الرئيسة \  واحة اللقاء  \  في معضلة استخدام السلاح الكيميائي في سورية

في معضلة استخدام السلاح الكيميائي في سورية

22.04.2018
عبد النور بن عنتر


العربي الجديد
السبت 21/4/2018
أثارت الضربات العسكرية الثلاثية التي نفذتها قوات أميركية وبريطانية وفرنسية ضد أهداف في الأراضي السورية نقاشات كثيرة، وسعت القوى التي قامت بها والأطراف المساندة لها، غربياً وعربياً، لإضفاء الطابع الأخلاقي عليها مبرّرة إياها باستخدام الجيش النظامي السوري أسلحة محظورة دولياً ضد المدنيين.
تُوظف الحجّة الأخلاقية هنا لخدمة مآرب سياسية، أما القول إن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر ففيه استخفاف بعقول الناس، فكأن صاحبه يقول لنظام الأسد اقتل المدنيين كما يحلو لك، وبالأعداد التي تناسبك، وأنا سأكتفي بالشجب، ما دام الأمر يبقى ضمن دائرة المعقول العسكري التقليدي، ولا يتعداها إلى دائرة المحظور (الكيميائي) العسكري. وكأن التقتيل بوسائل تقليدية أهون، ولو كان عدد الضحايا أضخم من التقتيل بوسائل غير محظورة، ولو كان عدد الضحايا معدوداً للغاية. فما يُزعِج ليس عدد الضحايا، وإنما الطريقة التي لقيت بها حتفها. ولمحاولة فهم بعض جوانب معضلة (استخدام) السلاح الكيميائي في سورية، تركز هذه السطور على ثلاثة إشكالات أساسية.
الأول، اللايقين. تقول القوى الغربية، لاسيما أميركا وبريطانيا وفرنسا، وحلفاؤها من العرب وإسرائيل إن النظام السوري هو من استخدمها. بينما يتهم الأخير، وحليفاه الروسي والإيراني، فصائل من المعارضة السورية المسلحة باستعمالها. من يقول الحقيقة؟ من يمكن له أن يأمن القوى الغربية الثلاث ذات السجل الثري في استخدام الأسلحة المحظورة دولياً إبّان الحرب الباردة وبعدها، فأميركا وبريطانيا استخدمتا مثلاً اليورانيوم المنضب في العراق في 1991، وضد صربيا في 1999 وأميركا استعملت اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض في العراق في 2003 و2004 لا سيما في الفلوجة. كما استخدمت هذه القوى أسلحة محظورة في أفغانستان. ومن يأمن السعودية التي تستخدم أسلحة محظورة (قنابل عنقودية) في اليمن، أو إسرائيل التي استعملت هي الأخرى أسلحة محظورة (الفوسفور الأبيض والقنابل الانشطارية
"ليست معركة الأدلة أمراً هيّناً، عكس ما توحي به الخطابات الرسمية للدول المعادية للنظام السوري ووسائل الإعلام" وغيرهما) ضد المدنيين الفلسطينيين؛ فالمُتَهِم ليس إذاً بريئاً هو الآخر. أما المُتهَم، أي النظام السوري، فإن ما يفرقه في حال ثبوت التهمة بشكل لا ريب فيه، هو أنه استخدمها ضد أهله، بينما القوى الأولى استخدمتها ضد مواطني الغير. لكن يبقى أن الأمر يتعلق بأسلحة محظورة، مهما كانت هوية المستخدِم وهوية الضحية. وحالة بشار الأسد ليست استثنائية في المنطقة، فقد قصف صدام حسين مواطنيه الأكراد في حلبجة بالسلاح الكيميائي في 1988.
