الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قعقعة السيوف في سوريا

قعقعة السيوف في سوريا

13.05.2018
د.يحيى مصطفى كامل



القدس العربي
السبت 12/5/2018
شغل تبادلٌ للقصف والتناوش بين الكيان الصهيوني والقوات الإيرانية المتواجدة في سوريا طيلة الأيام القليلة الماضية الفضاء الإعلامي بكل وسائله وانحيازاته، وأثار ما يمكن لنا أن نتوقعه من ردة فعلٍ بين المهتمين بالشأن العام من الجمهور، ما بين متشفٍ في النظام السوري ناقمٍ على الحضور الإيراني، ومن يرى تلك الزخة من الصواريخ الإيرانية وطائرةً بدون طيار بداية حرب تحريرٍ، وكلاهما يتخوف أو يترقب موقعةً قد تجر المنطقة مزيداً نحو الحرب، بل الصدام بين القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا.
منطلقاً من انحيازاتي السياسية والفكرية، أظنني لست في حاجةٍ إلى التأكيد على مدى غضبي وشجبي لتعديات الكيان الصهيوني، بل رفضي لوجوده من الأساس، إلا أنني ألمح مشكلةً كبيرة في ما ينزلق إليه البعض (مخلصاً حريصاً على شعوبنا في المجمل) من الحماس لنشوب تلك الحرب وما قد تؤدي إليه، متصورين، أو واهمين للدقة، أنها ستستعيد الأرض من البحر إلى النهر، أرى الحماس وأخشاه.
وأصل العلة في نظري (كما كانت دائماً) تكمن في قراءةٍ خاطئة للمشهد، يقترن به إسقاطٌ دائمٌ للتصورات المسبقة والأماني على ذلك الواقع المركب، والرث في الحسابات الختامية.
فالكثيرون ينسون السمة الأساسية لهذه المرحلة في بلداننا: إنها مرحلة انتصار أوعلو مد الثورة المضادة، حيث انكفأت وتضعضعت محاولات التغيير الثورية، وفي هذا السياق ينسون بالأخص أن بشاراً ونظامه كرسا أسلوب التعامل مع الحراكات الشعبية: الرد عليها وعلى مطالبها بكل ما لدى النظام من أدوات العنف والقمع والتنكيل، وسحقها تماماً عن طريق تمزيق البلد مناطقياً وطائفياً، بهدف استمرار النظام ومنتفعيه.
أيضاً هي مرحلة تراجع القوة الأمريكية على المستوى العالمي عن كونها القوة الوحيدة؛ أجل مازالت الأقوى لكنها ليست الوحيدة، وترامب الموجود الآن على كرسي الرئاسة، على رعونته وشعبويته وربما حماقته وأسلوبه غير التقليدي، يمثل بقدرٍ كبير ردة الفعل على إدراك هذا التراجع ورفضه المتخبط العفوي أحياناً؛ وهو إدراكٌ لا يقتصر على ذلك ويناوءه وإنما يمتد ليشمل الإقرار بأن النظام الإيراني قد تمكن من التمدد في المنطقة، محيطاً بممالك ومشايخ النفط، مستفيداً من كل أخطاء الحسابات والانسحابات الأمريكية وانهيار منظومة الأمن العربي، أو بالأحرى بما كان باقياً من أطلالها.
وهو بالمناسبة يحاكي على النطاق الإقليمي ما فعله بوتين على نطاقٍ أوسع، إذ أحكم قبضته على مناطق نفوذ روسيا التقليدية.
