الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في مجاهيل الخوف

في مجاهيل الخوف

29.11.2018
حسان الأسود


سوريا تي في
الاربعاء 28/11/2018
 خلال مسيرة تطوّر المجتمعات البشريّة منذ آلاف السنين، تأطّر الإنسانُ ضمن قوالب ومسارات حياتيّة مختلفة، فكانت الروابط مع الطبيعة أولاً، ثم العلاقات داخل الأسرة وداخل القبيلة، وتلتها العلاقات المجتمعيّة على اختلاف تنوّعاتها، بدءا من المدرسة وانتهاءً بالسلطة الحاكمة. في كل جوانب هذه العلاقات وضمن هذه الأطر المختلفة وُجِدَ دوماً عنصرُ المصلحة بين البشر، والذي كان على الدوام يسبّبُ التوتر بين الأفراد وكذلك بين الفئات والطبقات بسبب اختلاف المصالح.
سبّب تضاربُ المصالح على الدوام صراعاً على الموارد والنفوذ، وكان من نتيجة ذلك أن استبدّ القلّة من أصحاب السلطة بمصادر الثروة، مما جعل البقيّة من الناس في حالة صراع دائم من أجل البقاء. وهنا يأتي الاصطفاف الأكبر في تاريخ البشريّة بين حَمَلَةِ رايات قيم العدالة والمساواة بين البشر ووجوب تكافؤ الفرص بينهم نظراً لكونهم جميعاً من نفس الطينة، وبين حملة رايات الاستبداد والاستئثار والتمييز استناداً إلى المنبت أو العرق أو اللون أو الدين أو القوميّة، والذي كان مردّه على الدوام إلى فكرة احتكار رأس المال.
كثيرٌ من الفئات المجتمعيّة تعيش هذا التوتر وهذا الخوف، الذي يمكنُ اعتباره أحياناً بمثابة خوف وجودي على العنصر أو الفئة المختلفة عن الطابع العام للمجتمع
يولّدَ هذا الصراعُ المستمر حالة من التوتّر بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة، توتّرٌ قد يصلُ إلى درجة خوفٍ على المصلحة الفرديّة نابعٍ من خوف الجماعة أو الفئة أو الطبقة الأكبر التي ينتمي إليها الفرد المحدّد. طبع هذا التوتّر وهذا الخوف – المصلحيّ – المجتمعات البشريّة بشكل عام، فأصبح الخوفُ شكلاً مميّزاً من أشكال العلاقات المجتمعيّة.
كثيرٌ من الفئات المجتمعيّة تعيش هذا التوتر وهذا الخوف، الذي يمكنُ اعتباره أحياناً بمثابة خوف وجودي على العنصر أو الفئة المختلفة عن الطابع العام للمجتمع. مثالٌ على ذلك حالة الريبة والشك الدائمين من مجتمع الأكثرية المحيط التي تعيشها الأقليات القومية والدينية والمذهبية، في البلدان التي لا يسودها القانون، ولا تحكمها الديمقراطية، ولا تُعتَبرُ المواطنة فيها العنصر الأساس في تقييم دور الفرد والجماعات، وموقعهما من النظام السياسي والقانوني للدولة.
عندما تتماهى السلطة الحاكمة مع الأكثريّة العدديّة لمجتمع ما، أياً كانت طبيعة هذه الأكثرية، سواءٌ أكانت قومية أم دينية أم مذهبيّة، نجد الأقليّات الأخرى أكثر ميلاً لاعتناق الفكر الثوري بدلاً من الفكر المحافظ. فعلى سبيل المثال كانت الأقليّات الدينية والقومية بالأغلب الأعمّ هي الحامل لفكر التجديد والتنوير في بدايات القرن العشرين في المجتمعات العربية وخاصة في المجتمع السوري، مقابل تماهي السلطة العثمانيّة مع الأكثرية الدينيّة الإسلامية، ولا يقدحُ في صحّة هذا التوصيف الإشكاليّات التي خلّفتها سياسة التتريك في نهاية عصر الإمبراطوريّة العثمانية، لأنها كانت حالة صراع بين قوميّتين كبريين مقابل بقاء الأقليات الأخرى خارج إطار الصراع وفي حالة تضادّ ثقافي مع كليهما.