الإشكال الثاني، طبيعة مسرح الجريمة. من جهةٍ، يعمل الجاني دائماً على تلطيخ مسرح الجريمة وتلويثه لمحو الآثار الكيميائية، ما يجعل من الصعوبة بمكان فصله عن بيئته المحيطة به، والحصول على عينة تحليلية ذات مصداقية عالية. وكلما تأخرت التحرّيات تلوث مسرح الجريمة، وصار غير قابل للفحص. وعموماً، تراهن الأطراف التي تستخدم هذه الأسلحة على عامل الوقت، لتلويث مسرح الجريمة، وجعله غير قابل للاستغلال. فمثلاً يُتهم النظام السوري وروسيا بتعطيل الزيارة التفتيشية لوفد دولي لمواقع مشتبهه بها. بينما تُفند سورية وروسيا ذلك، وتقول الأولى إن القصف الغربي أخيراً جاء لتدمير المواقع المستهدفة لإجهاض عمل المفتشين الدوليين، حتى يبقى الشك قائماً.. لإثبات استخدام الأسلحة الكيميائية، يجب الإبقاء على نقاء مسرح الجريمة، لأخذ عيناتٍ منه، بما فيها التربة، وفي حال تعذّر فحص مسرح الجريمة، لأنه تم تنظيفه وتطهيره، فإن الحل يبقى في فحص الضحايا الفوري، بيد أن ظروف الحرب تحول، في غالب الأحيان، دون ذلك.
من جهة ثانية، يُشتبه في أن الضربات العسكرية لمواقع محددة تصنع و/أو تخزّن أسلحة كيميائية تدمر الأخيرة ومعها الأدلة أيضاً. فالأسلحة الكيميائية غير مستقرة وحسّاسة جداً للحرارة، وبالتالي فهي تُدمر وتختفي تماماً مع حرارة انفجار القنابل القوية التي تقصف بها مواقعها. فالقصف يدمر الأدلة التي قد تؤكد وجود أسلحة كيميائية في تلك المواقع. ومن هنا، تحديد الأخيرة مهم لاستهدافها، لكن ذلك لا يلوث فقط مسرح الجريمة، بل يدمره على آخره.
الثالث، التفاهمات السياسية التي حجب الجدل القائم بشأن استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي، واتخاذ القوى الغربية ذلك ذريعة لقصف سورية الأسبوع الماضي الرؤية عنها.
بغض النظر عن صحة حجج كل طرفٍ من عدمها، هناك تفاهمات مكيافيلية. تقول القوى الغربية إن استخدام النظام الأسلحة الكيميائية خط أحمر. أما روسيا التي تفند كل اتهام بهذا الخصوص فتعتبر أن المساس بقدرات الجيش السوري التقليدية خط أحمر. ومن غير المستبعد أن يكون انتشار قوات روسية في مواقع عسكرية عديدة تابعة له وسيلةً لحماية هذه المواقع من ضربات صاروخية غربية. والجميع رابحٌ في هذه المعادلة، فالقوى الغربية يمكنها أن تقول إنها تدين جرائم النظام، وإنها حازمة في موقفها، مستدلة بقصفها ما تعتبرها منشآت كيميائية لتظهر أمام الرأي العام المحلي، وحتى الدولي، بمظهر المدافع عن القانون الدولي، الذي تنتهكه باستمرار في المنطقة ذاتها أي الشرق الأوسط، آملة في حجب الرؤية عن استخدامها وحلفائها، لاسيما إسرائيل والسعودية، أسلحة محظورة. أما روسيا فلا تعترض عملياً ضد قصف منشآت كيميائية، حتى لا تظهر بمظهر القوة التي تحمي أسلحة محظورة واستعمالها، لكنها في الوقت نفسه تحمي القدرات التقليدية للجيش السوري. ويقبل النظام السوري التضحية بما تبقى من برنامجه الكيميائي، أو ما يعتبر كذلك، من أجل الحفاظ على قدراته التقليدية التي مكّنته من استعادة المبادرة العسكرية بفضل التدخل الروسي المباشر، ومواصلة عملياته ضد المعارضة المسلحة وضد المدنيين. ومن ثم، لا يغيّر القصف الصاروخي الغربي شيئاً ميدانياً، وأن سورية مسرح لصراع النفوذ والمصالح بين قوى كبرى، تعتمد على نقاط ارتكاز إقليمية (السعودية والإمارات وغيرهما بالنسبة للقوى الغربية، وإيران بالنسبة لروسيا).