لا شك بأن الوضع السوري معقد، اختلطت فيه كل الأوراق، والحلفاء في البحرين مثلاً يختلفون في سوريا، وغير أنها أصبحت مصيدة ذباب لكل العناصر التي لا يرغب بها أحد في باحته الخلفية، فإنها صارت رقعةً لإعادة ترسيم النفوذ ونقاط التماس وفقاً لأوزان اللاعبين. فكل الكبار في سوريا، وأحدٌ لا يعترض على وجود الآخر ولا يصرح أو حتى يلمح بمحاولة إزاحته تماماً، وعلى سبيل المثال فأمريكا لم تعترض على الوجود القديم لروسيا في طرطوس، بل تنسق معها لدى القصف لإثبات الوجود وحفظ ماء الوجه، ومن يدري فقد يكون ذلك مواراةً لمشاكل داخلية أو فضائح جنسية.
والحاصل أن ترامب يمثل ذلك الجناح في السياسة الأمريكية، الذي يرى بحتمية تحجيم إيران ودفعها إلى الوراء أقرب ما يكون إلى حدودها (إن لم يكن داخلها) وتغيير النظام إذا أمكن، وهو بذلك يلاقي هوساً إسرائيلياً ورعباً خليجياً بإيران وتمدد نفوذها. هي محاولاتٌ لتحجيم وتقويض الوجود الإيراني والوصول إلى توازن.
ربما كان من المفيد تذكير البعض بأن الحرب الباردة قد انتهت وأن الصراع ليس أيديولوجياً، بل هو مصالح بين قوى رأسمالية تتشابه في الشراسة والتحلل الفعلي من أي مبادئ (هذا مع الافتراض بأن الاتحاد السوفييتي كانت لديه أي مبادئ) كما يتعين علينا دائماً أن نذكر أن كل هذه الصراعات تُخاض في ليل الثورة المضادة، وأن النظام الإيراني ذاك دعم نظاماً منحطاً يذبح شعبه ويشرده ويبيده. لا يعني هذا أن الخصوم شرفاء أو تحرريون، بل يعني أن ذلك صراعٌ لا مجد فيه، ولن يؤدي إلى أي تحرر، وما الخيار سوى بين السيئ والأسوأ، المنحط والأكثر انحطاطاً، وكل السيناريوهات كئيبة وبنت الهزيمة في نهاية المطاف.
القضية هنا ليست فلسطين ولا تحريرها، وأخشى أنها لم تكن يوماً، منذ ما يقارب الأربعة عقودٍ غدت فيها مسوغاً للشرعية، ولم تعدُ أن تكون ورقةً لكسب الشعبية والنفوذ. الصراع أردأ من هذا بكثير، صراع مصالح ونفوذ في منطقةٍ معقدة في بلدٍ شديد التعقيد يحرص نظامه على تغذية ذلك التفتت والتعقيد للبقاء، ولو على أشلاء البلد، كما أن القوى الكبرى لن تجر إلى صدام في حروب الإقليم، ولعله من المفيد هنا التذكر باصطحاب بوتين (داعم بشار الأكبر) لنتنياهو كضيف شرف في عرضٍ عسكري في موسكو.
لا شك بأن مآل الثورات محزنٌ مقبضٌ، كما هو محزنٌ ما أراه من أشخاص مخلصين ما زالوا لم يتخلصوا من أوهامهم في طبيعة الأنظمة في منطقتنا، وطبيعة الصراعات فلا يكون منهم لدى كل قعقعة سوى إسقاط كل مخزونهم في جعبتهم من الإحباطات والهزائم القومية، وكل آمالهم بالتحرر مع فائض الرطانة المكدسة والحاضرة للاستدعاء من شعارات القومية العربية وإسقاطها على أنظمة تعادي من الأساس الشعوب وتحررها، بالإضافة إلى كونها أجرمت في حقها ربما كما لم يفعل الاستعمار.
ليست هذه حرب تحرير، وفلسطين ليست في قلب هذا الصراع للأسف وليست "بوصلته" الهادية بأي شكلٍ من الأشكال، وأي مكاسب ستتحقق ستكون عرضية تماما (هذا بفرض تحققها) وفي زمنٍ تحتفل فيه إسرائيل بذكرى النكبة على ضفاف النيل في فندقٍ كثيراً ما استضاف فيه عبد الناصر قمماً عربية، ليس سوى محض هراء أن نتصور أن أياً من الأطراف يعير هذا الملف المحوري اهتماماً أو يؤمن به أو يتخذه "بوصلة".
لم يأت وقتنا بعد فأفيقوا تعرفوا عدوكم وتهتدوا إلى طريقم يرحمكم الله.
كاتب مصري