بينما تنحو هذه الأقليّات باتجاه المحافظة والانكفاء نحو ذواتها ومصالحها الضيّقة، كلمّا كانت السلطة على تضادّ كبير مع هذه الأكثريّة العدديّة ولو شكلاً دون الغوص في عمق المضمون. كمثال على ذلك نجد أن أغلب الأقليّات في المجتمع السوري، قد اتخذت موقف النأي بالنفس عن الحراك الثوري في بدايته، ثم بدأت كأفراد ومؤسسات رسمية ثم كجماعات كبرى، بالاصطفاف وراء النظام الأسدي الذي وقف بكلّ همجيّة في وجه الأغلبية الساحقة من الأكثرية العدديّة، التي عاش على تضادّ وتناقض حادّ معها منذ انقلاب 8 آذار عام 1963.
في دول الاستبداد يكون كلّ شيء محسوباً سلفاً، فثمّة تعليماتٌ تصدر عن أجهزة الرقابة بكلّ أشكالها وتتوزّع على جميع مؤسسات الدولة مهما صغرت أو مهما كان دورها ضئيلاً في الحياة السياسيّة. يجب أن يكون الجميع تحت الرقابة، وأشدّ أنواعها تلك التي تصبح رقابة ذاتيّة يمارسُها الإنسان على ذاته، فيصبح وكأنه يتفوّق على نفسه في قمع إنسانيّته كلّ مرّة يمارس فيها أي نشاط أو عمل، أو حتى عندما يجرّب أن يفكّر أو أن يحلُم.
ألهذا يقتلون الجياد إذن؟ تماماً، إنّه الخوف من الحريّة، تلك الفاكهة الوحشيّة التي ستظهر عُريهم ونقصهم، خواءهم وسقمهم، فراغهم المطلق
أشدّ المندمجين بهذا النوع من الرقابة وأكثرهم حماسة لتطبيقها، هم أولئك الذين ليس لديهم أيّة قيمة مضافة في ذواتهم أو في أسرهم أو في مجتمعاتهم المحيطة، فتجدهم يبدعون ويتفنّنون بحالات الانحطاط الأخلاقي وبالتذلّل لرجال السلطة من أي نوعٍ أو صنف كانوا، فتراهم يتبارزون أيُهم يقدّم أكثر من غيره فروض الولاء والطاعة، وأيُّهم يبتدع بمجالات التذلّل والاستجداء.
 زهير رمضان نقيب الفنّانين السوريين، مثالٌ يُحتذى في السقاطة والوضاعة والانبطاح تحت بساطير العسكر وأحذية رجال الأمن الأكثر سلطة، بل تراه يتفوّق على أسياده عندما يخاطب من يُفترضُ فيهم أن يكونوا زملاءه في مهنة الفنّ، ومن يفترض أنه منتخبٌ من قبلهم ليمثلهم ويدافع عن حقوقهم ومصالحهم، ومثله كلّ رؤساء النقابات المركزيّة وكلّ رؤساء فروعها المحليّة بلا استثناء.
على سبيل المقارنة يمكن للمرء أن يذكر كم هو البونُ شاسعٌ بين موقف نقابة المحامين السوريين أواخر سبعينيّات وأوائل ثمانينيّات القرن الماضي من حافظ الأسد، ومن حملته المسعورة آنذاك على المجتمع عموماً وعلى النقابات خصوصاً إبّان صراعه مع تنظيم الإخوان المسلمين، وبين موقفها الحالي من الثورة على نظام الأسد الابن. ثمّة فارق هائل بين نقيب المحامين الحالي نزار السكيف وبين نقيب المحامين السابق أحمد صباح الركابي، يكاد يكون كالفارق بين الأرض والسماء، وشتّان بين الثرى والثريّا.
