (اتفاق أضنة) الذي يمنح الجانب التركي حق التوغل داخل الأراضي السورية حتى عمق 5 كم، من دون الحاجة إلى إذن من الجانب السوري.
إذًا نجح النظام السوري في حكم سورية، عبر تحقيق مجموعة من الشروط الداخلية والخارجية، التي يمكن اختزالها داخليًا بحجز المجتمع وأسره، وربط مصيره مباشرة بمصير النظام معيشيًا وسياسيًا، وخارجيًا بالنهج التوافقي الاستسلامي المهادن الذي يتجنب الدخول في خضم الصراعات الإقليمية والدولية، ويعمل على كسب ودّ جميع الأطراف، بالتزامن مع تبني نهج إعلامي وخطابي صدامي ومزاود في جميع القضايا، وعلى رأسها القضايا الوطنية والقومية، ومنها تحرير فلسطين، وذلك بغرض تسويق نهج وسياسات النظام داخليًا. وعلى ذلك؛ لا يمكن ربط استمرار حكم الأسد بنجاحه في تلبية حاجات وشروط الاحتلال والمجتمع الدولي فحسب، وإن كانت ركيزة أساسية في ذلك، بل لا بد من توسيع مجال الرؤية والتحليل، كي نتمكن من تقييم دور الأسد الداخلي والخارجي في المرحلة الراهنة، لنتمكن من فهم أسباب التطورات الأخيرة وأبعادها.
فقد شهدت الظروف والأوضاع السورية تغييرات عديدة على طول حكم الأسد، وإن كانت طفيفة وبطيئة، لدرجة كان يصعب تلمسها وقياسها، في حين أحدثت الثورة السورية ونتائج إجرام وعنف النظام معها نقلة نوعية وجذرية بمجمل الأوضاع والظروف الداخلية. فمثلًا تراجعت قدرة الدولة على حجز المجتمع منذ أواسط التسعينيات بصورة بطيئة جدًا، نتيجة عدة عوامل داخلية وتقنية، منها الثورة التكنولوجية الإعلامية التي أدت إلى تعدد مصادر الخبر والمعلومة، وساهمت في تعرف السوريين إلى أبرز الشخصيات والقوى والتجمعات المعارضة التاريخية والصاعدة حديثًا، مثل إعلان دمشق في بدايات القرن الحادي والعشرين، بينما أصبح الفضاء الإلكتروني بعد الثورة ساحة السوريين المفضلة التي يستقون منها أخبارهم ومعلوماتهم وتحليلاتهم بصورة شبه كاملة حتى في أوساط المؤيدين، حتى بات من شبه المستحيل على الأسد ونظامه الأمني الاستبدادي السيطرة على توجهات وآراء وأفكار السوريين من مؤيديه ومعارضيه.
أما على الصعيد العسكري، فيصعب تلمس التغيرات داخل القطاع العسكري في المرحلة السابقة للثورة، إذا ما استثنينا فصل القطاعات العسكرية بعضها عن بعض، وعزلها بشكل شبه كامل، فضلًا عن زرع الجواسيس داخل جميع التجمعات العسكرية مهما صغر حجمها، وبغض النظر عن حجم الثقة بالمسؤولين عنها، حتى تحوّل الجيش إلى ما يشبه الشبكة الأمنية التي يتجسس فيها الجميع على الجميع بغض النظر عن التراتبيات العسكرية الهامشية وفق الحكم الأمني. كما عمد النظام إلى تحويل الجيش إلى قسمين: الأول هو جيش النظام الحقيقي الخاضع له والمدار من قبل المافيا الحاكمة، كحالة الفرقة الرابعة والأولى والحرس الجمهوري، وبالتالي فهو المسؤول عن حماية النظام وأهم مؤسساته، وهو المسيطر على أهم المواقع الحساسة، ويمتلك الأسلحة والمعدات الأكثر تطورًا والأكبر حجمًا، ويخضع لأفضل أنواع التدريب والتطوير، مقارنة بالجيش الآخر الذي يصح وصفه بالجيش الشعبي، العاجز عن إحداث أي تغيير سياسي أو عسكري أو اجتماعي بصورة منفردة، نتيجة إهماله وثانوية دوره وضعف قدراته وإمكاناته إجمالًا. حيث تجدر الإشارة إلى أن غالبية حالات الفرار والانشقاق العسكري حصلت في ما أطلقنا عليه تسمية “الجيش الشعبي”، أي لم تحصل من داخل القطع والفرق والقطاعات