وقد بلغت هذه الحسابات أوجها خلال الأيام بل الساعات القليلة التي سبقت القصف الثلاثي، مع التنسيق المباشر بين القوى الغربية المعنية وروسيا، بشأن الأهداف المقصودة، تفادياً لأي احتكاك في الجو بين القوات الغربية والروسية، ولأي مساسٍ بالقوات الروسية المنتشرة في بعض المواقع العسكرية التابعة للجيش السوري، فضلاً عن وجودها في القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في اللاذقية. مجرد التنسيق هذا، وقد كان ضرورياً لتجنب تصعيد
"لا يمكن قطع الشك باليقين، لا بالاعتماد على رأي القوى المعادية للنظام السوري، ولا على رأي القوى المساندة له" عسكري مع روسيا، يعني أن القصف سيكون محدوداً، وأن مغازيه سياسية وليست عسكرية، وأنه تم التفاوض مع روسيا بشأن أهدافه.. سمح هذا كله بإخلاء المواقع المستهدفة، ليس فقط من العاملين فيها، بل وربما من مخزون السلاح، التقليدي أو غير التقليدي الذي كان فيها. فمحدودية الضربات تم التفاوض، بل "الاتفاق"، عليها بين روسيا والقوى الغربية المتدخلة، ما أفرغها من محتواها، عكس ما يتغنى به الخطاب الرسمي في دول غربية وعربية. ليس تجنب المواجهة مع روسيا المانع الوحيد الذي حال دون توسيع هذه الضربات وتمديدها، فهناك عاملٌ حاسمٌ آخر تتفق عليه القوى الغربية وبعض الدول الإقليمية، وهو عدم ضرب قدرات الجيش السوري، حتى لا تستفحل الجماعات الجهادية مجدّداً، ويتصلب عودها في سورية.
يلاحظ هنا أن الانطلاق من حادثة معينة، القصف بسلاح كيميائي في سورية، بغض النظر عن صحته من عدمه، وعن الطرف الذي استعمله، يقودنا، في النهاية، إلى تحليلٍ في غاية من التعقيد، تظهر فيه مدى غلبة المصالح على كل الاعتبارات الأخرى مجتمعة، ومدى تلاعب الأطراف المنخرطة بالوقائع. في هذه الحالة، القاعدة الواجب الالتزام بها نوع من الشك المنهجي (الملاحظة لا تعكس بالضرورة العالم الحقيقي، خصوصاً أن الواقع مبني اجتماعياً) والحذر الشديد من التحليلات والأجوبة الجاهزة ومشكَلة الأمور. فحادثة "أسلحة الاختفاء الشامل"، وهي العبارة التي استخدمتها مجلة تايم الأميركية تعليقاً على عدم عثور الجيش الأميركي على أسلحة الدمار الشامل في العراق التي اتخذت ذريعة لغزوه، فيها عبرة. لكن بعض الدول غير مكترثة بذلك، فأميركا وفرنسا تقولان إن في حوزتهما أدلة على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية، من دون الإفصاح عنها.
ليست معركة الأدلة أمراً هيّناً، عكس ما توحي به الخطابات الرسمية للدول المعادية للنظام السوري ووسائل الإعلام. ولا مبالغة في القول إن روسيا وإيران هما وحدهما على درايةٍ بما يحدث فعلاً، بحكم تحالفهما مع نظام الأسد. ولكن بسبب هذا التحالف، فإن كلمتهما محل شك وتشكيك، مثل كلمة القوى الغربية وحلفائها العرب وإسرائيل، بسبب عدائها للنظام السوري (وسجلهم أيضاً في اللجوء إلى الأسلحة المحظورة). فلا يمكن قطع الشك باليقين، لا بالاعتماد على رأي القوى المعادية للنظام السوري، ولا على رأي القوى المساندة له.