وقف المرحوم الركابي بكلّ جرأة بوجه حافظ الأسد، وكان مع زملائه المحامين صخرةً هائلةً للدفاع عن الحقوق والحريّات، حتى اضطرّ حافظ الأسد لحلّ النقابة واعتقال العديد من المحامين والتضييق على البقيّة الباقية ممن عارضوه، ومن ثمّ قام بفرض قانونٍ جديد لتنظيم المهنة ضمِنَ من خلاله سيطرته المتمثلة بحزب البعث، والذي أدخله كعنصر رقابي لا وجود للنقابات بدونه، ومن خلاله فرض أزلامه من البعثيين لاستلام قيادات النقابات، وبالتالي التدجين الكلّي لكامل الحركة النقابيّة في سوريا.
بهذه الطريقة يقتلُ الديكتاتور الأفكار والإبداع، ولأنه لا يستطيع أن يحتمل وجود أفرادٍ أو مجموعات تعارضه أو تظهر شيئاً مخالفاً لطريقة تفكيره، كما لا يمكنه أن يتقبّل أي فكر خارج صندوقه المغلق، فإنّه يصنع من الخوف آلة ذاتيّة الحركة مُستدامة التطوّر باتجاه القمع والقمع الذاتي.
لو نظرنا إلى أي نظام ديكتاتوري في العالم، سنجده مبنيّاً على فكرة مركزيّة واحدة هي الخوف، الخوف من كلّ شيء خارج نطاق الحاكم الفرد المطلق
يصنع هذا النموذج من ذاتِ الأفراد المُستَعبَدين كيانات مستبدّة مختلفة في الحجم والفاعليّة، بدءً من المستخدم في أصغر وحدة إداريّة وانتهاءً بقائد الجيش أو رئيس أكبر جهاز استخبارات في النظام الحاكم.
بتماهيه مع حالة الاستلاب الفكري التي يعيشها، يصنع المُسْتَلبُ كيانه الخاص ضمن قوقعة الديكتاتور التي ارتضاها لنفسه، وكي يرتقي أكثر وأكثر في سلّم التسلسل الوظيفي ضمن هذا النظام، لابدّ له من التفنّن أكثر في استجلاب واستحضار حالة العبوديّة للسلطة المطلقة متمثّلة برمزها الأعلى، الحاكم. من هنا يمكننا أن نفهم شعاراتٍ كتلك التي أطلقها رجال بشار الأسد بكلّ صراحة، من مثل شعار "الأسد أو نحرق البلد" لأنها بكلّ بساطة تعبّر عن ذاتهم المُستلبة التي تماهت مع مرور العبوديّة والزمن بالحاكم المطلق، وباتت جزءً عضويّاً منه، بحيث يكون سقوطه سقوطاً لها أيضاً.
ألهذا يقتلون الجياد إذن؟ تماماً، إنّه الخوف من الحريّة، تلك الفاكهة الوحشيّة التي ستظهر عُريهم ونقصهم، خواءهم وسقمهم، فراغهم المطلق. ينتقل الخوف من كونه حالة فرديّة مَرَضِيّة، ليصبح ظاهرة اجتماعيّة عامّة تتولّد عنها ثقافةٌ كاملةٌ وفكرٌ انهزامي مُغرق بالتخلّف والاستلاب.
كما أنّه لا يوجد أبداً شرفٌ رفيعٌ دون طموحٍ عظيم، فإنّه لا يوجد أبداً إنسانٌ خائفٌ باستطاعته أو بإمكانه عيش الحياة، فما بالكم بصنعها. اجتراحُ المعجزات ليس متوقّعاً من العبيد، فشيمُ هؤلاء الذلّ والتبعيّة لأنّهم محكومون بالخوف أبداً، المعجزات يجترحها السادة الأحرار فقط، فهؤلاء شيمهم العزّ والفخارُ والإبداع، الأحرار لا يعرفون الخوف.