العسكرية الرئيسية والمهمة سوى ببعض الحالات النادرة جدًا، كما يجب التنبيه إلى تفكك وتصدع وترهل المؤسسة العسكرية كاملة، على ضوء إصرار النظام على قتل شعبه الثائر في وجهه، مما أدى إلى فرار العديد من السوريين من الخدمة الإلزامية وتجنبهم الالتحاق بالمؤسسة العسكرية، اعتراضًا على نهج النظام الدموي والإجرامي، أو طمعًا بالتطوع داخل بعض الميليشيات المحسوبة على النظام والممولة من قبل رجال أعمال سوريين، رامي مخلوف مثلًا، أو عبر دول حليفة للنظام مثل روسيا وإيران، حتى أصبحت الميليشيات والقوى العسكرية داخل سورية كثيرة وعديدة لدرجة يصعب السيطرة عليها وعلى توجهاتها الحالية والمستقبلية.
أما على المستوى الاقتصادي فيلحظ منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم، تحوّل النظام نحو تحرير الاقتصاد، عبر تراجع دعم المواطن وخصخصة الكثير من القطاعات الخدمية، ومنها البدء في خصخصة قطاعي الصحة والتعليم، وتقليل كمية ونوعية المواد الغذائية الموزعة على المواطنين، وتخفيض الدعم عن المحروقات وصولًا إلى إلغائه تقريبًا، وفتح الأسواق أمام البضائع والسلع الخارجية وخصوصًا التركية، ما أدى إلى ارتفاع كبير في تكاليف الحياة اليومية، وانهيار غالبية المنشآت الصناعية الصغيرة، ومحاصرة صغار المزارعين، لصالح نمو نفوذ أصحاب رؤوس الأموال وغالبيتهم من بطانة النظام والمحسوبين عليها. وقد تسارعت الانهيارات الاقتصادية وتزايد الفرز الطبقي  بعد الثورة، وبرزت شريحة جديدة من أصحاب رؤوس الأموال من ممثلي مصالح القوى الخارجية، ومن التربح العسكري، عبر نهب الممتلكات الشخصية وخصوصًا الصناعية، ونهب الثروات السورية، وفرض الإتاوات على الأفراد والسلع، حتى بات غالبية المجتمع السوري يعيش تحت خط الفقر، وشحت المنتجات الصناعية والزراعية السورية حتى تكاد تختفي نهائيًا بفعل سياسات النظام الاقتصادية من جانب، والأمنية والعسكرية من جانب آخر، التي عملت على حرق الأرض السورية وتدميرها في سبيل الحفاظ على الحكم.
وقد تزامن تحول النهج الاقتصادي السوري قبل الثورة، مع تحوّل أو تغيير في علاقات النظام وتحالفاته، وإن حاول النظام الحفاظ على علاقة مقبولة مع جميع الأطراف، فقد تراجع التعاون مع روسيا الاتحادية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ضمن مساعي النظام لتطوير علاقاته الاقتصادية والسياسية مع دول الاتحاد الأوروبي أولًا، والولايات المتحدة الأميركية ثانيًا، عبر الوسيط التركي، هذا الوسيط الذي أصبح في غضون حكم الأسد الابن نافذةً ومرجعًا وعصب النظام شبه الوحيد، إذ سارع النظام في هذه المرحلة إلى استنساخ القوانين التركية، وفتح الأبواب واسعة أمام ولوج مختلف أنواع وأشكال البضائع التركية، وسُلّم الرئيس التركي أهم المواضيع والمسائل الخارجية، من إدارة العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلى إدارة ملف العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي. وهو ما تزامن مع الحفاظ على علاقة هادئة ومتوازنة مع إيران، وبدرجة أقل مع روسيا والصين، وقد انعكس ذلك قليلًا على المسائل الداخلية، خصوصًا في ما يتعلق بعلاقة النظام مع تنظيم الإخوان المسلمين السوريين، حيث تصاعدت الأنباء التي تتحدث عن قبول مشاركتهم وانخراطهم في الحكم أو في بعض مؤسساته، خصوصًا الاقتصادية، نتيجة الضغط والطلب التركي.
