الرئيسة \  واحة اللقاء  \  توحش الأنظمة وتوتر الشعوب العربية

توحش الأنظمة وتوتر الشعوب العربية

11.09.2018
د. سعيد الشهابي


القدس العربي
الاثنين 10/9/2018
القسوة في معاملة المعارضين في اي بلد يؤكد وجود نظام سياسي مضطرب يفتقد الشعور بالامن ويخشى من كل صوت يرتفع ضده. وفي السنوات الاخيرة تعمقت ظاهرة التوحش السلطوي في بعض البلدان العربية نتيجة شعورها بان وجودها اصبح مهددا بسبب وعي شعوبها الباحثة عن الحرية والكرامة، وشعور الانظمة بان الحرية ستؤدي بدورها لاضعاف النظام السياسي وربما سقوطه. هذه الظاهرة تمثل حلقة مفرغة تدور الحكومات والشعوب فيها بشكل متواصل ويأمل كلا الطرفين ان يصاب الآخر بالانهاك فيسقط. ومن مظاهر القسوة ردود الفعل المتشددة من قبل اجهزة الامن والقضاء ازاء النشطاء الذين يرون فيهم تهديدا لبقاء نظام الحكم. فالدعوة للاصلاح والتغيير وتطوير انظمة الحكم اصبحت تشكل، في نظر بعض حكومات الخليج، تحديا لنمط الحكم الذي يرفض تطوير سياساته وآلياته ليواكب مستلزمات الدولة الحديثة في القرن الحادي والعشرين. وطوال السنوات السبع الاخيرة تعرض الكثير من النشطاء في دول كالامارات العربية والسعودية والبحرين لأساليب قمع قاسية بسبب اصرارهم على المطالبة باصلاح انظمة الحكم في بلدانها. هذه الاصوات ارتفعت بعد ان اصبح متعذرا الاعتماد على دوافع ذاتية لدى هذه الانظمة للاقدام على الاصلاح الذي يفتح الباب لمشاركة المواطنين في صنع القرار وادارة البلاد.
تعتبر المملكة العربية السعودية الدولة الكبرى بمجلس التعاون الخليجي الذي مضى على قيامه 27 عاما ولكنه بقي جامدا وعاجزا عن التطور. وتشير تطورات السنوات الاخيرة الى وجود تصدعات داخلية قد تؤدي لانحلاله واستبداله بتحالفات اضيق، على غرار ما سمي "مجلس التعاون الاستراتيجي السعودي ـ الاماراتي" الذي اعلن عنه قبل شهرين. الامر المؤكد ان الرياض تعيش ازمات متداخلة بعضها مرتبط بالعلاقات الداخلية والتوازنات في البيت السعودي نفسه خصوصا بعد استيلاء ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان، على السلطة وتجاوزه اعراف الاستخلاف المتبعة منذ رحيل مؤسس الدولة السعودية قبل ستين عاما. البعض الآخر يتصل بتوسع الحراك الشعبي المطالب بالاصلاح السياسي والحقوقي. وبدلا من الاستماع لمطالب المعارضين ومناقشتها بهدوء من اجل السيطرة على الوضع، توسعت دائرة القمع التي استهدفت كافة المكونات في الكيان السعودي على تعدد اقاليمهم ومذاهبهم والدينية ورؤاهم السياسية. وبعد ان تم الاجهاز على التيارات الليبرالية واعتقل العديد من رموزهم مثل الدكتور عبد الله الحامد والمحامي ابو الخير والمدون رائف بدوي، جاء دور الاسلاميين من المحسوبين على تيار "الاخوان المسلمون". وقد شمل الاستهداف في العامين الاخيرين كلا من الشيخ عائض القرني وسلمان العودة وآخرين.
وفي الاسبوع الماضي طالب المدعي العام بانزال عقوبة القتل تعزيرا بالشيخ سلمان العودة، وقبله بالشيخ عائض القرني والدكتور علي العمري بتهم ملفقة. وسبق ذلك مطالبة الادعاء باعدام السيدة اسراء الغمغام بسبب نشاطها الحقوقي واستخدامها وسائل التواصل الاجتماعي لبث الاخبار حول الاوضاع الأمنية في البلاد. وقد احتجت المنظمات الدولية على ذلك المنحى من التعاطي مع المواطنين الذين يمارسون حقوقهم الطبيعية في التعبير عن الرأي والتجمع والمطالبة بالاصلاح السياسي. وحين يكون الخيار الاول امام اي نظام سياسي السعي لقتل المعارضين الذين لم يمارسوا اعمال عنف او إرهاب، فان ذلك يعني تردي الاوضاع بمستويات غير مسبوقة. فالعنف انما يولد العنف وسفك الدماء يؤدي لانهار من الدماء التي لا تتوقف. فهل هذا ما تتضمنه رؤية 2030 التي اطلقها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والتي انفقت الاموال لترويجها كبديل يستخدمه الغربيون مبررا لعدم المطالبة بالاصلاح السياسي الجاد والتوقف عن استهداف النشطاء واعدام الابرياء؟ ان طلب الاعدام بحق نشطاء سياسيين لا يمارسون العنف يمثل قسوة تساهم في المزيد من الاستقطاب والاضطراب، ولا يمكن ان يكمم افواه الاصلاحيين يوما. فما اكثر الذين اعدموا خلال التاريخ البشري بسبب آرائهم ومواقفهم، فتحولت دماؤهم الى طوفان يعصف بانظمة التوحش والغلظة ويسقطها.
وما اكثر الذين سيقوا الى المحاكم العسكرية في مصر بعد الانقلاب العسكري في 2013 الذي اسقط الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وجاء بالحاكم العسكري الحالي، واستهدف جماعة "الاخوان المسلمون" بشكل خاص. وفي شهر تموز/يوليو الماضي قررت محكمة مصرية إحالة أوراق 75 متهمًا إلى المفتي لـ "أخذ رأيه الشرعي في إعدامهم" في القضية المعروفة إعلاميًا بـ "فض اعتصام رابعة" التي تعود لعام 2013. ورأي المفتي استشاري وليس اجباريا. ومن بين المتهمين البارزين المحالين للمفتي: عصام العريان وعبد الرحمن البر ومحمد البلتاجي وعاصم عبد الماجد وصفوت حجازي وطارق الزمر ووجدي غنيم.
الجدير بالذكر ان المجزرة المذكورة قتل فيها 632 شخصا حسب الاحصاءات الرسمية، من بينهم 8 من الشرطة. اي ان اغلب الضحايا هم من افراد الجماعة. مع ذلك لا يخجل الحكم العسكري الذي اصدر الاوامر بالاعتداء على المسجد المذكور من اصدار احكام الاعدام بحق الضحايا واستثناء القتلة الذين ارتكبوا اكبر مجزرة في التاريخ المصري المعاصر. هذا التوحش له رسالة واحدة: ان قوى الثورة المضادة لا تعرف حدودا اذا قررت البطش، ولا تحترم روابط المواطنة المشتركة اوالانتماء للدين الواحد او القومية الواحدة او الانسانية الواحدة. هذا يعني ان مرتكبي جرائم القتل قد انسلخوا من كافة مستلزمات العلاقات التي تقوم على روابط الوطن والدين والانسانية. فهل يكون غريبا، في ظل هذا التوحش، ان تخسر مصر موقعها الريادي في المنطقة وتسلم مقاليدها لزعامات من الرياض وابوظبي لا تملك سوى المال النفطي الذي لن يدوم؟
ان هذا المنحى في سياسات بعض الانظمة العربية تجاه مواطنيها لا يمكن ان يؤدي لامن المنطقة واستقرارها. فالأمن لا يتوفر الا برضا عموم المواطنين، ولا تحققه التدخلات الخارجية والسماح ببناء القواعد الاجنبية. فلماذا هذا التوحش في المعاملة؟ لماذا يتغول البعض حين يمسك بزمام السلطة التي يفترض ان تكون مجالا لخدمة البشر وليس لاستضعافهم او استعبادهم؟ الامر المؤكد ان الظلم انما هو احد تجليات الضعف وليس القوة. قال الامام علي: "انما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج الى الظلم الضعيف".
النظام القوي هو الذي يشعر بالاستقرار الناجم عن قوة الدولة التي يحكمها من جهة ورضا العامة عن حكمه من جهة اخرى. اما ظاهرة التوحش في معاملة المعارضين والمناوئين والمختلفين في الرأي والموقف فانما هي احد تجليات الاستبداد وعدم شعور الحاكم بالامن وبلوغ العلاقة بين الطرفين الى مستوى القطيعة التي تلغي اية فرصة لعودة المياه الى مجاريها. ان حالة التوحش لدى بعض الحكام ناجمة عن الشعور بالضعف تارة وفقدان الشرعية ثانية والرغبة في الانتقام ثالثة، وعدم احترام القانون رابعة. وما لم تتغير هذه الحالة فلن تستقر الاوطان ولن يهنأ المواطنون بالأمن، وسيبقى الحكام في توتر مستمر. الرأفة عنوان الحكم والقسوة طريق للفناء والسقوط.