لكن لم تدم هذه العلاقات بعد اندلاع الثورة، نتيجة إصرار النظام على رفض تقديم أي تنازل، مهما كان صغيرًا لأي جهة كانت، مما فرض تحولًا في الموقف التركي من نظام الأسد، خشية أن يؤدي تعنت النظام إلى فقدان تركيا لنفوذها السياسي والاقتصادي داخل سورية، في حال انتصار الثورة، حيث تمثل العلاقة التركية السورية الرسمية والشعبية ورقة أردوغان الرابحة دوليًا، وخصوصًا أوروبيًا. كون سورية وتركيا بوابة أوروبا على المنطقة، ومنهما تنطلق مئات المشاريع التجارية والحيوية والخدمية واللوجستية التي كانت متداولة إعلاميًا في ذلك الوقت. وعلى ضوء رفض تركيا دعم إجرام الأسد، أجبر النظام على إعادة إحياء علاقاته مع روسيا الاتحادية، وإنعاشها مع إيران، مقابل دعمهما لحربه على الشعب السوري، وهو ما أفضى اليوم إلى هيمنتهما على الدولة، نتيجة الضعف والانهيار الذي أصاب أهمّ مؤسسات النظام أمنيًا وعسكريًا، وبحكم نجاحهما في الحيلولة دون سقوط النظام وانتهائه، كما صرحوا بذلك أكثر من مرة.
وعلى ضوء كل ذلك؛ نلمس بوضوح حجم فقدان النظام لأهم العوامل التي ساهمت في سيطرته على حكم سورية منذ سبعينيات القرن المنصرم، وخصوصًا العوامل الداخلية، وهو ما يقدم تفسيرًا وشرحًا لأسباب الغضب والاحتقان الشعبي الذي جسدته الثورة السورية، والذي يبدو اليوم آخذًا في التصاعد والنمو، حتى يكاد يفقد النظام سيطرته الكاملة على مجمل الشعب السوري، بعدما تراجع أو انتهى دور الدولة الاجتماعي، وفي ضوء عجز المنظومة الأمنية عن التحكم في المجتمع وتوجهاته وآرائه نتيجة التطور التكنولوجي الحاصل عالميًا، وتصاعد ميل السوريين للبحث عن الحقيقة من مصادر موثوقة، وبحكم تعدد المرجعيات العسكرية وتعدد ولاءاتها وأهدافها، وهو ما يؤدي إلى تصادم المجموعات المحسوبة على إيران مع تلك المحسوبة على روسيا بين الفينة والأخرى. لنصبح أمام واقع جديد، فقد النظام فيه جميع أدوات سيطرته على سورية، وهو ما يعيه ويدركه الاحتلال الإسرائيلي والمجتمع الدولي جيدًا؛ ويجعلهم يحثون الخطى من أجل انتزاع المزيد من المكاسب، ولا سيما في ما يتعلق بالأمور التي يمسك بها النظام تاريخيًا بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن استمراره في حكم سورية التي نعرفها يحتاج إلى معجزة يستحيل تحقيقها. وبالتالي يبدو أن الأسد يدفع بذلك ثمن بقائه حيًا، وربما يأمل أن تمنحه المفاوضات الدولية فرصة التحكم ولو بجزء صغير من الجغرافيا السورية، لكني أعتقد، في ضوء الحضيض الذي أصبح به الأسد ونظامه، أن ذلك أيضًا مجرد أوهام وأحلام أسدية لا أكثر.